الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الماء بكى، اهتز العرش، فقال تعالى: رحمتي سبقت غضبي (1).
والمراد من اهتزاز العرش لهذه الأمور المبالغة في تهويلها كما في قوله تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90)} [مريم: 88 - 90].
ويجوز أن يكون اهتزاز العرش على حقيقته، وله وجهان:
الأول: أن هذه الأمور لشدة كراهية الله تعالى لها يغضب، فتضطرب الملائكة عليهم السلام لغضبه، فيهتز العرش بسبب اضطرابهم؛ فإن حملة العرش منهم وهم أقرب الملائكة إلى الله تعالى - ولا أعني قرب المسافة - فهم أشد غضبًا لله، واضطرابًا لغضبه.
والثاني: أن الله تعالى لا يبعد على قدرته أن يخلق في العرش إدراكاً لهذه الأمور وقبحها، فيضطرب لذلك.
وفي العزم تأليف جزء لطيف في هذا المعنى.
*
تَنْبِيْهٌ:
قال الله تعالى حكاية عن لوط عليه السلام قال: {إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ (168) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (169) فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170)} [الشعراء:
(1) رواه أبو جعفر العبسي في "العرش وما روي فيه"(ص: 75)، قال الذهبي في "العلو للعلو الغفار" (ص: 90): إسنادها متصل، لكن لا أعرف التابعي.
168 -
170] الآية؛ وفيه أمران:
الأول: أن بغض هذه الفاحشة من أخلاق الأنبياء عليهم السلام، بل هو من أخلاق الله تعالى لأن الله تعالى لعن فاعل ذلك ثلاثاً كما في الحديث السابق، وسماه فاحشة وخبيثة.
بل ينبغي لكل ذي طبع سليم بغض هذا العمل فاعليةً؛ لأنه عدول عن محل الحرث، وإلمام بمحل الأذى، ومفعوليةً لأنه على خلاف الحكمة، وعكس الوضع الإلهي لأن الله تعالى خلق الذكر للفاعلية، والأنثى للمفعولية، وإذا انبعث كل منهما لما خلق له الآخر فقد خالف الأمر، وعارض الحكمة.
فينبغي للعبد - وإن كان بغض كل معصية واجباً عليه - أن يكون لهذه المعصية أشد بغضًا ومقتًا وكراهية، وعنها أشد بعداً وإبعاداً ونفاراً؛ فإن هذا واجب على كل مسلم مكلف.
ثم يجب عليه بغض من فعله، أو عزم على فعله، وبُغض من أصر عليه، وأكب عليه أشد وجوباً.
وإنما قال لوط عليه السلام لقومه: {قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ (168)} [الشعراء: 168] إشارة إلى أن المعصية هي التي توجب بغض مرتكبها، ولم يصرح ببغضهم لأنه كان يستضعف نفسه عن مقاومتهم، فلو قال: إني لكم من القالين، أو: إني أبغضكم، فواجههم بالقلى والبغض، لقابلوه بالشتم وغيره؛ ألا ترى إلى جرأتهم عليه وقولهم له قبل ذلك:{لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَالُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167)} [الشعراء: 167]، ولذلك قال: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ
آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80)} [هود: 80].
قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: ما بعث الله تعالى نبيًّا بعد لوط عليه السلام إلا في عز من قومه. رواه سعيد بن منصور، وأبو الشيخ (1).
وروى البخاري في "الأدب المفرد"، والترمذي وحسنه، وآخرون، وصححه الحاكم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رَحِمَ اللهُ لُوْطًا؛ كَانَ يَأْوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيْدٍ - يَعْنِي اللهَ عز وجل فَمَا بَعَثَ اللهُ بَعْدَهُ نبِيًّا إِلَاّ فِي ثَرْوَةٍ مِنْ قَوْمِهِ"(2).
وليس في هذا الحديث حط من رتبة لوط عليه السلام، بل فيه تنزيل له في رتبته، فإن كل نبي فالله تعالى ركنه إلا أنهم متفاوتون؛ فمنهم أولو العزم من الرسل، وهؤلاء لا يبالون بالناس كثروا أم قلوا، وهم خمسة: محمد، وإبراهيم، وموسى، ونوح، وعيسى عليهم السلام.
وأما غيرهم فلا يضرهم أن يأخذهم ما يأخذ البشر؛ فإن في طبع كل إنسان - وإن كمل يقينه وإيمانه - أن يستضعف نفسه إذا كان وحده
(1) رواه سعيد بن منصور في "سننه"(5/ 357)، وانظر:"الدر المنثور" للسيوطي (4/ 459).
(2)
رواه البخاري في "الأدب المفرد"(605)، والترمذي (3116) وحسنه، والحاكم في " المستدرك"(4054).
وروى البخاري (3192) منه "يرحم الله لوطًا كان يأوي إلى ركن شديد".
أو في جماعة عن عدوه إذا كان شديد العداوة شديد القوة، كثير العدد قوي العُدد.
ومن ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فَمَا بَعَثَ اللهُ بَعْدَهُ نبِيًّا إِلَاّ فِيْ ثَرْوَةٍ مِنْ قَوْمِهِ".
والثروة كثرة العدد من الناس، وكذلك من المال.
الأمر الثاني: قوله تعالى حكاية عن لوط عليه السلام: {رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (169)} [الشعراء: 169] فيه أوجه:
أحدها: أن يكون معناه: نجني وأهلي من شؤم عملهم وعذابه. وعليه اقتصر البيضاوي (1)، وذلك لأن النجاة بمعنى الخلاص، فلو أراد الخلاص من نفس أعمالهم لأشعر بصدور شيء منها أو من أهله، وهم براء من ذلك.
والوجه الثاني: أن يكون (نجني) مضمنًا معنى: أجنبني، وقِني.
وعليه: فالمعنى أن لوطًا عليه السلام سأل من ربه أن يجنبه وأهله، ويطهرهم من الوقوع في هذا العمل، وذلك لا يناقض عصمة الأنبياء عليهم السلام لأنهم لا يأمنون مكر الله.
والوجه الثالث: أن يكون معناه: نجني من مشاهدة أعمالهم الخبيثة؛ فإنهم كانوا يتظاهرون بها فعلاً وحكاية، وذلك لأن لوطًا عليه السلام ما كان يمكنه المهاجرة عنهم، ولا الخروج من بين
(1) انظر: "تفسير البيضاوي"(4/ 251).
أظهرهم لأنه مأمور بدعوتهم، فطلب النجاة مما هو فيه بما شاءه الله تعالى.
ويدل على هذا الوجه قوله تعالى: {وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ (74) وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (75)} [الأنبياء: 74، 75].
وقد قيل: في الآية حذفُ مضافٍ تقديره: في أهل رحمتنا.
قال الزهريّ رحمه الله تعالى: إن لوطاً عليه السلام لما عذَّبَ اللهُ تعالى قومَه لَحِقَ بإبراهيم عليه السلام، فلم يزل معه حتى قبضه الله إليه. أخرجه ابن عساكر، وغيره (1).
وفيه إشارة إلى أن مَنْ أبغضَ أعداءَ الله، وقَلاهُم، وعاداهم، واستوحش منهم، وطلب من الله تعالى أن يخرجه من بينهم، وأخلص في ذلك، عوضه الله تعالى بصحبة أوليائه والكينونة معهم.
وفيه إشارة إلى أن من آوى الله تعالى آواه الله تعالى إليه، وكيف لا يكون لوطاً قد آوى إلى ركن شديد وقد آوى إلى الله تعالى بقوله:{رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (169)} [الشعراء: 169].
وإلى هذا أشار صلى الله عليه وسلم بقوله في الحديث: "رَحِمَ اللهُ لُوْطًا؛ كَانَ يَأْوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيْدٍ"(2).
(1) رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق"(50/ 326).
(2)
تقدم تخريجه قريبًا.