الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وإنَّهُ مالِكُهُم عز وجل
…
وَطَلَبَتْ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ وَجَل
وقد زدنا هذه الأبيات إيضاحًا في "منبر التوحيد".
3 - ومن أخلاق نمرود: التجبر - وهو التكبر - وقهر الغير، والاستيلاء عليه، أو على ماله، أو عرضه
.
والجبار: كل عات متمرد.
والمتكبر الذي لا يرى لأحد عليه حقًا، فهو بين الجبرية [والجبرياء - مكسورتين - والجبرية](1) - بكسرات - والجبروة، والجبروتي، والجبروت [- محركات -](2)، والتجبار، والجبروة - مفتوحات - والجبروة، والجبروت - مضمومتين - كما في "القاموس"(3).
والتجبر إنما يظهر ممن في قلبه القسوة والاحتقار للغير، والاستصغار له، ورؤية الفضل لنفسه فقط، ودعوى الحول والقوة لها.
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الْجَبَرُوْتُ فِيْ الْقَلْبِ". رواه الحافظ أبو بكر بن لال في "مَكَارِمِ الأَخْلاقِ"، وأبو نعيم عن جابر رضي الله تعالى عنه (4).
وكان نمرود أول ملك تجبر في الأرض، وهو صاحب الصرح
(1) ما بين معكوفتين زيادة من "القاموس المحيط".
(2)
ما بين معكوفتين زيادة من "القاموس المحيط".
(3)
انظر: "القاموس المحيط" للفيروز آبادي (ص: 460)(مادة: جبر).
(4)
ورواه الديلمي في "مسند الفردوس"(2654).
ببابل. أخرجه عبد بن حميد، وابن جرير عن قتادة (1).
وروى عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم: أن أول جبار كان في الأرض نمرود، كان جباراً أربعمئة سنة، فعذبه الله تعالى ببعوضة دخلت منخره، فمكث أربعمئة سنة يضرب رأسه بالمطارق؛ أي: ليسكن إليه، وأرحم الناس به من جمع يديه ثم ضرب بهما رأسه (2).
والتجبر من أعظم الكبائر.
قال الله تعالى: {وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15)} [إبراهيم: 15].
وروى الترمذي، والحاكم في "المستدرك"، والبيهقي عن أسماء بنت عُميس رضي الله تعالى عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ تَخَيَّلَ وَاخْتَالَ، وَنسِيَ الْكَبِيرَ الْمُتَعَال، بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ تَجَبَّرَ وَاعْتَدَى، وَنَسِيَ الْجَبَّارَ الأَعْلَى، بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ سَهَا وَلَهَا، وَنَسِيَ الْمَقَابِرَ وَالْبِلَى، بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ عَتَا وَطَغَى، وَنَسِيَ الْمُبْتَدَا وَالْمُنتهَى، بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ يَخْتل الدُّنْيَا بِالدّينِ، بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ يَخْتل الدّينَ بِالشُّبُهَاتِ، بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ طَمَعٌ يَقُودُهُ، بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ هَوًى يُضِلُّهُ، بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ رَغَبٌ يُذِلُّه"(3).
(1) تقدم تخريجه.
(2)
رواه عبد الرزاق في "التفسير"(1/ 106)، والطبري في "التفسير"(3/ 25).
(3)
رواه الترمذي (2448) وضعفه، والحاكم في "المستدرك "(7885)، والبيهقي في "شعب الإيمان"(8181).
وتخيل، واختال بمعنى: تكبر، والعطف تفسيري.
والمعنى أنه لم يدع من الخيلاء بابًا حتى دخله، أو تخيل تكلف الخيلاء، واختال فعلها من غير تكلف.
ويختل الدنيا بالدين؛ أي: يطلبها بعمل الآخرة.
ويختل الدين بالشبهات؛ أي: يروغ عنه، ويخادع فيه.
وروى ابن أبي حاتم عن أبي عمران الجوني رحمه الله تعالى قال: آية الجبار القتل بغير حق (1).
وعن عكرمة رحمه الله تعالى قال: لا يكون الرجل جباراً حتى يقتل نفسين (2).
كأنه أخذه من قوله تعالى حكاية عن القبطي لموسى: {أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ} [القصص: 19].
وروى ابن جرير عن الشعبي رحمه الله تعالى قال: من قتل رجلين فهو جبار، ثم تلا الآية (3).
وروى ابن أبي حاتم عن سفيان رحمه الله تعالى قال: الجبار الشقي الذي يقتل على الغضب (4).
(1) رواه ابن أبي حاتم في "التفسير"(9/ 2959).
(2)
رواه ابن أبي حاتم في "التفسير"(9/ 2958).
(3)
رواه الطبري في "التفسير"(20/ 50).
(4)
انظر: "تفسير ابن كثير"(3/ 121)، و"الدر المنثور" للسيوطي (5/ 509).
وعن العوَّام بن حَوشب رحمه الله تعالى قال: إنك لا تكاد تجد عاقاً إلا تجده جبارًا، ثم قرأ هذه الآية:{وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32)} [مريم: 32](1).
وكذلك شأن الأنبياء عليهم السلام كلهم.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أَرَأَيْتُمْ سُلَيْمَانَ وَمَا أَعْطَاهُ اللهُ مِنْ مُلْكِهِ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَرْفَعُ طَرْفَهُ إِلَىْ السَّمَاءِ تَخَشُّعَا للهِ تَعَالَى حَتَّى قَبَضَهُ الله".
أخرجه ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد عن سلامان بن عامر الشيباني بلاغًا (2).
وقال الله تعالى لأفضلهم صلى الله عليه وسلم: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} [ق: 45]؛ أي: لست عليهم بمسلَّط تفعل بهم ما تريد، إنما أنت داع، {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (45)} [ق: 45].
ونظيره قوله تعالى: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22)} [الغاشية: 21، 22]؛ أي: بمتسلط.
ويقال: منه سوطر عليهم، ويسيطر، وتسطير.
ويقال: تصيطر - بالصاد - بمعناه.
ومعنى قوله تعالى: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} [ق: 45]، النهي -وإن
(1) انظر: "الدر المنثور" للسيوطي (5/ 509).
(2)
رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(34270)، وابن المبارك في "الزهد"(2/ 47).
كان لفظه الخبر - ولذلك قال مجاهد في تفسيره: لا تتجبر عليهم (1).
وقال قتادة في الآية: إن الله كره لنبيكم الجبرية، ونهى عنها، وقدم فيها (2). رواهما ابن جرير، وابن المنذر.
وروى الحاكم في "المستدرك" عن جرير رضي الله عنه قال: أتي النبي صلى الله عليه وسلم برجل تَرْعُد فرائصه فقال: "هَوِّنْ عَلَيْكَ؛ فَإِنَّمَا أنا ابْنُ امْرَأةٍ مِنْ قُرَيْشٍ كَانَتْ تَأْكُلُ الْقَدِيْدَ فِي هَذهِ الْبَطْحَاءِ"، ثم تلا جرير:{وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} [ق: 45](3).
وكذلك ينبغي للعلماء الذين هم ورثة الأنبياء التواضع، والتنزه عن التكبر والتجبر؛ فإن منشأهما الجهل بالأمور، وخصوصاً الجهل بمعرفة النفس.
والأنبياء أعرف الناس بأخلاق النفوس، ومع ذلك قال قائلهم:{وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} [يوسف: 53].
وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم التعوذ من شر النفس (4)، فالعالم إذا جهل بنفسه تكبر، ثم تجبر، فإذا علم بنفسه تواضع.
(1) رواه الطبري في "التفسير"(26/ 184)، وانظر:"تفسير مجاهد"(2/ 613).
(2)
رواه الطبري في "التفسير"(26/ 184).
(3)
رواه الحاكم في "المستدرك"(3733)، وكذا الطبراني في "المعجم الأوسط"(1260).
(4)
تقدم تخريجه.
ومن هنا قال صلى الله عليه وسلم: "تَوَاضَعُوا لِمَن تَعْلَّمُوْنَ مِنْهُ، وَتَوَاضَعُوْا لِمَن تُعَلّمُوْنَ، وَلا تَكُوْنُوا جَبَابِرَةَ الْعُلَمَاءِ". أخرجه الخطيب في "الجامع"(1).
وقال عمر رضي الله تعالى عنه: لا تكونوا جبابرة العلماء، فلا يفي علمكم بجهلكم (2).
قال حجة الإسلام رحمه الله تعالى في "الإحياء": ما أعز على بسيط الأرض عالما يستحق أن يقال: إنه عالم، ثم إنه لا يحركه عز العلم وخيلاؤه، فإن وجد ذلك فهو صديق زمانه، فلا ينبغي أن يفارق، بل يكون النظر إليه عبادة، فضلاً عن الاستفادة من أنفاسه وأحواله.
قال: ولو عرفنا ذلك - ولو في أقصى الصين - لسعينا إليه رجاء أن تشملنا بركته، وتسري إلينا سيرته وسجيته، وهيهات، فأنى يسمح آخر الزمان بمثلهم، بل يَعِزُّ في زماننا عالم يختلج في نفسه الأسف والحزن على فوات هذه الخصلة، فذلك أيضًا إما معدوم وإما عزيز، ولولا بشارة النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "سَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ مَنْ تَمَسَّكَ بِعُشْرِ
(1) رواه الخطيب البغدادي في "الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع"(1/ 350) عن أبي هريرة رضي الله عنه. قال ابن طاهر المقدسي في "ذخيرة الحفاظ "(1/ 416): فيه عباد بن كثير، متروك.
(2)
رواه الإمام أحمد في "الزهد"(ص: 120)، والبيهقي في "شعب الإيمان"(1789).
مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ نَجَا" (1) لكان جديراً بنا أن نقتحم - والعياذ بالله - ورطة اليأس والقنوط مع ما نحن عليه من سوء أعمالنا.
قال: ومن لنا أيضًا بالتمسك بعشر ما كانوا عليه، وليتنا تمسكنا بعشر عشره، فنسأل الله تعالى أن يعاملنا بما هو أهله، وأن يستر علينا قبائح أعمالنا كما يقتضيه كرمه وفضله، انتهى (2).
وهذا الذي قاله رضي الله تعالى عنه لا يتوصل إلى فهمه الآن كما فهمه إلا بقوارع الوعيد لمن وفقه الله تعالى، ونبهه لإيرادها على نفسه الأمَّارة بالسوء حتى تنزجر عن الطغيان والجبروت.
وقد روى الترمذي وحسنه، وغيره عن سلمة بن الأكوع رضي الله تعالى عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يَزَالُ الرَّجُلُ يَتَكَبَّرُ وَيَذْهَبُ بِنَفْسِهِ حَتَّىْ يُكْتَبَ فِي الْجَبَّارينَ، فَيُصِيْبَهُ مَا أَصَابَهُمْ"(3)؛ أي: من العذاب والفتنة والهلاك.
(1) قال العراقي في "تخريج أحاديث الإحياء"(2/ 959): رواه الإمام أحمد من رواية رجل عن أبي ذر.
ولفظه عند الإمام أحمد في "المسند"(5/ 155): عن أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنكم في زمان علماؤه كثير خطباؤه قليل، من ترك فيه عشير ما يعلم هوى، وسيأتي على الناس زمان يقل علماؤه ويكثر خطباؤه، من تمسك فيه بعشر ما يعلم نجا".
(2)
انظر: "إحياء علوم الدين" للغزالي (3/ 349).
(3)
رواه الترمذي (2000) وحسنه.
وروى الإمام أحمد، والشيخان عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"تَحَاجَّت النَّارُ وَالْجَنَّةُ، فَقَالَتِ النَّارُ: أُوثِرْتُ بِالْمُتَكَبِرِينَ وَالْمُتَجَبِرِينَ، وَقَالَتِ الْجَنَّةُ: فَمَا لِي لا يَدْخُلُنِي إِلَاّ ضُعَفَاءُ النَّاسِ وَسقَطُهُمْ وَعجزُهُم؟ فَقَالَ اللَّهُ لِلْجَنَّةِ: أَنْتِ رَحْمَتِي أَرْحَمُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ مِنْ عِبَادِي، وَقَالَ لِلنَّارِ: أَنْتِ عَذَابِي أُعَذِّبُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ مِنْ عِبَادِي، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْكُمْ مِلْؤُهَا". الحديث (1).
وروى الإمام أحمد، والترمذي وحسنه، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"يَخْرُجُ عُنُقٌ مِنَ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَهُ عَيْنَانِ تُبْصِرَانِ، وَأُذْناَنِ تَسْمَعَانِ، وَلِسَان يَنْطِقُ يَقُوْلُ: إِنِّي وُكّلْتُ بِثَلاثَةٍ: بِكُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ، وَبِكُلِّ مَنْ دَعَا مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ، وَالْمُصَوّرِينَ"(2).
وعن محمد بن واسع رحمه الله تعالى قال: دخلت على بلال بن أبي بردة فقلت له: يا بلال! إن أباك حدثني عن أبيه؛ يعني: أبا موسى الأشعري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إِنَّ فِي جَهَنَّمَ وَادِيًا فِي الْوَادِي بِئْرٌ يُقَالُ لَهُ: هَبْهَب، حَقًّا عَلَىْ اللهِ أَنْ يُسْكِنَهُ كُلَّ جَبَّارٍ، فَإِيَّاكَ يَا بِلالُ أَنْ
(1) رواه الإمام أحمد في "المسند"(2/ 276)، والبخاري (4569)، ومسلم (2846).
(2)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(2/ 336)، والترمذي (2574) وقال: حسن غريب صحيح.
تَكُوْنَ مِمَّنْ يَسْكُنُهُ". أخرجه الطبراني في "الأوسط"، وسنده حسن (1).
وروى الطبراني في "الكبير" عن عمرو بن شعواء رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"ستةٌ لعَنتهم، وكلُّ نبيٍّ مجاب: الزائد في كتاب الله، والمكذِّب بقدَرِ الله، والمستحِلّ من عِترتي ما حرَّم الله، والتارك لسنتي، والمستأثر بالغي، والمتجبر بسلطانه ليعِزَّ من أذلَّه الله، ويُذِلّ من أعزَّه الله"(2).
وروى الإمام عبد الله بن المبارك في "البر والصلة" عن يحيى بن أبي كثير رحمه الله تعالى قال: قال سليمان بن داود عليهما السلام: يا معشر الجبابرة! كيف تصنعون إذا وضع المنبر للقضاء؟ يا معشر الجبابرة! كيف تصنعون إذا لقيتم ربكم الجبار فرادى (3)؟
وروى أبو نعيم في "الحلية" عن سفيان الثوري رحمه الله تعالى قال: عليك بالقصد في معيشتك، وإيّاك أن تتشبه بالجبابرة، وعليك بما تعرف من الطعام والشراب، واللباس، والمركب، ولتكن أهل مشورتك أهل التقوى، وأهل الأمانة، ومن يخشى الله (4).
(1) رواه الطبراني في "المعجم الأوسط"(3548)، وكذا ابن أبي شيبة في "المصنف"(2816). وحسن الهيثمي إسناد الطبراني في "مجمع الزوائد"(5/ 197).
(2)
رواه الطبراني في "المعجم الكبير"(17/ 43).
(3)
ورواه ابن أبي الدنيا في "الأهوال"(ص: 246)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء"(6/ 141).
(4)
رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(7/ 12).
ويحصل التشبه بالجبارين بكل فعل أو قول يشعر برؤية النفس، ورؤية ما لها دون ما عليها، والإعجاب برأيها وحالها كالتبختر، ورفع الصدر، والمرح في المشي، وتصعير الخد للناس، والتقدم عليهم في المجالس، والطعن عليهم بما في طيه تبرئة النفس منه، وكالتحجب والتمتع بالخُدَّام والأعوان، وغير ذلك.
قال ابن وهب: جلست إلى عبد العزيز بن أبي رَوَّاد، فمس فخذي فخذه، فنحيت بسرعة، فأخذ ثيابي فجرني إلى نفسه، وقال لي: لم تفعلون بي ما تفعلون بالجبابرة، وإني لا أعرف رجلاً منكم شراً مني. نقله في "الإحياء"(1).
وروى أبو نعيم في "الحلية" عن ميمون بن مهران رحمه الله تعالى قال: أول من مشت الرجال معه وهو راكب: الأشعث بن قيس الكندي، ولقد أدركت السلف وهم إذا نظروا إلى رجل راكب ورجل تحصر معه قالوا: قاتله الله؛ جبارٌ (2).
وعن سليمان بن عنز: أنه لقي كريب بن أبرهة راكباً وراءه غلام له، فقال: سمعت أبا الدرداء رضي الله تعالى عنه يقول: لا يزال العبد يزداد من الله بعداً كما مُشي خلفه (3).
وعن الحسن البصري رحمه الله تعالى قال: أمَ والله لئن تدقدقت
(1) انظر: "إحياء علوم الدين" للغزالي (3/ 354).
(2)
رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(4/ 86).
(3)
رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(3/ 223).
لهم الهماليج، ووطئت الرجال أعقابهم؛ إن ذل المعصية في قلوبهم، ولقد أبى الله أن يعصيه عبد إلا أذله (1).
وروى الحاكم وصححه، عن عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يكره أن يطأ أحد عقبه، ولكن يمين أو شمال (2).
وروى الإمام أحمد عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يأكل متكئاً، ولا يطأ عقبه رجلان (3).
وروى الطبراني في "الأوسط" عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يدفع عنه الناس، ولا يضربون عنه (4).
وكل هذه الأمور الظاهرة على الجوارح والهيئات إنما تنشأ عن جبروت القلب، وكلما تمكن الجبروت من القلب ظهرت تلك الأمور على الجوارح، وهي المعبَّر عنها بالتجبر، وعن فاعلها بالجبار، وإنما تَعَظَّم وتكثر بعظمة الجبروت في القلب، وبقدر عظمة وظهور تلك الأمور الناشئة عنه تكون العقوبة لارتكاب العبد الذليل المخلوق من غير شيء، ثم من شيء تافه حقير، ثم نزع إلى ما لا يليق به من صفات
(1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(2/ 149).
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
تقدم تخريجه.
(4)
تقدم تخريجه.
المربوب، وتوسَّع في طلبها، فاستوجب أوسع العقوبة كما قال تعالى:{أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (67) فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا (69)} [مريم: 67 - 69]؛ أي: تكبراً وتجبراً {ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا (70)} [مريم: 70].
وهذه العقوبة التي يظهر سلطانها في الآخرة تظهر أماراتها في الدنيا بالطبع على القلوب بحيث إن ذويها لا يهتدون إلى خير، ولا تظهر عليهم آثار الرحمة لانتزاعها من قلوبهم، بل تظهر منهم آثار القسوة والجبروت.
قال الله تعالى: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35)} [غافر: 35].
وقرأ أبو عمرو، وابن ذكوان هذه الآية بتنوين قلب على وصفه بالتكبر والتجبر لأنه منبعهما، كما يقال: سمعت أذني، ونظرت عيني، ووعى قلبي (1).
وهو أحسن من حَمْلِه على حذف المضاف؛ أي: على كل ذي قلب؛ فإن القلب في الحقيقة هو المتكبر الجبار؛ فإن الجوارح كالرعية له المنقادة إليه، فقد يبعثها في مقتضى طبعه وخلقه، فتظهر منها آثار جبروته، وقد ينطوي بطبعه وخلقه دونها لضعفه وعدم تمكنه بما يعرض عليه من عجز أو فقر، ثم لا يخفى منه ذلك الخلق حتى تظهر
(1) انظر: "تفسير القرطبي"(15/ 314)، و"تفسير البيضاوي"(5/ 93).
منه فلتات عند إمكانه الغرض، فيعلم من حاله أنه لولا العجز والقصور لتبسط في إظهار تلك الآثار كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه ابن منيع، وابن أبي أسامة، وأبو الشيخ عن علي رضي الله تعالى عنه:"إِنَّ الرَّجُلَ لَيُكْتَبُ جَبَّاراً وَما يَمْلِكُ غَيْرَ أَهْلِ بَيْتِهِ"(1).
وروى أبو نعيم في "حليته" عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم في طريق، ومرت امرأة سوداء، فقال لها رجل: الطريق.
فقالت: الطريق؟ الطريق يَمْنة وَيسْرة.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "دَعُوْهَا؛ فَإِنَّهَا جَبَّارَةٌ"(2).
وفي رواية: أن النبي صلى الله عليه وسلم مر في طريق وامرأة جالسة تسأل من مر بها، فقال لها بعض أصحابه: الطريق، الطريق.
فقالت: إن شاء أخذ يمنة أو يسرة.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "تَزْعُمُ أَنَّهَا مِسْكِيْنَةٌ".
فقالَ: "إِنَّ ذَاكَ فِي قَلْبِهَا".
(1) رواه الحارث بن أبي أسامة في "مسنده"(850)، وكذا الطبراني في "المعجم الأوسط" (6273). قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (1/ 99): فيه عبد الحميد بن عبيد الله بن حمزة، وهو ضعيف جداً.
(2)
رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(6/ 291)، وكذا أبو يعلى في "المسند"(3276)، والطبراني في "المعجم الأوسط" (8160). قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (8/ 24): رواه الطبراني وأبو يعلى وفيه يحيى الحَمَّاني ضعفه أحمد ورماه بالكذب.