الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهَذَا فَصْلٌ آخرُ في آدَابِ المُسْتَمِعِ لِتَتِمَّ الفَائِدَة
الأوَّل: أن يقدم بين يدي حضوره حسن النية والإخلاص، فينوي أن يسمع كلمة حكمة تدل على هدى، أو ترده عن رَدَى، وأن يطلب العلم ومجالس أهل الخير، وينظر إلى وجه العالم، ونحو ذلك لقوله صلى الله عليه وسلم:"إنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ"(1).
الثاني: أن يجعل سماعه ممن اشتهر بالفقه وتعليم الأحكام الشرعية، والكلام على إصلاح القلب في تهذيب الباطن لأنه أنفع لهم وأهم، و"من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين، ويلهمه رشده"(2) كما في الحديث.
وقد تقدم عن ابن سيرين: أنَّه أرشد في منامه إلى الجلوس في مجلس حميد بن عبد الرَّحمن؛ لأنه مجلس علم وفقه دون مجلس القصص الصرف.
الثالث: أن يقصد بسماعه وأخذه من اشتهر بالسنة والاتباع دون
(1) تقدم تخريجه.
(2)
تقدم تخريجه.
من اشتهر بشيء من الابتداع؛ فإن للصحبة تأثيرًا، وللكلام في القلوب نفوذًا، فلا يشرب قلبه إلا بما يرضى به ربه عز وجل.
روى الإمام أحمد في "الزُّهد" عن ميمون بن مهران رحمه الله تعالى قال: ثلاثة لا تبلونَّ نفسك بهن: لا تدخل على سلطان وإن قلت: آمره بطاعة الله، ولا تدخل على امرأة وإن قلت: أعلِّمها كتاب الله، ولا تصغين بسمعك إلى ذي هوى؛ فإنك لا تدري ما يعلق بقلبك منه (1).
وسيأتي في النهي عن التشبه بأهل البدع ما فيه غُنية.
الرابع: أن يحذر من اشتهر بالفسق وعَدم التحرز عن الحرام، أو بالدخول على السَّلاطين والأمراء، والتواضع لأهل الدُّنيا من غير ضرورة تدعوه إلى ذلك؛ فإن العالم إذا آثر الحياة الدُّنيا زلت موعظته عن القلوب، أو بالتصنع والسَّجع في الكلام تكلفًا؛ فإن موعظته قليلة الجدوى.
وليرغب في العالم الصَّالح النافع المستغني عن النَّاس المكتفي بما يرزقه الله تعالى من غير دخول في شيء مما ذكر، وإذا لم يتيسر له من هذا وصفه، فيكفيه أن يكون مستورَ الحال غيرَ متجاهرٍ بشيء مما ذكر.
وفي الحديث: "المَرْءُ عَلَى دِيْنِ خَلِيْلِهِ"(2).
(1) ورواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(4/ 85).
(2)
تقدم تخريجه.
وروى أبو نعيم في "الحلية" -وسنده ضعيف- عن جابر رضي الله تعالى عنه، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال:"لا تَجْلِسُوا عِنْدَ كُلِّ عَالِمٍ إِلَّا عَالِمًا يَدْعُوْكُمْ مِنْ خَمْسٍ إلَى خَمْسٍ، مِنَ الشَّكِ إلَى اليَقِيْنِ، وَمِنْ الرِّيَاءِ إلَى الإِخْلاصِ، وَمِنَ الرَّغْبَةِ إلَى الزُّهْدِ، وَمِنَ الكِبْرِ إلَى التَّواضُعِ، وَمِنَ العَداوَةِ إلَى النَّصِيْحَةِ"(1).
الخامس: أن يحسن اعتقاده فيمن يجلس إليه بعد أن يجتهد في الاصطفاء والاختيار، ولا يبحث عن عيوبه؛ فإن ذلك يحرمه الانتفاع به، وما ظهر له مما يخالف اعتقاده فيه تأوله بما يوافق الشرع ما أمكنه، وإلا سكت عنه، ولا يشتغل بغيبته لأنَّ هذا أمر مهلك، ثمَّ ينتفع بحكمته ويعرض عن زلته.
السادس: أن يجلس إذا حضر المذكر مستقبلًا وجهه، وإن أمكنه استقبال وجهه واستقبال القبلة فعل، وهو أحسن.
وقد روى عبد الرزاق عن معمر، عن الأزرق بن قيس قال: كنت جالسًا عند ابن عمر رضي الله تعالى عنهما والنَّاس يسألونه، وعبيد بن عمير يقص، فقال ابن عمر: خلوا بيننا وبين مذكرنا (2).
(1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(8/ 72)، وكذا الديلمي في "مسند الفردوس" (7449). وقال أبو نعيم: وهذا الحديث كلام كان شقيق كثيرًا ما يعظ به أصحابه والناس، فوهم فيه الرواة فرفعوه وأسندوه.
(2)
رواه عبد الرزاق في "المصنف"(5395).
وروى ابن أبي شيبة عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى قال: الواعظ قبلة (1).
السابع: أن يجلس على طهارة حسِّية ومعنوية، ويتنزه عن الوسخ وأكل ما فيه رائحة كريهة لئلا يؤدي جلساءه.
الثامن: أن ينوي حضور مجلس العلم والاعتكاف حيث كان في مسجد لما ورد في ذلك من الفضل.
قال عطاء الخراساني: إن مثل المعتكف مثل المحرِم، ألقى نفسه بين يدي الرَّحمن تبارك وتعالى فقال: والله لا أبرح حتى ترحمني. رواه البيهقي في "الشعب"(2).
وفي الحديث: "إِنَّ المُعْتَكِفَ يَجْرِي لَهُ مِنَ الأَجْرِ كَأَجْرِ عامِلِ الحَسَنَاتِ كُلِّها". رواه ابن ماجه، والبيهقيُّ، وضعفه من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما (3).
التاسع: أن يجلس ساكتًا ساكنًا خاضعًا متدبرًا لما يملى عليه ويلقى إليه، ولا يلفظ، ولا يكثر التَّلفت إلى الحاضرين، وليحذر من تشتيت نظره صونًا لطرفه أن يقع على أمرد جميل، أو على من يكون نظره إليه داعيًا إلى خوض فكره في غيبة مسلم أو إساءة الظَّن به، وهو في كل
(1) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(5237).
(2)
رواه البيهقي في "شعب الإيمان"(3970).
(3)
رواه ابن ماجه (1781)، والبيهقيُّ في "شعب الإيمان"(3964) وضعفه.
وقت مندوب إلى الإعراض عما لا يعنيه، وهنا آكد.
وقد روى البيهقي في "المدخل" عن أسامة [بن شريك] رضي الله تعالى عنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه كأنما على رؤوسهم الطَّير (1).
العاشر: أن يكون تدبره فيما يعود نفعه عليه مهما سمع ترغيبًا أو ترهيبًا، فإن سمع بفضل سأل الله تعالى التوفيق له، أو بمكروه سأله العياذ منه راجيًا خائفًا وَجِلًا، تائبًا منيبًا، سائلًا من الله تعالى حسن الخاتمة.
روى أبو عبد الله حسين المروزي في "زوائد الزهد" لابن المبارك عن يوسف بن مَاهِك قال: رأيت ابن عمر وهو عند عبيد بن عمير، وعبيد يقص، وابن عمر عيناه تهرقان دمعًا (2).
وتقدم نحو ذلك عن سفيان الثوري في مجلس صالح المري. وروى البيهقي عن مالك بن أنس رضي الله تعالى عنه قال: إن مجالس العلم تُحتضن بالخشوع والسَّكينة والوقار (3).
الحادي عشر: أن لا يتشوف في المجلس إلى وقوع شيء من
(1) رواه البيهقي في "المدخل إلى السنن الكبرى"(ص: 380)، وكذا أبو داود (3855). وقد تقدم لكن عزاه هناك للحاكم فقط.
(2)
رواه المروزي في "زوائد الزهد"(1/ 411).
(3)
رواه البيهقي في "المدخل إلى السنن الكبرى"(ص: 393).
الواعظ يذيعه عنه، ولا من أحد من الحاضرين كما يفعله كثير من الأسافل الذين لا يحضرون مجالس الخير إلا لذلك.
روى الإمام أحمد، وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَثَلُ الَّذِي يَجْلِسُ يَسْمَعُ الحِكْمَةَ وَلا يُحَدِّثُ عَنْ صاحِبِهِ إِلَّا بِشَرِّ مَا سَمِعَ، كَمَثَلِ رَجُلٍ أَتَى رَاعِيًا فَقَالَ: يَا رَاعِي! اجْزُرْ لِي شَاةً مِنْ غَنَمِكَ، قَالَ: اذْهَبْ فَخُذْ بِأُذُنِ خَيْرِهَا شَاةً، فَذَهَبَ فَأَخَذَ بِأُذُنِ كَلْبِ الغَنَمِ"(1).
وروى ابن جهضم عن يحيى بن معاذ الرَّازي رحمه الله تعالى قال: لا يحضر مجالس الذِّكر إلا ثلاثة: راغب، وطالب، وعائب.
فالراغب يريد بحضوره ما عند الله تعالى.
والطَّالب يريد بحضوره العلم والأدب.
والعَّائب يريد بحضوره إصابة عيب فيذيعه.
فلباب المجلس للرَّاغب، وفوائده للطَّالب، ووباله للعائب.
الثاني عشر: أن يعمل بما وُعِظَ به، ولا يقنع برقة قلبه ودمعة عينه في المجلس، فإذا قام منه نسي ما كان فيه، فإنما ثمرة العلم العمل.
قال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [النساء: 66 - 68].
(1) تقدم تخريجه.