الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وكان السلف يحبون الاقتصار في البنيان.
وقال سفيان الثوري رحمه الله تعالى: ما أنفقتُ درهماً في بناء. رواه أبو نعيم (1).
وقال الدينوري: حدَّثني ابن أبي الدنيا قال: حدثَّني عبد الله بن محمد قال: قرأت على دار مشيَّدة:
لَو كُنْتَ تَعْقِلُ يَا مَغْرُور مَا رقأت
…
دُمُوعُ عَينَيكَ مِن خَوفٍ ومِن حَذَرِ
مَا بَال قَوْمٍ سِهَامُ الموتِ تَخْطَفُهُمْ
…
يُفَاخِرُونَ بِرَفْعِ الطيْنِ والْمدَرِ (2)
*
فائِدَةٌ لَطِيْفَةٌ:
روى ابن عساكر عن يحيى بن أبي عمرو الشيباني قال: لمَّا بنى داود عليه السلام مسجد بيت المقدس نهى أن يدخل الرُّخام بيت المقدس لأنه الحجر الملعون؛ فخرَ على الحجارة فلعن (3).
*
تَنْبِيْهٌ:
قال في "القاموس": الصرح: القصر، وكل بناء عالٍ، وقصر لبخت
(1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(6/ 392).
(2)
رواه الدينوري في "المجالسة وجواهر العلم"(ص: 546).
(3)
رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق"(64/ 359).
نصر قرب بابل، انتهى (1).
وهذا يدل على أنَّ بخت نصر تابع نمرود وفرعون على بناء الصرح، إلَّا أنه قد يقال: إنَّ صرحه إنَّما كان قصراً يسكنه؛ فإنه لم يثبت أنه ادَّعى الألوهية.
لكن روى ابن عساكر عن الحسن رحمه الله تعالى: أنَّه لما قتل بني إسرائيل، وهدم بيت المقدس، وسار بسباياهم إلى أرض بابل، أراد أن يتناول السماء، فطلب حيلة يصعد بها، فسلَّط الله تعالى عليه بعوضة، فدخلت منخره، فوقفت في دماغه، فلم تزل تأكله وهو يضرب رأسه بالحجارة (2).
فهذا الأثر يدل على أنه وافق نمرود في اتخاذ الصرح لبلوغ السماء، وفي الموت ببعوضة، وهي من أضعف الخلق، وهو كان من أعظم الجبابرة.
وفي حديث حذيفة رضي الله تعالى عنه مرفوعاً: "إِنَّ اللهَ مَلَّكَ بخت نصَّر سَبْعَمِئَةِ سَنَةٍ، وإنَّهُ حاصَرَ بَني إِسْرائِيْلَ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَقتلَ مِنْهُمْ سَبْعِيْنَ ألْفاً عَلى دَمِ يَحْيى عليه السلام، وَسَلَبَ حُلِيَّ بَيْتِ الْمَقْدِسِ". أخرجه ابن جرير (3).
(1) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزآبادي (ص: 292)(مادة: صرح).
(2)
انظر: "الدر المنثور" للسيوطي (5/ 242).
(3)
رواه الطبري في "التفسير"(15/ 22).
وأخرج عن ابن زيد: أنه أحرق التوراة حتى لم يترك منها حرفاً، فقتله الله تعالى بخلق من أضعف خلقه عقوبة لكفره وجبروته (1).
والمؤمن ينجو بإيمانه، ولين عريكته، ولِجائِهِ إلى الله تعالى مما هلك فيه الفجار والجبارون.
وقد ذكر الإمام أبو بكر محمد بن الوليد الطرطوشي في كتاب "الدعاء" عن مطرف بن عبد الله بن مصعب المزني رضي الله تعالى عنه قال: دخلت على المنصور فرأيته مغموماً، فقال: يا مطرف! طرقني من الهم ما لا يكشفه إلا الله تعالى، فهل من دعاء أدعو به عسى يكشفه الله تعالى عني؟
قلت: يا أمير المؤمنين! حدثني محمد بن ثابت عن عمرو بن ثابت البصري قال: دَخَلتْ في أذن رجل من البصرة بعوضة حتى دخلت إلى صماخه، فأنصبته وأسهرته، فقال له رجل من أصحاب الحسن البصري: ادعُ بدعاء العلاء بن الحضرمي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: وما هو؟
قال: بعث العلاء بن الحضرمي رضي الله تعالى عنه إلى البحرين، فسلكوا مفازة، وعطشوا عطشاً شديداً حتى خافوا الهلاك، فنزل فصلى ركعتين، ثم قال: يا حكيم! يا عليم! يا علي! يا عظيم! اسقنا.
فجاءت سحابة، فأمطرت حتى ملؤوا الآنية وسقوا الركاب.
(1) رواه الطبري في "التفسير"(15/ 22).
ثم انطلقوا إلى خليج من البحر ما خيض قبل ذلك اليوم، فلم يجدوا سفناً، فصلى ركعتين، ثم قال: يا حكيم! يا عليم! يا علي! يا عظيم! أجزنا.
ثم أخذ بعنان فرسه، ثم قال: جُوزوا باسم الله.
قال أبو هريرة رضي الله تعالى عنه: فمشينا على الماء، فو الله ما ابتل لنا قدم، ولا خف، ولا حافر، وكان الجيش أربعة آلاف.
قال: فدعا الرجل بهما، فو الله ما خرجنا حتى خرجت البعوضة من أذنه لها طنين حتى صكت الحائط، وبرئ.
فاستقبل المنصور القبلة، ودعا بهذا الدعاء ساعة، ثم انصرف بوجهه إلي، وقال: يا مطرف! قد كشف الله ما كنت أجده من الهم.
وقد روى في صرح بخت نصر وموته روايةٌ أخرى، وذلك أن رجلاً صالحاً من بني إسرائيل أري في منامه، وكان قرأ قول الله تعالى لهم في كتابه:{لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا} [الإسراء: 4] إلى قوله: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا} [الإسراء: 7] فقال: ربِّ! أما الأولى فقد فاتتني، فأرني الآخرة.
فأتى وهو قاعد في مصلاه قد خفق رأسه، فقيل له: الذي سألت عنه سائل مسكين، واسمه بخت نصر، فذهب إلى بابل بمال يقسمه على المساكين، فجعل يقسمه رجلًا رجلًا، حتى أتى على ذكر بخت نصر،
وكان أكثرهم فاقة، وهو مقعد في خيمة يحدث فيها، يمر عليه السارون فيلقي إليه أحدهم الكسر ويأخذ بأنفه، فأتاه فقال له: ما اسمك؟
قال: بخت نصر.
قال: أرأيت إن ملكت يوماً من دهر أتجعل لي أن لا تعصيني؟
قال: أي سيدي! لا يضرك أن لا تهزأ بي.
فأعاد عليه: إن ملكت مرة أتجعل لي أن لا تعصيني؟
قال: أما هذه فلا أجعلها لك، ولكن سوف أكرمك كرامة لا أكرمها أحداً.
قال: دونك هذه الدنانير، ئم انطلق فلحق بأرضه، فقام بخت نصر فاستوى على رجليه، ثم انطلق فاشترى حماراً وأرساناً، ثم جعل يستعرض تلك الأجم فيجزها، فيبيعه، ثم قال: إلى متى هذا الشقاء؟
فباع الحمار والأرسان، فاكتسى كسوة، ثم أتى باب الملك، وكان ملك بابل إذ ذاك يقال له: الفرخان، وكان كافراً، فجعل يشير عليهم بالرأي، وترتفع منزلته حتى انتهى إلى بواب الفرخان الذي يليه، فقال له الفرخان: ذكر لي رجل عندك فما هو؟
قال: ما رأيت مثله قط.
قال: ائتني به.
فكلمه، فأعجب به.
قال: إن بيت المقدس تلك البلاد قد استعصوا علينا، وإنَّا باعثون
إليهم بعثاً، فابعث إلى البلاد من يختبرها.
فنظر البواب إلى رجال من أهل الأدب والمكيدة، فبعثهم جواسيس، فلما فصلوا إذا بخت نصر قد أتى بخرجيه على بغلة، قال: أين تريد؟
قال: معهم.
قال: أفلا آذنتني فأبعثك عليهم.
قال: لا.
ثم لما أتوا بيت المقدس تفرقوا، وسأل بخت نصر عن أفضل أهل البلد، فأتاه، فقال: ألا تخبرني عن أهل بلادك؟
قال: على الخبير سقطت؛ فهم قوم فيهم كتاب لا يقيمونه، وأنبياء لا يطيعونهم، وهم يتفرقون.
فكتب ذلك في ورقة ألقاها في خرجه، ثم رحل مع قومه، فرجعوا إلى الفرخان، فجعل يسأل الرجل منهم فيقول: أتينا بلاد كذا ولها حصن كذا.
قال: يا بخت نصر! ما تقول؟
قال: قدمنا أرضاً على قوم لهم كتاب لا يقيمونه، وأنبياء لا يطيعونهم، وهم متفرقون.
فأمن الفرخان، فبعث إليهم بسبعين ألفًا، وأمَّر بخت نصر عليهم، فساروا حتى علوا في الأرض أدركهم البريد أن الفرخان قد مات ولم يستخلف أحداً، فقال بخت نصر لمن معه: مكانَكم، ثم أقبل على
البريد حتى قدم بابل، فقال: كيف صنعتم؟
قالوا: كرهنا أن نقطع أمراً دونك.
قال: إن الناس قد بايعوني.
فبايعوه، ثم استخلف عليهم، وكتب بينهم كتاباً، ثم انطلق إلى أصحابه، فأراهم الكتاب، فبايعوه، ثم سار بهم إلى بيت المقدس، فتفرق بنو إسرائيل، فخرب بيت المقدس، وسلب وسبى أبناء الأنبياء فيهم دانيال، وأتاه ذلك العبد الصالح فعرفه، فأدنى مجلسه وأكرمه، ولم يشفعه في شيء، ثم عاد إلى بابل لا ترد له راية، فكان كذلك ما شاء الله، ثم رأى رؤيا أفظعته؛ رأى كأن رأسه من ذهب، وصدره من فخار، ووسطه من نحاس، ورجليه من حديد، فعبرها له أبناء الأنبياء الذين عنده، فقالوا: رأيت كان رأسك من ذهب؛ هذا ملكك يذهب عند رأس الحول من هذه الليلة.
قال: ثم مه؟
قال: يكون بعدك ملك يفخر على الناس، ثم يكون ملك يخشى على الناس شدته، ثم يكون ملك لا يقله شيء، إنما هو مثل الحديد؛ يعني: فأمر بحصن فبني له بينه وبين السماء، وهو الصرح، ثم جعل ينطقه بمقاعد الرجال والأحراس، ثم لما كانت الليلة التي تم فيها الحول قال لهم: إنما هي هذه الليلة لا يجوزن عليكم أحد - وإن كان أنا بخت نصر - إلا قتلتموه مكانه، فقعد كل الناس في مكانهم الذي وكلوا به، واهتاج بطنه من الليل، فكره أن يرى مقعده هناك، وضرب على أصمخة