الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَا يَجِبُ قَصْدُهُ بِالشَّرْعِ، فَلَمْ يَتَعَيَّنْ بِالنَّذْرِ كَسَائِرِ الْمَسَاجِدِ (1) وَقَالُوا: إِنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ النَّذْرِ هُوَ التَّقَرُّبُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَلَا يَدْخُل فِيهِ إِلَاّ مَا كَانَ قُرْبَةً، وَمَوْضِعُ الاِعْتِكَافِ لَيْسَ قُرْبَةً؛ لأَِنَّهُ مَوْضِعٌ تُؤَدَّى فِيهِ الْقُرْبَةُ، وَلِهَذَا فَلَا يَدْخُل الْمَكَانُ الْمُعَيَّنُ تَحْتَ النَّذْرِ، وَلَا يَتَقَيَّدُ بِهِ النَّاذِرُ، فَلَا فَائِدَةَ فِي ذِكْرِهِ فِي النَّذْرِ (2) .
وَأَضَافُوا: إِنَّ النَّذْرَ مُوجِبٌ لِلْقُرْبَةِ وَتَخْصِيصُ الْعِبَادَةِ بِمَكَانٍ مُعَيَّنٍ إِنَّمَا هُوَ لِلَّهِ تَعَالَى، وَلَيْسَ ذَلِكَ لأَِحَدٍ مِنْ عِبَادِهِ، فَتَخْصِيصُ الْعِبَادَةِ بِمَكَانٍ بِالنَّذْرِ مَلْغِيٌّ، وَيَلْزَمُ النَّذْرُ بِالْقُرْبَةِ (3) .
الاِتِّجَاهُ الثَّالِثُ:
يَرَى أَنَّ مَنْ عَيَّنَ لاِعْتِكَافِهِ مَسْجِدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَإِنَّ هَذَا الْمَسْجِدَ يَتَعَيَّنُ بِتَعْيِينِهِ، وَلَا يُجْزِئُ النَّاذِرَ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي غَيْرِهِ، وَلَوْ كَانَ أَفْضَل مِنْهُ، قَال بِهَذَا زُفَرُ وَحَكَاهُ ابْنُ قُدَامَةَ عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ (4) .
وَاسْتَدَل أَصْحَابُ هَذَا الاِتِّجَاهِ بِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دُفِنَ فِي خَيْرِ الْبِقَاعِ، وَقَدْ نَقَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ مَكَّةَ
(1) المهذب مع المجموع 6 / 479.
(2)
بدائع الصنائع 6 / 2889.
(3)
فتح القدير 4 / 26، ورد المحتار 3 / 71.
(4)
فتح القدير 2 / 104، وبدائع الصنائع 6 / 2889، والمغني 3 / 215.
إِلَى الْمَدِينَةِ، فَدَل عَلَى أَنَّهَا أَفْضَل، وَمِنْ ثَمَّ فَإِنَّهُ لَا يُجْزِئُ النَّاذِرَ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي مَسْجِدٍ آخَرَ، وَلَوْ كَانَ هُوَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ (1) .
وَقَالُوا كَذَلِكَ: إِنَّ النَّاذِرَ قَدْ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ الاِعْتِكَافَ فِي مَوْضِعٍ مَخْصُوصٍ، فَإِذَا اعْتَكَفَ فِي غَيْرِهِ، لَمْ يَكُنْ مُؤَدِّيًا مَا وَجَبَ عَلَيْهِ بِالنَّذْرِ، فَلَا يَخْرُجُ عَنْ عُهْدَةِ الْوَاجِبِ (2) .
وَأَضَافُوا: بِأَنَّ مَا أَوْجَبَهُ النَّاذِرُ عَلَى نَفْسِهِ مُعْتَبَرٌ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى مُقَيَّدًا بِمَكَانٍ لَا يَجُوزُ أَدَاؤُهُ فِي غَيْرِهِ، كَالنَّحْرِ فِي الْحَرَمِ وَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَوَاضِعَ عَيَّنَهَا الشَّارِعُ لِلْعِبَادَاتِ، فَكَذَلِكَ مَا أَوْجَبَهُ الْعَبْدُ عَلَى نَفْسِهِ بِالنَّذْرِ؛ إِذْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَقَيَّدَ بِهِ (3)
ج - نَذْرُ الاِعْتِكَافِ فِي الْمَسْجِدِ الأَْقْصَى:
43 -
مَنْ نَذَرَ الاِعْتِكَافَ فِي الْمَسْجِدِ الأَْقْصَى فَإِنَّهُ يُجْزِئُهُ الاِعْتِكَافُ فِيهِ، وَلَكِنْ ثَمَّةَ خِلَافٌ فِي تَعَيُّنِهِ بِالنَّذْرِ لِهَذَا الاِعْتِكَافِ، أَوْ عَدَمِ تَعَيُّنِهِ، وَذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ اتِّجَاهَاتٍ:
الاِتِّجَاهُ الأَْوَّل:
يَرَى أَنَّ مَنْ عَيَّنَ الْمَسْجِدَ الأَْقْصَى لاِعْتِكَافِهِ الْمَنْذُورِ تَعَيَّنَ بِالنَّذْرِ، وَجَازَ لَهُ
(1) المغني 3 / 215.
(2)
بدائع الصنائع 6 / 2889.
(3)
المصدر السابق.
أَنْ يَعْتَكِفَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَوْ مَسْجِدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَيُجْزِئُهُ ذَلِكَ عَنِ الاِعْتِكَافِ فِي الْمَسْجِدِ الأَْقْصَى، قَال بِهِ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ الأَْصَحُّ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ (1) .
وَاسْتَدَل أَصْحَابُ هَذَا الاِتِّجَاهِ بِمَا جَاءَ فِي السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ الْمُطَهَّرَةِ عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلاً قَامَ يَوْمَ الْفَتْحِ فَقَال: " يَا رَسُول اللَّهِ إِنِّي نَذَرْتُ لِلَّهِ إِنْ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكَ مَكَّةَ أَنْ أُصَلِّيَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ رَكْعَتَيْنِ، فَقَال رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: صَل هَاهُنَا، ثُمَّ أَعَادَ عَلَيْهِ فَقَال: صَل هَاهُنَا، ثُمَّ أَعَادَ عَلَيْهِ فَقَال: شَأْنُكَ إِذَنْ "(2)، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى زَادَ فَقَال: وَالَّذِي بَعَثَ مُحَمَّدًا بِالْحَقِّ لَوْ صَلَّيْتَ هَهُنَا لأََجْزَأَ عَنْكَ صَلَاةً فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ (3) ، فَقَدْ بَيَّنَ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِمَنْ نَذَرَ الصَّلَاةَ فِي الْمَسْجِدِ الأَْقْصَى أَنَّهُ
(1) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 1 / 547، والتاج والإكليل 2 / 460، والمجموع 6 / 482، والمغني 3 / 215.
(2)
حديث: " صل هاهنا ". تقدم تخريجه (ف 41) .
(3)
حديث: " والذي بعث محمدا بالحق لو صليت ههنا. . . . ". أخرجه أبو داود (3 / 603 ط حمص) من حديث عبد الرحمن بن عوف عن رجال من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم
يُجْزِئُهُ الْوَفَاءُ بِنَذْرِهِ هَذَا فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَا ذَلِكَ إِلَاّ لأَِنَّهُ أَفْضَل مِنَ الْمَسْجِدِ الأَْقْصَى، وَمِنْ ثَمَّ فَإِنَّ مَنْ نَذَرَ الاِعْتِكَافَ فِي الْمَسْجِدِ الأَْقْصَى يُجْزِئُهُ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَذَلِكَ.
وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِمَا وَرَدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ امْرَأَةً اشْتَكَتْ شَكْوَى، فَقَالَتْ: إِنْ شَفَانِي اللَّهُ لأََخْرُجَنَّ فَلأَُصَلِّيَنَّ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَبَرَأَتْ ثُمَّ تَجَهَّزَتْ تُرِيدُ الْخُرُوجَ، فَجَاءَتْ مَيْمُونَةُ زَوْجُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تُسَلِّمُ عَلَيْهَا، فَأَخْبَرَتْهَا ذَلِكَ، فَقَالَتِ: اجْلِسِي فَكُلِي مَا صَنَعْتِ، وَصَلِّي فِي مَسْجِدِ الرَّسُول صلى الله عليه وسلم، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُول: صَلَاةٌ فِيهِ أَفْضَل مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ مِنَ الْمَسَاجِدِ إِلَاّ مَسْجِدَ الْكَعْبَةِ (1) .
فَقَدْ أَفَادَ هَذَا الْحَدِيثُ أَنَّ مَنْ نَذَرَ صَلَاةً فِي الْمَسْجِدِ الأَْقْصَى أَجْزَأَتْهُ صَلَاتُهُ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنْ نَذْرِهِ؛ وَذَلِكَ لأَِنَّهُ أَفْضَل مِنْهُ، فَكَذَلِكَ مَنْ نَذَرَ الاِعْتِكَافَ فِي الْمَسْجِدِ الأَْقْصَى يُجْزِئُهُ الاِعْتِكَافُ فِي مَسْجِدِهِ صلى الله عليه وسلم؛ لأَِنَّهُ أَفْضَل.
، وَاسْتَدَلُّوا بِالْقِيَاسِ وَهُوَ أَنَّ الْمَسْجِدَ الأَْقْصَى أَحَدُ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي وَرَدَ الشَّرْعُ بِشَدِّ الرِّحَال
(1) حديث: " صلاة في مسجدي هذا. . . ". أخرجه مسلم (2 / 1014 - ط الحلبي) .