الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول عناية المحدثين بالسند والمتن معا
دراسة سند الحديث مهمة جدا لتبيين حاله صحة وضعفا، فهي الوسيلة الأولى التي عن طريقها يتم الحكم على أي حديث ما بأنه صحيح أو ضعيف.
ولا غرو فالإِسناد من أبرز خصائص هذه الأمة التي لم يؤتها أحد من الأم قبلها
(1)
، وهو من الدين بموقع عظيم، قال عبد الله بن المبارك: الإِسناد من الدين، ولولا الإِسناد لقال من شاء: ما شاء.
وقال أيضا: بيننا وبين القوم القوائم
(2)
. يعني: الإِسناد.
وقال الإِمام مالك في تفسير قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} الآية
(3)
: هو قول الرجل: حدثني أبي عن جدي
(4)
.
وكلام العلماء في الاهتمام بالسند كثير لا يحصره مثل هذه العجالة.
ومع ذلك كله قرر العلماء أن هذه الدراسة في السند لا تكفي وحدها للحكم النهائي على الحديث، إذ لا يلزم من ضعف السند ضعف المتن، فقد يضعف السند ويصح المتن لوروده من طريق آخر، أو طرق أخرى.
(1)
انظر: منهاج السنة لابن تيمية 4/ 11، شرح شرح النخبة ص 194.
(2)
مقدمة صحيح مسلم 1/ 87 - 88 بشرح النووي، علل الترمذي في آخر سننه 9/ 438، الجرح والتعديل 1/ 1/ 16.
(3)
الآية 44 من سورة الزخرف.
(4)
تفسير القرطبي 16/ 93.
ومثال ذلك: إذا وقف شخص على حديث جابر بن عبد الله الذي رواه ابن ماجة: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يطف هو وأصحابه لعمرتهم وحجتهم حين قدموا إلا طوافا واحدًا"
(1)
.
فإذا درس إسناد هذا الحديث وجد فيه ليث بن أبي سليم
(2)
، وهو ضعيف، فإنه لا يسوغ له الحكم على هذا الحديث بأنه ضعيف، ويقصد متنه، بل يقول: ضعيف بهذا الإِسناد، وإلا فمتنه صحيح عن جابر من غير هذه الطريق بطرق صحيحة، رواها مسلم في صحيحه وأبو داود والنسائي وغيرهم
(3)
.
كما أن الواجب على الباحا إذا وجد حديثا بلفظ ما بسند ضعيف، أو نص على تضعيفه، فليقل بعبارة دقيقة، وليتحاش المجازفة في الحكم، كأن يقول: ضعيف بهذا اللفظ، إذ المجازفة في الألفاظ تنافي ما عليه المحدثون من دقة في التعبير.
ومثال ذلك حديث: "إذا حضر العَشاء والعِشاء -بكسر العين وفتحها - فابدأوا بالعَشاء - بالفتح-"
(4)
.
فالحديث بهذا اللفظ لا أصل له، لكنه صحيح متفق عليه بلفظ: "إِذا
(1)
سنن ابن ماجة رقم 2972.
(2)
هو: ليث بن أبي سليم الكوفي الليثي، أحد العلماء، ضعفه يحيى والنسائي، وقال أحمد: مضطرب الحديث، توفى سنة ثلاث وأربعين ومائة.
انظر: الضعفاء للنسائي ص 90، ميزان الاعتدال للذهبي 3/ 420 - 423.
(3)
انظر: صحيح مسلم 8/ 162 مع النووي، وأبا داود رقم 1895، والنسائي 5/ 179.
(4)
انظر: فتح الباري 2/ 162، تذكرة الموضوعات ص 142: المقاصد الحسنة ص 38.
وضع العشاء وأقيمت الصلاة فابدأوا بالعشاء"
(1)
.
وإذا عرفنا قيمة السند عند المحدثين، فان للمتن قيمة لا تنقص عن قيمة السند، فكما يحكم بضعف الحديث لضعف سنده لوجود انقطاع فيه أو كذب أو فسق أو بدعة في أحد رواته أو غيرها، فإنه يحكم بضعف الحديث أو وضعه لركاكة في لفظه وفساد معناه، أو مخالفته للدليل القطعي أو مخالفته لحقائق التاريخ المعروفة في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، أو غير ذلك من العلامات التي جعلها العلماء علامات في متن الحديث للدلالة على وضعه أو ضعفه
(2)
.
وكما يحكم بضعف الحديث لوجود علة أو شذوذ أو إدراج أو قلب أو اضطراب أو تصحيف أو تحريف في سنده، فكذلك يحكم بضعفه لوجود هذه الأشياء في متنه كما تقدم.
ولم يكتف المحدثون بما ذكر، بل جعلوا للذوق الفني مجالا في نقد الأحاديث وردها أو قبولها، فكثيرًا ما يقولون: هذا الحديث عليه ظلمة، أو متنه مظلم، أو ينكره القلب، أو لا تطمئن إليه النفس، وليس ذلك بعجيب، فقد قال الربيع بن خثيم
(3)
: ان للحديث ضوءًا كضوء النهار
(1)
رواه البخاري 9/ 584 مع الفتح، ومسلم 5/ 45 مع النووي.
(2)
انظر: ص 140، 145 من هذه الرسالة.
(3)
هو: الربيع بن خثيم بن عائذ، الإمام القدوة العابد، أبو يزيد الكوفي، أحد الأعلام، أدرك زمن النبي صلى الله عليه وسلم وأرسل عنه، قال له ابن مسعود: يا أبا يزيد لو رآك رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحبك، وما رأيتك إلا ذكرت المخبتين، وقال ابن شاهين: كان من معادن الصدق، ومناقبه كثيرة جدا، توفي قبل سنة خمس وستين.
انظر: الثقات لابن شاهين ص 130، سير أعلام النبلاء 4/ 258 - 262.
تعرفه، وظلمة كظلمة الليل تنكره
(1)
.
وقال ابن كثير: من الأحاديث المروية ما عليه أنوار النبوة، ومنها ما وقع فيه تغيير لفظ، أو زيادة باطلة، أو مجازفة أو نحو ذلك يدركها البصير من أهل هذه الصناعة
(2)
.
كل ما ذكر وغيره يبين غاية البيان أن المحدثين مع عنايتهم بالسند واهتمامهم به لم يقصروا جهدهم عليه، أو يوجهوا جل عنايتهم إليه دون المتن، بل جعلوا نقدهم منصبا على السند والمتن على السواء.
ومع هذا الاعتناء الشديد بالمتن نجد بعض أعداء الإِسلام يحاول التشكيك في السنة النبوية، مثل: المستشرق غاستون ويت الذي يقول: وقد درس رجال الحديث السنة بإتقان، إلا أن تلك الدراسة كانت موجهة إلى السند ومعرفة الرجال والتقائهم وسماع بعضهم من بعض .. إلى أن قال: لقد نقل لنا الرواة حديث الرسول مشافهة ثم جمعه الحفاظ ودونوه، إلا أن هؤلاء لم ينقدوا المتن، ولذلك لسنا متأكدين من أن الحديث قد وصلنا كما هو عن رسول الله من غير أن يضيف إليه الرواة شيئا عن حسن نية في أثناء روايتهم للحديث
(3)
.
وليس غريبا أن يصدر هذا من عدو يريد التشكيك في ديننا، والدعوة إلى دينه، وإخراج المسلمين عن دينهم، وانسلاخهم عن عقيدتهم، وطرحهم لسنة نبيهم، لكن الغريب والمؤسف أن يصدر هذا ممن ينتسب
(1)
تدريب الراوي ص 179.
(2)
اختصار علوم الحديث لابن كثير ص 53.
(3)
انظر: السنة قبل التدوين للدكتور محمد عجاج الخطيب ص 254 نقلا عن التاريخ العام للديانات "الإسلام" ص 366.
إلى الإِسلام مثل: أحمد أمين
(1)
الذي يقول في كتابه "فجر الإِسلام": ولقد وضع العلماء للجرح والتعديل قواعد ليس هنا محل ذكرها، ولكنهم -والحق يقال- عنوا بنقد الإسناد أكثر مما عنوا بنقد المتن، فقل أن تظفر بنقد من ناحية أن ما نسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم لا يتفق والظروف التي قيلت فيه، أو أن الحوادث التاريخية الثابتة تناقضه، أو أن عبارة الحديث نوع من التعبير الفلسفي يخالف المألوف في تعبير النبي، أو أن الحديث أشبه في شروطه وقيوده بمتون الفقه، وهكذا. ولم نظفر منهم في هذا الباب بعشر معشار ما عنوا به من جرح الرجال وتعديلهم حتى نرى البخاري نفسه على جليل قدره ودقيق بحثه يثبت أحاديث دلت الحوادث الزمنية والمشاهدة التجريبية على أنها غير صحيحة لاقتصاره على نقد الرجال، كحديث:"لا يبقى على ظهر الأرض بعد مائة سنة نفس منفوسة". حديث: "من اصطبح كل يوم سبع تمرات من عجوة لم يضره سم ولا سحر ذلك اليوم إِلى الليل"
(2)
.
وقال أيضا كلاما نحو هذا في كتابه "ضحى الإِسلام" ومثل له بحديث: "الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين، والعجوة من الجنة، وهي شفاء من السم". ثم قال: فهل اتجهوا في نقد الحديث إلى امتحان
(1)
هو: أحمد أمين عضو المجامع اللغوية بالقاهرة ودمشق وبغداد، تولى القضاء بمصر، ودرس بكلية الآداب بجامعة القاهرة، ثم انتخب عميدا لها، ثم شغل منصب مدير الإدارة الثقافية بالجامعة العربية.
من مؤلفاته: فجر الإسلام، ضحى الإسلام، ظهر الإسلام، فيض الخاطر، وغيرها، توفى سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة وألف.
انظر: معجم المؤلفين 1/ 168.
(2)
فجر الإسلام لأحمد أمين ص 217 - 218.