الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
واستعبد بني إسرائيل، وذبح أبناءهم حين قيل له: يولد في هذا العام من بني إسرائيل مولود يكون ذهاب ملكك على يديه، فأمر بذبح الأبناء، وأخفى الله تعالى حَمْلَ أمِّ موسى عنه، ولما ولدته ألهمها الله تعالى أن تضعه في التابوت فتلقيه في اليم، ففعلت، فالتقطه آل فرعون، ثُمَّ رباه الله تعالى في بيت فرعون بعد أن رجعه إلى أمه فأرضعته كما قصَّ الله تعالى ذلك في الكتاب العزيز، ثم لما كبر موسى عليه السلام وبلغ ثلاثين سنة، وَكَزَ القِبطيَّ فقضى عليه، ثم خرج من المدينة خائفاً يترقب حتَّى ورد ماء مدين، فسقى لِبِنتي شعيب عليه السلام، ثم تزوج بإحداهما، وسار بأهله بعد عشر حِجج، فآنس من جانب الطُّور ناراً فكلمه الله تعالى، ثم أرسله إلى فرعون، وأرسل معه أخاه هارون يدعوانه إلى الله تعالى، ويأمرانه أن يرفع العذاب عن بني إسرائيل ويرسلهم معهما، والقصة طويلة جداً، وليس الغرض بيانها هنا، وإنَّما المراد سبر قبائح فرعون وقومه تحذيراً من التشبه بهم فيها.
فمن قبائح فرعون وقومه:
1 - الكفر بالله تعالى، وعبادة ما سواه، ودعوى الألوهيَّة والربوبية
.
وذلك غاية الجهل إذ زعم أنَّه رب وعبد.
قال الله: {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ} [الأعراف: 127]، فهذه الآية دالة على أن فرعون كان له آلهة يعبدها.
قيل: كان يعبد الشمس.
وروى ابن أبي حاتم عن سليمان التيمي: أنه سأل الحسن رحمهما الله تعالى: أكان فرعون يعبد شيئاً؟
قال: إي والله؛ إنَّما كان يعبد.
قال سليمان: بلغني أنَّه كان يجعل في عنقه شيئاً يعبده.
قال: وبلغني عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أنَّه كان يعبد البقر (1).
زاد الثعلبي عن ابن عباس: أن فرعون كان إذا رأى بقرة حسناء يعبدها (2).
وروى ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن الحسن قال: كان لفرعون آلهة يعبدها (3).
قلت: ولا يمنع ذلك أن يكون له آلهة يعبدها علانية كما يعرف من الآية، إذ لو لم يعرف الملأ منه ذلك لم يقولوا له:{وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ} [الأعراف: 127]، ولعله كان يُسِرُّ عبادتها عن العوام، ويبديها للخواص.
وذكر الثعلبي عن الحسن: أنَّ فرعون كان يعبد تَيْساً (4).
(1) رواه ابن أبي حاتم في "التفسير"(5/ 1538).
(2)
انظر: "تفسير الثعلبي"(4/ 271).
(3)
رواه ابن أبي حاتم في "التفسير"(5/ 1538).
(4)
انظر: "تفسير الثعلبي"(4/ 271).
وعن ابن عبَّاس رضي الله عنهما قال: كان صَنَعَ فرعون لقومه أصناماً صغارًا، وأمرهم بعبادتها، وقال: أنا ربكم، وهذه الأصنام، فذلك قوله:{فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24)} [النازعات: 24](1).
والمشهور عن ابن عبَّاس أنّه كان يقرأ: {ويذروك وإلهتك} - أي: بكسر الهمزة، وفتح اللام، والألف بعدها - وكان يفسرها: وعبادتك (2).
تبعه المفسرون، وابن الأنباري في المصاحف (3).
وروى ابن جرير، وابن الأنباري عن الضَّحَّاك نحوه (4).
وروى ابن عساكر عن ابن عبَّاس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كَلِمَتَانِ قَالَهُمَا فِرْعَونُ: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص: 38] إِلَى قوْلهِ {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات: 24] كانَ بَيْنَهمَا أَرْبَعُوْنَ عَامًا، فَأخَذَهُ اللهُ نكَالَ الآخِرَةِ وَالأُوْلَى"(5).
وروى الدّينوري في "المجالسة" عن محمَّد بن كعب القرظي رحمه الله تعالى قال: لما قال فرعون لقومه: ما علمت لكم من إله غيري
(1) انظر: "تفسير الثعلبي"(4/ 271).
(2)
رواه الطبري في "التفسير"(9/ 26)
(3)
انظر: "زاد المسير" لابن الجوزي (3/ 244)، و"تفسير القرطبي"(7/ 262).
(4)
رواه الطبري في "التفسير"(9/ 25).
(5)
رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق"(52/ -248)، وكذا الديلمي في "مسند الفردوس"(4890).
نشر جبريل عليه السلام أجنحة العذاب، فأوحى الله تعالى إليه: أَنْ مَهْ يا جبريل؛ إنَّما يعجل بالعقوبة من يخاف الفوت، فأمهل بعد هذه المقالة أربعين سنة حتَّى قال:{فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات: 24]، فذلك قوله:{فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى} [النازعات: 25] حين غَرَّقه الله وجنوده (1).
وروى عبد الرزاق، وعبد بن حميد عن قتادة في قوله:{فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى} [النازعات: 25]؛ قال: عقوبة الدنيا والآخرة (2).
وروى عبد بن حميد، وابن المنذر عن الحسن مثله (3).
وهذا بناء على أن فرعون معاقب في الآخرة عقوبة الكفار؛ فإنه مات على الكفر، ولا ينفعه قوله حين أدركه الغرق:{آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس: 90]؛ نكب عن الإيمان أوان القبول، وبالغ فيه حين لا يقبل.
وفي الحديث عن ابن عبَّاس رضي الله تعالى عنهما في الآية: أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: "قالَ لِي جِبْرِيْلُ: يَا مُحَمَّد! لَو رَأيتَنِي وَأنَا آخِذٌ مِن
(1) رواه الدينوري في "المجالسة وجواهر العلم"(ص: 221).
(2)
رواه عبد الرزاق في "التفسير"(3/ 347)، وكذا الطبري في "التفسير"(30/ 42).
(3)
وكذا الطبري في "التفسير"(30/ 42)، وانظر:"الدر المنثور" للسيوطي (8/ 409).
حَالِ البَحْرِ فَأُدْنِيهِ فِي فِيهِ".
وفي رواية: "فِي فِيِّ فِرعونَ مَخَافةَ أنْ تُدرِكَهُ الرَّحمَةُ". رواه الإمام أحمد، والترمذي؛ وحسنه باللفظ الأول، وصححه باللفظ الثاني هو وابن حبان، والحاكم (1).
وهذا لم يكن من جبريل إلا بأمر الله تعالى، أو لما علم أنَّه ليس من أهل أن يرحم، ويدل عليه حديث أبي أمامة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قَالَ لِي جِبْرِيْلُ: مَا أَبْغَضْتُ شَيْئاً مِن خَلْقِ اللهِ مَا أَبْغَضْتُ إِبْلِيْسَ يَوْمَ أُمِرَ بِالسُّجُودِ فَأَبَى أَنْ يَسْجُدَ، وَمَا أَبْغَضْتُ شَيْئاً أَشَدَّ بُغْضًا مِن فِرْعَونَ، فَلَمَّا كَانَ يَومُ الغَرَقِ خِفْتُ أَنْ يَعْتَصِمَ بِكَلِمَةِ الإِخْلاصِ فَينْجُو، فَأَخَذْتُ قَبْضَةً مِن حَمْأَةٍ فَضَرَبْتُ بِهَا فِي فَمِهِ، فَوَجَدْتُ اللهَ عَلَيْهِ أَشَدَّ غَضَبًا مِنِّي، فَأمَرَ مِيْكَائِيْلَ عليه السلام ليُعَيّرَهُ، فَقَالَ: {آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس: 91] ". أخرجه أبو الشيخ (2).
وبهذا علم أن قوله: "مَخَافَةَ أَنْ تُدْرِكَهُ الرَّحْمَةُ" لم يكن كراهة للإيمان، ولا رضى بالكفر؛ فإن الرضى بالكفر كفر.
(1) رواه الإمام أحمد في "المسند"(1/ 245)، والترمذي (3107)؛ وحسنه، و (3108) صححه، وابن حبان في "صحيحه"(6215)، والحاكم في "المستدرك"(7635).
(2)
انظر: "الدر المنثور" للسيوطي (4/ 387).
ولمَّا فهم ذلك الزمخشري حمله فهمه أن أنكر هذه اللفظة في الحديث، وقال: إنَّها من زيادات الباهتين لله ولملائكته (1)، وليس كما قال، وهو مخطئ فيه؛ فقد صحت هذه اللفظة في الحديث، وأطبقت عليها رواية الثقات من حديث ابن عباس، ومن حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم. "قَالَ لِي جِبْرِيْلُ عليه السلام: لَوْ رَأَيْتَنِي يَا مُحَمَّد وَأَنَا أَغُطُّ فِرعَونَ بِإِحْدَى يَدَيَّ، وَأَدُسُّ مِن الْحَال فِي فِيْهِ مَخَافَةَ أَنْ تُدْرِكَهُ رَحْمَةُ اللهِ فَيُغْفَرَ لَه". أخرجه ابن جرير، والبيهقي في "شعب الإيمان"(2).
وفي لفظ: "قَالَ لِي جِبْرِيْلُ عليه السلام: مَا كَانَ عَلَى الأَرْضِ شَيْءٌ أَبغَضَ إِليَّ مِنْ فِرْعَونَ، فَلمَّا آمَنَ جَعَلْتُ أَحْشُو فَاهُ حَمْأَةً، وَأَنَا أَغُطُّهُ خَشيَةَ أَنْ تُدرِكَهُ الرَّحْمَةُ". أخرجه الطَّبراني في "الأوسط"(3).
وقوله: "خَشْيَةَ أَنْ تُدْرِكَهُ الرَّحْمَةُ" بهذه اللفظة.
وأنكر الزمخشري هذه اللفظة، ولا وجه لإنكاره مع ثبوته، ولا فرق في المعنى بين الخشية والمخافة.
وأخرجه ابن مردويه عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما ولفظه:
(1) انظر: "تفسير الكشاف" للزمخشري (2/ 349).
(2)
رواه الطبري في "التفسير"(11/ 163)، والبيهقي في "شعب الإيمان"(9390) و (9391).
(3)
رواه الطبراني في "المعجم الأوسط"(5823).
قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "قَالَ لِيْ جِبْرِيْلُ عليه السلام: مَا غَضِبَ ربُّكَ عَلَى أَحَدِ غَضَبَهُ عَلَى فرْعَوْنَ إذْ قَالَ: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص: 38] وَإِذْ قَالَ: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات: 24]، فَلمَّا أَدْرَكَهُ الغَرَقُ اسْتَغَاثَ وَأَقْبَلْتُ أَحْشُو فَاهُ مَخَافَةَ أَنْ تُحْرِكَهُ الرَّحْمَةُ"(1).
وهذه الرواية توضح ما ذكرناه أن ذلك كان لعلم جبريل عليه السلام بأنَّ فرعون ليس من أهل الرحمة لعلمه بغضب الله تعالى عليه أشد الغضب.
وأشد الغضب إنما يستحقه الكافر الذي حيل بينه وبين الإيمان، أو كان مأموراً بفعل ذلك به، ففعل ذلك مخافة أن يسبقه فرعون بإيمان صادق نافع، فتحق المعصية على جبريل عليه السلام بمخالفة الأمر.
هذا ومن زعم أنَّ فرعون اَمن إيماناً نافعاً له في الآخرة منقذاً له من النَّار فقد صادم النُّصوص، وخالف الإجماع.
وما يحتج به بعض الجهال الضلال مما وقع في كلام الشيخ محيى الدين بن عربي في "الفصوص"، وغيره فليس بحجة بعد ثبوت خلافه بالحجج القاطعة.
وبناء كلام ابن العربي على اصطلاح الصوفية من إطلاق صفة الفرعونية على النفس الرَّدية حتى إذا أطلقوا اسم فرعون أرادوا به النفس
(1) ورواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق"(53/ 124)، وانظر:"الدر المنثور" للسيوطي (4/ 387).
أخذاً من قول سهل التستري رضي الله تعالى عنه: للنفس سر؛ لم يظهر ذلك السر إلا على فرعون حيث يقول: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات: 24](1).
وعلى هذا يجب حمل كلام ابن العربي، وقد رد عليه من فهم كلامه على ظواهره، وشنع لمخالفة نصوص الشريعة، وما ذكرته هنا متعين (2).
(1) تقدم تخريجه.
(2)
هذا تكلف زائد من المصنف رحمه الله في تأويل كلام ابن عربي الذي لا يختلف فيه اثنان، أو أن المصنف قد وقف على كلام له في موضع دون آخر، فمن كلامه في "الفتوحات المكية" (2/ 273): وأما قوله: {فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ} فما فيه نص أنه يدخلها معهم، بل قال الله:{أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ} ، ولم يقل: أدخلوا فرعون وآله، ورحمة الله أوسع من حيث أن لا يقبل إيمان المضطر، وأي اضطرار أعظم من اضطرار فرعون في حال الغرق، والله يقول:{أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} ، فقرن للمضطر إذا دعاه: الإجابة وكشف السوء عنه، وهذا - أي: فرعون - آمن لله خالصاً، وما دعاه في البقاء في الحياة الدنيا خوفاً من العوارض، أو يحال بينه وبين هذا الإخلاص الذي جاءه في هذا الحال، فرجح جانب لقاء الله على البقاء بالتلفظ بالإيمان، وجعل ذلك الغرق نكال الآخرة والأولى، فلم يكن عذابه أكثر من غم الماء الأجاج، وقبضه على أحسن صفة، هذا ما يعطي ظاهر اللفظ، وهذا معنى قوله:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى} ؛ يعني أخذه نكال الآخرة والأولى، وقدم ذكر الآخرة وأخر الأولى ليعلم أن ذلك العذاب - أعني: عذاب الغرق - هو نكال الآخرة، فلذلك قدمها في الذكر على الأولى، وهذا هو الفضل العظيم، انتهى بحروفه.
قلت: وفي هذا المقال ما يقضي لسانُ الشرع ولسان العربية ببطلانه، وقد صنف الأئمة والعلماء الثقات في الرد على كلامه هذا بما يطول إيراده هنا، =