الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال عقبة بن عمرو: وأنا سمعته يقول ذلك، وكان نباشاً (1).
قلت: وقد يعارض هذا ما رواه أبو نعيم في "معرفة الصَّحابة" عن عبيد الجهني -وكانت له صحبة- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتَانِي جِبْرِيلُ عليه السلام: إِنَّ في أُمَّتِكَ ثَلاثَةُ أَعْمالٍ لَمْ يَعْمَلْ بِها الأُمَمُ قَبْلَها: النَّبَّاشُونَ، والمُتَسَمِّنُونَ، والنِّساءُ بِالنّساءِ"(2).
ويحتمل أن يقال: إن معنى: لم يعمل بها الأمم؛ أي: لم يظهر العمل بها فيهم، فلا ينافي أن يعمله واحد منهم.
101 - ومنها: حبُّ الدُّنيا
.
بل هو خلق كل إنسان إلا من عصم الله تعالى ورحمه.
قال الله تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} [آل عمران: 14].
قال بعض العلماء: هذه الآية تعريض بما كان عليه اليهود من الانهماك في هذه الشهوات.
وتقدم أن بضعاً وثمانين آية من أول سورة آل عمران نزلت في
(1) رواه البخاري (3266).
(2)
رواه أبو نعيم في "معرفة الصحابة"(4/ 1912)، وانظر:"الإصابة في معرفة الصحابة" لابن حجر (4/ 423).
نصارى نجران، وهذه الآية منها، فتكون تعريضاً بأغنياء النَّصارى أيضًا.
وروى عبد الله ابن الإمام أحمد في "زوائد الزُّهد"، ومن طريقه إبراهيم عن الحسن رحمه الله تعالى قال: لقد عبدت بنو إسرائيل الأصنام بعد عبادتهم الرَّحمن لحبهم الدُّنيا (1).
قلت: لمَّح الحسن إلى عبادتهم العِجل لكونه صيغ من الذهب.
قال الله تعالى: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ} [البقرة: 93]؛ أي: حب العجل.
ومن ثم كان عيسى عليه السلام يحث على الزُّهد، ويمدح الفقر خشية أن يقع قومه فيما وقع فيه بنو إسرائيل.
وروى ابن أبي الدنيا في "ذم الدُّنيا" عن الحسن -مرسلًا- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الدُّنْيا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ، وَإِنَّ اللهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيْها، فَيَنْظُرُ كَيْفَ تَعْمَلُونَ؛ إِنَّ بَنِي إِسْرائِيلَ لَمَّا بُسِطَتْ لَهُمُ الدُّنْيا وَمُهِّدَتْ باهوا في الحلية والنِّساءِ، والطِّيْبِ والثِّيابِ"(2).
وهو في "صحيح مسلم" من حديث أبي سعيد رضي الله تعالى عنه دون قوله: "إنَّ بني إسرائيل"؛ زاد: "فاتَّقُوا الدُّنْيا، واتَّقُوا النِّساءَ"(3).
وأخرجه النسائي، وزاد: "فَما تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَة أَضَرَّ عَلَى
(1) رواه عبد الله ابن الإمام أحمد في "زوائد الزهد"(ص: 259).
(2)
رواه ابن أبي الدنيا في "الزهد"(1/ 21).
(3)
تقدم تخريجه.
الرِّجالِ مِنَ النِّساءِ" (1).
وروى الشَّيخان عن عمرو بن عوف الأنصاري رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا عبيدة بن الجرَّاح إلى البحرين يأتي بجزيتها، فقدم بمال من البحرين، فسمع الأنصار بقدوم أبي عبيدة، فوافوا صلاة الفجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما صلَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف فتعرضوا له، فتبسَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآهم، ثمَّ قال:"أَظُنُّكُمْ سَمِعْتُمْ أَنَّ أَبا عُبَيْدَةَ قَدِمَ بِشَيْءٍ مِنَ الْبَحْرَيْنِ".
قالوا: أجل يا رسول الله.
فقال: "أَبْشِرُوا وَأَمِّلُوا، فَواللهِ ما الفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنْ أَخْشَى أَنْ تُبْسَطَ الدُّنْيا عَلَيْكُمْ كَما بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنافَسُوهَا كَمَا تَنافَسُوها، فتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُم"(2).
واعلم أنه لم تأت شريعة قبل شريعة محمد صلى الله عليه وسلم بمدح الفقر وذم الغنى وحبِّ الدُّنيا بمثل ما جاءت به شريعة عيسى عليه الصلاة والسلام، ومن ثمَّ كانت مظهرية الزهد فيه وفي ملته أظهر منها في الملل السابقة، وكثر في ملته الترهب والتقشف، وكان حبُّ الدُّنيا عندهم قبيحًا، ومن أحبَّها بولغ في ذمه.
(1) كذا عزاه ابن الأثير في "جامع الأصول"(4/ 504)، والمنذري في "الترغيب والترهيب"(4/ 76)، لكن لم أقف عليه من حديث أبي سعيد رضي الله عنه عند النسائي، وإنما من حديث أسامة بن زيد وقد تقدم.
(2)
رواه البخاري (6061)، ومسلم (2961).
قال مكحول رحمه الله تعالى: قال عيسى بن مريم عليهما السلام: يا معشر الحواريين! أيُّكم يستطيع أن يبني على موج البحر داراً؟
قالوا: يا روح الله! ومن يقدر على ذلك؟
قال: إيَّاكم الدُّنيا فلا تتخذوها داراً (1).
وقال خيثمة بن عبد الرحمن رحمهما الله تعالى: قال عيسى بن مريم عليهما السلام لرجل: تصدَّق بمالك والحقني.
قال: فنكس، فقال عيسى عليه السلام بشدة: ما يدخل الغني الجنة (2).
وقال وهب بن منبه رحمه الله تعالى: قال عيسى بن مريم عليهما السلام للحواريين: بحق أقول لكم -وكان كثيرًا ما يقول: بحق أقول لكم-: إن أشدَّكم حباً للدُّنيا أشدُّكُم جزعاً على المصيبة (3).
وقال أيضًا: إن عيسى عليه السلام قال: بحق أقول لكم: إن أكناف السماء لخالية من الأغنياء، ولدخول جمل في سَمِّ الخِياط أيسر من دخول غني الجنة (4).
(1) رواه الإمام أحمد في "الزهد"(ص: 58).
(2)
ورواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(34237).
(3)
رواه الإمام أحمد في "الزهد"(ص: 60).
(4)
رواه الإمام أحمد في "الزهد"(ص: 92).
وقال سفيان رحمه الله تعالى: كان عيسى بن مريم عليهما السلام يقول: حبُّ الدنيا رأس كل خطيئة، والمال فيه داء كثير.
قالوا: وما داؤه؟
قال: لا يسلم صاحبه من الفخر والخيلاء.
قالوا: فإن سلم؟
قال: يشغله إصلاحه عن ذكر الله (1). رواهما (2) أحمد في "الزهد".
وروى ابنه في "زوائده" عن ابن شوذب قال: قال عيسى عليه السلام: جودة الثياب خيلاء القلب (3).
والآثار عن سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام كثيرة.
وقال بعضهم في معنى كلامه المتقدم: [من الخفيف]
أَيُّها الْمَرْءُ إِنَّ دُنْياكَ بَحْرٌ
…
مَوْجُهُ طامحٌ فَلا تأمنَنْها
وَسَبِيْلُ النَّجاةِ فِيْها يَسِيْرٌ
…
وَهْوُ أَخْذُ الْكَفافِ والقُوتِ مِنْها (4)
(1) رواه الإمام أحمد في "الزهد"(ص: 92).
(2)
في "أ": "رواها".
(3)
ورواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(6/ 130).
(4)
البيتان للفقيه محمَّد بن عبد الله بن أبي ريمين، كما في "يتيمة الدهر" للثعالبي (2/ 82).
وروى الحاكم -وقال: صحيح الإسناد- عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال عمر رضي الله تعالى عنه: استأذنت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخلت عليه في مشربة وإنه لمضطجع على خصفة إن بعضه ليلي التراب، وتحت رأسه وسادة محشوة ليفاً، وإن فوق رأسه لإهاب عطن، وفي ناحية المشربة، فسلمت عليه فجلست، فقلت: أنت نبي الله وصفوته، وكسرى وقيصر على سُرُر الذَّهب، وفرش الدِّيباج والحرير؟
فقال: "أُولَئِكَ عُجِّلَتْ لَهُمْ طَيِّباتُهُمْ وَهيَ وَشِيْكَةُ الانْقِطاعِ، وَإِنَّا قَومٌ أُخِّرَتْ لَنَا طَيباتُنا في آخِرَتنا"(1).
ورواه ابن ماجه معناه، وقال فيه:"يَا ابْنَ الْخَطَّابِ! أَما تَرْضَى أَنْ تَكُوْنَ لَنا الآخِرَةَ وَلَهُمُ الدُّنْيا؟ "(2).
وروى الطَّبراني عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: دخلت على النَّبي صلى الله عليه وسلم وهو في غرفة كأنها بيت حمام، وهو نائم على حصير قد أثر بجنبه، فبكيت، فقال:"مَا يُبْكِيكَ يا عَبْد اللهِ؟ ".
قلت: يا رسول الله! كسرى وقيصر يطئون على الخَزِّ والدِّيباج والحرير، وأنت نائم على هذا الحصير قد أثر بجنبك.
فقالَ: "فَلا تَبْكِ يا عَبْد اللهِ؛ فَإنَّ لَهُمُ الدُّنْيا وَلَنا الآخِرَةَ، وَمَا أَنَا
(1) رواه الحاكم في "المستدرك"(7072)، وأصله عند البخاري (2336)، ومسلم (1479).
(2)
رواه ابن ماجه (4153).