الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقد وردت أحاديث وآثار تدل على ذم القصص، حتى قال إبراهيم النخعي: الحمد لله الذي لم يجعلنا ممن يذهب إلى قاصٍّ، ولا إلى بيعة، ولا إلى كنيسة. رواه أبو الفرج بن الجوزي في كتاب "القصاص والمذكرين"(1).
وقال أبو إدريس الخولاني رحمه الله تعالى: لأنَّ أرى في ناحية المسجد نارًا تأجج أحب إلى من أن أرى في ناحيته قاصًا يقص (2).
وإنما أنكر القصص من أنكره من السلف وذمَّه لأمور:
أحدها: أنَّه يشغل عما هو أهم منه من تعلم القرآن وتلاوته، ورواية الحديث، والتفقه في الدين.
الثاني: أن في القرآن والسنة من الموعظة ما يغني عما سواه.
الثالث: أنهم لما رأوا القُصَّاص لا يتحرَّون الصواب، ولا يتحرَّزون من الخطأ أنكروه.
ولفظ أثر أبي إدريس في رواية أبي نعيم في "الحلية": لأنَّ أرى في ناحية المسجد نارًا تَقِدُ أحب إلي من أن أرى فيها رجلًا يقص ليس بفقيه (3).
الرابع: أن القصاص لا يجتمع عليهم في الغالب إلا العوام، فربما
(1) رواه ابن الجوزي في "القصاص والمذكرين"(ص: 356).
(2)
رواه ابن الجوزي في "القصاص والمذكرين"(ص: 351).
(3)
رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(5/ 124).
أدخل الواحد منهم في قصصه ما يفسد قلوبهم.
الخامس: أن القصاص ربما حملوا عن أهل الكتاب في حق الأنبياء عليهم السلام ما هم منزهون عنه كما يذكر في قصة يوسف من المحالات.
السادس: أنهم ربما رغبوا في استمالة قلوب الناس إليهم فتوسعوا في أحاديث الرقائق، فوقعوا في الكذب؛ ولا سيما على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
السابع: أنهم ربما رأوا اجتماع الناس عليهم، فرأوا لهم فضلًا ومزية، فهلكوا.
ولما كان القصص مظنة هذه الآفات قال يزيد بن أبي حبيب رحمه الله تعالى: القاص ينتظر الفتنة.
وقال ميمون بن مهران رحمه الله تعالى: القاص ينتظر المقت من الله تعالى. رواهما ابن المبارك في "الزهد"(1).
وروى الطبراني بسند ضعيف، عن مجاهد، عن العبادلة رضي الله تعالى عنهم؛ وهم: ابن عمر، وابن عمرو، وابن الزبير، وابن عباس رضي الله تعالى عنهم؛ قالوا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "القَاصُّ يَنْتَظِرُ المَقْتَ، والمُسْتَمِعُ يَنتظِرُ الرَّحْمَةَ"(2).
(1) رواهما ابن المبارك في "الزهد"(1/ 17).
(2)
رواه الطبراني في "المعجم الكبير"(13567). قال ابن عديّ في "الكامل"(2/ 14): رواه بشر بن إبراهيم الأنصاري، منكر الحديث.
وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن أبي المليح رحمه الله تعالى قال: ذكر ميمون القاص فقال: لا يخطئ القاص ثلاثًا: إما أن يُسَمِّن قوله بما يهزل دينه، وإما أن يعجب بنفسه، وإما أن يأمر بما لا يفعل؛ قال: فلهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "القاصُّ يَنْتَظِرُ المَقْتَ"(1).
ولهذا توقف عمر رضي الله تعالى عنه في الإذن لتميم الداري رضي الله تعالى عنه حين استأذنه في القصص، ثمَّ أذن له.
فروى الطبراني بسند جيد، عن عمرو بن دينار: أن تميمًا الداري رضي الله تعالى عنه استأذن عمر في القصص، فأبى أن يأذن له، ثمَّ استأذنه فأبى أن يأذن له، ثمَّ استأذنه فقال: إن شئت -وأشار بيده؛ يعني: الذبح- (2).
وروى الإمام أحمد بسند صحيح، عن الحارث بن معاوية الكندي: أنَّه ركب إلى عمر رضي الله تعالى عنه، فسأله عن القصص، فقال له: ما شئت -كأنه كره أن يمنعه-.
قال: إنما أردت أن أنتهي إلى قولك.
قال: أخشى عليك أن تقص، ثمَّ ترتفع في نفسك، ثمَّ تقص فترتفع في نفسك حتى يُخَيَّل إليك أنك فوقهم بمنزلة الثريا، فيضعك الله تحت
(1) انظر: "تحذير الخواص من أحاديث القصاص" للسيوطي (ص: 202).
(2)
رواه الطبراني في "المعجم الكبير"(1249). قال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(1/ 190): رجاله رجال الصحيح.
أقدامهم يوم القيامة بقدر ذلك (1).
وقال الإمام عبد الله بن المبارك في "الزهد": أنا عبد العزيز بن أبي رواد عن نافع: أن تميمًا الداري رضي الله تعالى عنه استأذن عمر ابن الخطاب رضي الله تعالى عنه في القصص، فقال: إنه على مثل الذبح.
قال: إني أرجو العافية.
فأذن له، فجلس إليه -يعني: عمر- فقال تميم في قوله: اتقوا زلة العالم.
فكره عمر رضي الله تعالى عنه أن يسأله فيقطع بالقوم، وحضره منه فئام، فقال لابن عباس رضي الله تعالى عنهما: إذا فرغ فاسأله: ما زلة العالم؟
ثمَّ قام عمر، فجلس ابن عباس، فغفل غفلة، ففرغ تميم رضي الله تعالى عنه، وقام يصلي، وكان يطيل الصلاة، فقال ابن عباس: لو رجعت ثمَّ أتيته، وطال على عمر رضي الله تعالى عنه، فأتى ابن عباس فسأله، فقال: ما صنعت؟ فاعتذر إليه، فقال: انطلق؛ فأخذ بيده حتى أتى تميمًا الداري رضي الله تعالى عنهم، فقال له: ما زلة العالم؟
قال: العالم يزل بالناس فيؤخذ به، فعسى أن يتوب منه العالم، والناس يأخذون به.
(1) رواه الإمام أحمد في "المسند"(1/ 18).
ومن ثمَّ تعلم أن القصص لم يكره لذاته؛ فإن عمر أتى تميمًا وهو يقص بعد أن أذن له فيه.
وقال الحافظ المزي في "تهذيب الكمال": روى حماد بن سلمة عن ثابت قال: أول من قص عبيد بن عمير على عهد عمر بن الخطّاب رضي الله عنه (1).
وإنما كرهه من كرهه لما يخشى على القاص من الآفات لا مطلقًا؛ فإن القرآن العظيم مشحون بالقصص.
وقال الله تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} [يوسف: 3]
وقال تعالى: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} [هود: 120].
وقال تعالى: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} [الأعلى: 9].
وقال تعالى: {إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ} [الغاشية: 21].
وقال عز وجل: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل: 125].
وروى ابن أبي شيبة عن أوس رضي الله تعالى عنه قال: إنا لقعود عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقص علينا ويذكرنا (2).
(1) ورواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى"(5/ 463).
(2)
رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(26180)، وكذا الإمام أحمد في "المسند"(4/ 8)، وابن ماجه (3929).
وروى الإمام أحمد بإسناد حسن، عن رجل من أهل بدر رضي الله تعالى عنهم: أنَّه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لأَنْ أَقْعُدَ في مِثْلِ هَذَا المَجْلِسِ أَحَبَّ إِليَّ مِنْ أَنْ أعْتِقَ أَرْبَعَ رِقابٍ".
قال شعبة فقلت: أي مجلس تعني؟
قال: كان قاصًا (1).
وروى الشيخان عن أبي وائل قال: كان ابن مسعود رضي الله عنه يذكرنا في كل خميس، فقال له رجل: يا أبا عبد الرحمن! لوددت أنك لو ذكرتنا كل يوم.
فقال: أما إنه يمنعني من ذلك أني أكره أن أملَّكم، وإني أتخولكم بالموعظة كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخولنا بها مخافة السآمة علينا (2).
وروى الإمام أحمد، والطبراني في "الكبير" بإسناد جيد، عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على قاص يقص فأمسك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قُصَّ؛ فَلأَنْ أقْعُدَ غُدْوَةً -ولفظ الطبراني: قُصَّ فَلأَنْ أَقْعُدَ هَذَا المَقْعَدَ مِنْ حِيْنَ تُصَلِّي الغَدَاةَ- إِلَى أَنْ تُشْرِقَ الشَّمْسُ أَحَبُّ إليَّ مِنْ أَنْ أُعْتِقَ أَرْبَعَ رِقابٍ، وَبَعْدَ العَصْرِ حَتَّى
(1) رواه الإمام أحمد في "المسند"(3/ 474)، وكذا الدارمي في "السنن"(2780).
(2)
رواه البخاري (70)، ومسلم (2821).
تَغْرُبَ الشَّمْسُ أَحَبُّ إليَّ مِنْ أَنْ أُعْتِقَ أَرْبَعَ رِقابٍ" (1).
وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه أنَّه قال: ما تصدق مؤمن قط بصدقة أحب إلى الله من موعظة يعظ بها قومًا، فيتفرقون قد نفعهم الله بها (2).
وروى أبو نعيم في "الحلية" عن فرقد السبخي قال: قال عيسى ابن مريم عليهما السلام: طوبى للناطق في آذان قوم يستمعون كلامه؛ إنه ما تصدق رجل بصدقة أعظم أجرًا عند الله عز وجل من موعظة قوم يصيرون بها إلى الجنة (3).
وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن ابن سيرين رحمه الله تعالى قال: كان أبو هريرة رضي الله تعالى عنه يقوم كل خميس وجمعة فيتكلم (4).
وروى الخطيب في "تلخيص المتشابه" عن محمَّد بن عبادة بن زياد
(1) رواه الإمام أحمد في "المسند"(5/ 261)، والطبراني في "المعجم الكبير" (8013). قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (1/ 190): ورجال الطبراني موثقون إلا أن فيه أبا الجعد عن أبي أمامة، فإن كان هو الغطفاني، فهو من رجال الصحيح، وإن كان غيره فلم أعرفه.
(2)
ورواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق"(47/ 169).
(3)
رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(3/ 46).
(4)
ورواه الخطيب البغدادي في "الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع"(2/ 56).
المعافري قال: كنا عند أبي شريح وكثرت المسائل، فقال أبو شريح: قد درنت قلوبكم منذ اليوم، فقدموا إلى أبي حميد رضي الله عنه أصفوا قلوبكم، وتعلموا هذه الرغائب؛ فإنها تجدد العبادة، وتورث الزهادة، وتجر الصداقة، وأقلوا المسائل إلى ما نزل؛ فإنها تقسي القلب، وتورث العداوة (1).
وروى أبو نعيم في "الحلية" عن عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله تعالى قال: جلست مع سفيان الثوري في مسجد صالح المري، فرأيت سفيان الثوري يبكي، وقال: ليس بقاص؛ هذا نذير قوم (2).
وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: رأيت تميمًا الداري يقص في عهد عمر بن الخطّاب رضي الله تعالى عنه (3).
وقال مغيرة: كان إبراهيم التيمي يذكر في منزل أبي وائل، فجعل أبو وائل ينتفض كما ينتفض الطير (4).
وقال أيضًا: كان الحسن يقص، وكان سعيد بن جبير يقص (5).
وقال مجاهد: كان بريد بن شجرة يقص، وكان يوافق قوله فعله (6).
(1) ورواه المزي في "تهذيب الكمال"(8/ 40).
(2)
رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(6/ 167).
(3)
رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(26188).
(4)
رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(34909).
(5)
رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(26184) عن جرير.
(6)
رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(26186).
وقال أيضًا: كنا نفخر الناس بأربعة: بفقيهنا، وقاصنا، وبمؤذننا، وبقارئنا.
فقيهنا: ابن عباس، ومؤذننا: أبو محذورة، وقاصنا: عبيد بن عمير، وقارئنا: عبد الله بن السائب (1).
روى هذه الآثار ابن أبي شيبة.
فإن قلت: ما تصنع بما رواه ابن ماجه بسند حسن، عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: لم يكن القصص في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا زمن أبي بكر، ولا زمن عمر رضي الله عنهما (2).
وروى الإمام أحمد عن السائب بن يزيد بنحوه (3).
وروى ابن أبي شيبة عن نافع قال: لم يكن قاص في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا في زمن أبي بكر، ولا زمن عمر، ولا زمن عثمان رضي الله تعالى عنهم (4).
(1) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(26185).
(2)
رواه ابن ماجه (3754). وحسن العراقي إسناده في "تخريج أحاديث الأحياء"(1/ 27). لكن فيه عبد الله العمري ضعيف.
(3)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(3/ 449). قال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(1/ 190): رواه أحمد والطبراني في "الكبير" وفيه بقية بن الوليد، وهو ئقة مدلس.
(4)
رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(26190) عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنه، ولفظه:"لم يقص زمان أبي بكر ولا عمر إنما كان القصص زمن الفتنة".
وروى ابن عديّ عن الأعمش رحمه الله تعالى قال: اختلف أهل البصرة في القصص، فأتوا أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه فسألوه: أكان النبي صلى الله عليه وسلم يقص؟ فقال: لا (1).
فالجواب: أنا قدمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقص، وقد أمر قاصًّا أن يقص، وأن تميمًا والحارث بن معاوية وعبيد بن عمير كانوا يقصون في عهد عمر رضي الله تعالى عنهم؛ والمثبت مقدم على النافي.
ثمَّ إن القصص الذي أنكر ابن عمر ونافع كونه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين رضي الله عنهم ليس هو مجرد القص لما ثبت في الكتاب والسنة؛ إذ لا يمكن نفيه أصلًا، وإنما أنكروا ونفوا ما أحدثه القصاص من الاجتماع في وقت معين للقصص، وارتفاع الأصوات، والدعاء للأمير، ونحو ذلك.
وإن هذا لم يكن في عهده صلى الله عليه وسلم ولا في عهد خلفائه رضي الله عنهم، وإنما حدث في زمان معاوية رضي الله تعالى عنه كما رواه الزبير بن بكار في "أخبار المدينة" عن نافع وغيره.
وكذلك لم يقص رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذه الهيئة المخصوصة، بل كان يحدث أصحابه ويذكرهم ويعلمهم وكأن على رؤوسهم الطير، وعليه يحمل قول أنس رضي الله تعالى عنه.
على أن أبا طالب المكي ذكر عن حبيب بن أبي ثابت عن زياد
(1) رواه ابن عديّ في "الكامل"(7/ 218).
النميري قال: أتيت أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه وهو بالراوية، فقال لي: قُصَّ.
فقلت: كيف أقص والناس يزعمون أنَّه بدعة؟
فقال: ليس شيء من ذكر الله بدعة.
قال: فقصصت، فجعلتُ أكثَر قصصي دعاءً رجاءَ أن يؤمِّن.
قال: فجعلت أقص وهو يؤمِّن (1).
فعلم من هذا أن القصص إذا خلا عما يفعله القصاص لم يكن مذمومًا، وإنما المذموم ما أحدثوه.
وقد روى ابن أبي شيبة عن أبي عثمان قال: كتب عامل لعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: إن ها هنا قومًا يجتمعون، فيدعون للمسلمين وللأمير، فكتب إليه عمر رضي الله عنه: أقبل وأقبل بهم معك، فأقبل، فقال عمر للبواب: أعرني سوطًا، فلما دخلوا على عمر أقبل على أميرهم ضربًا بالسوط (2).
وروى ابن الجوزي عن أبي التياح قال: قلت للحسن: إمامنا يقص، فيجتمع الرجال والنساء، فيرفعون أصواتهم بالدعاء.
فقال الحسن: إن القصص بدعة، وإن رفع الصوت بالدعاء لبدعة، وإن مد الأيدي بالدعاء لبدعة، وإن اجتماع الرجال والنساء لبدعة (3).
(1) انظر: "قوت القلوب" لأبي طالب المكي (1/ 260).
(2)
رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(26191).
(3)
رواه ابن الجوزي في "القصاص والمذكرين"(ص: 301).
وقد عنَّ لي أن أذكر هنا فصلًا في آداب القاص والمذكر والواعظ، وهي ألفاظ متقاربة؛ فالواعظ: القائم بمنصب الوعظ، وهو تخويف يرق له القلب.
والمذكر: القائم بمنصب التذكير، وهو تعريف الناس بنعم الله عليهم وما يجب عليهم من الحقوق.
والقاص: القائم بمنصب القصص، وهو تتبع الأخبار والآثار عن من سلف، وإيرادها عن القوم؛ فإن كان لغرض صحيح كالموعظة والذكرى كان حسنًا مقبولًا، وإن كان لغير ذلك كان مردودًا؛ وليس من ذلك ذكر الأكاذيب، والخرافات، والأحاديث الموضوعة أصلًا؛ فإن تسمية ذلك كذبًا وخوضًا في الباطل أقرب من تسميته قصصًا، وهو واستماعه حرام باتفاق.
ومن القصص المحمود: قصص القرآن العظيم كما قال الله تعالى في سورة هود عليه السلام بعد ذكر قصَص قوم نوح، وقوم هود، وقوم صالح، وقوم لوط، وقوم شعيب، وفرعون وقومه:{وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [هود: 120].
ثمَّ المذكر والواعظ قد يكون وعظه وتذكيره بالقصص، وقد يكون بغيره، وهما محمودان على كل حال.
وأمَّا القاص فقد تكون قصصه للوعظ والتذكير، والدعوة والإرشاد إلى الله سبحانه وتعالى، فيكون محمودًا.
ثمَّ اعلم أنَّ الذي حضرني الآن من آداب الواعظ والمذكر والقاص عشرون أدبًا:
أحدها: أن تستأذن في ذلك الإمام أو نائبه كما استأذن تميم والحارث بن معاوية من عمر رضي الله تعالى عنهم.
وروى ابن ماجه بسند صحيح، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يقُصُّ عَلَى النَّاسِ إِلَّا أَمِيْرٌ، أَوْ مَأمُورٌ، أَوْ مُراءٍ"(1).
وفي الباب عن عوف بن مالك، وعبادة بن الصامت، وكعب بن عياض، وأبي هريرة رضي الله تعالى عنهم.
وروى الإمام أحمد عن عبد الجبار الخولاني قال: دخل رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد، فإذا كعب يقص؛ قال: من هذا؟ قالوا: كعب يقص.
قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يَقُصُّ إِلَّا أَمِيْرٌ، أَوْ مَأْمُوْرٌ، أَوْ مُخْتالٌ".
قال فبلغ ذلك كعبًا، فما رئي يقص بعد (2).
الثاني: حسن النية.
(1) رواه ابن ماجه (3753)، وكذا الإمام أحمد في "المسند"(2/ 178).
(2)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(4/ 233). وحسن الهيثمي إسناده في "مجمع الزوائد"(1/ 190).
لقوله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّمَا الأَعْمالُ بِالنِّياتِ"(1).
فليخلص ولا يرائي ولا يتطلَّع إلى شهرة ولا إلى شيء من أغراض الدُّنيا.
وروى أبو بكر المروزي في كتاب "العلم" عن سفيان بن عيينة قال: قيل لطاوس رحمه الله تعالى: ذَكِّرنا.
فقال: لم تحضرني حسبة في ذلك (2)؛ أي: نية صحيحة.
وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن صفوان بن عمرو قال: كان خالد بن معدان رحمه الله تعالى إذا عظمت حلقته قام فانصرف.
قيل لصفوان: ولم كان خالد يقوم؟
قال: كان يكره الشُّهرة (3).
وروى أبو الشُّيخ عن مالك بن دينار رحمه الله تعالى: أنَّه قرأ هذه الآية: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ} [هود: 88]، قال: بلغني أنَّه يدعى يوم القيامة بالمذكِر الصالح فيوضع على رأسه تاج الملك، ثمَّ يُؤمر به إلى الجنَّة، فيقول: إلهي! إنَّ في مقام القيامة أقوامًا كانوا يعينوني في الدُّنيا على ما كنت عليه.
(1) تقدم تخريجه.
(2)
ورواه ابن المبارك في "الزهد"(1/ 20)، والفسوي في "المعرفة والتاريخ"(1/ 399) عن داود بن سابور عن طاوس.
(3)
ورواه ابن أبي الدنيا في "التواضع والخمول"(ص: 72).
قال: فيفعل بهم مثلَما فعل به، ثمَّ ينطلق يقودهم إلى الجنَّة لكرامته على الله تعالى (1).
فحسن نية المذكِّر سبب لسعادته وسعادة من يتذكر به؛ وناهيك بهذا مقامًا!
وأحب للمذكر والمدرس، والمفتي والناصح أن يستعين بهذه الآية على أمره.
قال أبو إسحاق الفزاري رحمه الله تعالى: ما أردت أمرًا قط فتلوت عنده هذه الآية إلَّا عُزم على الرشد: {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88]. أخرجه أبو الشيخ (2).
الثالث: أن يكون عالمًا بالأحكام الشَّرعية، عارفًا بالناسخ والمنسوخ وغيرهما من علوم التفسير والحديث، ومن لم يتأهل لذلك وتعاطى الوعظ والقص، فقد ظلم نفسه، وعرَّضها للمقت.
روى ابن أبي شيبة، وأبو داود في "الناسخ والمنسوخ"، وغيرهما عن أبي عبد الرحمن السلمي رحمه الله تعالى قال: مرَّ علي بن أبي طالب رضي الله عنه برجل يقص فقال: أعرفت الناسخ من المنسوخ؟
قال: لا.
(1) انظر: "الدر المنثور" للسيوطي (4/ 468).
(2)
انظر: "الدر المنثور" للسيوطي (4/ 468).
قال: هلكت وأهلكت (1).
وروى الطَّبراني نحو ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما (2).
وسبق قول أبي إدريس الخولاني: لأنَّ أرى في ناحية المسجد نارًا تقد أحب إليَّ من أن أرى فيها رجلًا يقص ليس بفقيه.
الرابع: أن لا يخلو مجلسه من الفقه وبيان الأحكام الشرعية لأنَّ العامة أكثر ما يعتبرون قول من هذا منصبه.
وروى عبد الله ابن الإمام أحمد عن ابن سيرين رحمه الله تعالى قال: دخلت المسجد فإذا حميد بن عبد الرَّحمن يذكر العلم، وإذا بسعيد بن عبد الرَّحمن يقص في ناحية، فقلت: إلى أيهما أجلس؟
قال: فلم أقعد إلى واحد منهما، ووضعت رأسي إلى سارية، فنمت، فأتاني آتٍ في المنام فقال لي: أمثلت بينهما؟ لئن شئت لنرينَّك مقعد جبريل عليه السلام من حميد بن عبد الرَّحمن؛ يعني: الحميري (3).
وروى الخطيب عن يزيد الرَّقاشي، عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لأَنْ أَجْلِسَ مَعَ قَومٍ يَذْكُرُونَ اللهَ مِنْ غُدْوَةٍ إلَى طُلُوعِ
(1) رواه عبد الرزاق في "المصنف"(5407)، وكذا أبو عبيد في "الناسخ والمنسوخ" (ص: 3).
(2)
رواه الطبراني في "المعجم الكبير"(10603).
(3)
انظر: "تحذير الخواص من أكاذيب القصاص" للسيوطي (ص: 210).
الشَّمسِ أَحَبُّ إِليَّ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمسُ، وَمِنَ العَصْرِ إلَى غُرُوْبِها أَحَبُّ إليَّ مِنْ كَذَا وَكَذَا" (1).
قال يزيد: كان أنس إذا حدَّث بهذا الحديث أقبل عليَّ وقال: والله ما هو بالذي تصنع أنت وأصحابك، ولكنهم قوم يتعلمون القرآن والفقه (2).
الخامس: معرفة علم المعاملات، وإصلاح القلوب.
روى أبو نعيم في "الحلية" عن شريح قال: كنت مع عَليِّ بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه في سوق الكوفة، فانتهى إلى قاص يقص، [فقال: أيها القاص تقص] (3) ونحن قريبو العهد! أما إني أسألك، فإن خرجت عما أسألك وإلا أدبتك.
قال القاص: سل يا أمير المؤمنين عما شئت.
فقال عليٌّ رضي الله تعالى عنه: ما ثبات الإيمان وزواله؟
فقال القاص: ثبات الإيمان الورع، وزواله الطَّمع.
قال عليٌّ رضي الله تعالى عنه: صدقت (4).
(1) رواه الخطيب البغدادي في "الفقيه والمتفقه"(1/ 91)، وكذا أبو يعلى في "المسند"(4125).
(2)
رواه الخطيب البغدادي في "الفقيه والمتفقه"(1/ 91).
(3)
ما بين معكوفتين من "ت".
(4)
رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(4/ 136).
وفي "الإحياء"، وغيره: إن هذا القاص هو الحسن البصري (1). ويجب عليه أن لا يستكثر من ذكر الرخص، وأحاديث الرَّجاء بحيث يؤمنهم من مكر الله تعالى، ولا يخوفهم تخويفًا يقنطهم من رحمة الله تعالى، بل ينبغي أن يكون تارة في ترجيه، وتارة في تخشيه، ولا بأس بتغليب جانب الخوف شيئًا على جانب الرَّجاء، خصوصًا إذا كان بحضرة العوام وأهل التخليط، وهو اللائق في هذا الزمان.
روى الإمام أحمد في "الزُّهد" عن المعلى بن زياد قال: سمعت المغيرة بن مخارش قال للحسن: يا أبا سعيد! إنَّ لنا علماء ومذكِّرين يخوفونا حتى يكادوا يخلعون قلوبنا، وآخرين في حديثهم سهولة.
فقال الحسن: أيها الرجل! إن من خوفك حتى تلقى الأمن خير لك ممن أمنك حتى تلقى المخافة.
وليس مراد الحسن رحمه الله تعالى أن يغلب جانب الخوف إلى أقصاه بحيث يُقَنِّط المخوف من رحمة الله تعالى، بل يخوف تارة، ويرجي أخرى مع ترجيح جانب الخوف.
وفي "مسند ابن وهب" عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أَلا أُنْبِئُكُمْ بِالفَقِيْهِ كُلِّ الفَقِيْهِ؟ ".
قالوا: بلى.
قال: "مَنْ لا يُقَنِّطِ النَّاسَ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ، وَلا يُؤَيِّسهُم مِنْ رَوْحِ الله،
(1) في "البداية والنهاية" لابن كثير (9/ 24): أن القاص هو نوف البكالي.
وَلا يُؤَمِّنَهُم مِنْ مَكْرِ اللهِ، ولا يَدَعُ القُرآنَ رَغْبَةً عَنْهُ إلَى ما سِواهُ، أَلا لا خَيْرَ في عِبَادَةٍ لَيْسَ فِيْها تَفَقُّهٍ، وَلا عِلْمٍ لَيْسَ فِيْهِ تَفَهُّمٍ، وَلا قِراءَةٍ لَيْسَ فِيْهَا تَدَبُّرٍ" (1).
السادس: أن لا يعدل في قصصه عن الكتاب والسنة، ويحترز عما في كتب الوعظ والقصص والتواريخ مما تساهل فيه مؤلفوها.
روى البزار، وأبو يعلى، والمفسرون، وابن حبَّان في "صحيحه"، والحاكم وصححه، عن سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه قال: أُنزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتلاه عليهم زمانًا، فكأنهم ملوا، فقالوا: يا رسول الله! لو حدَّثتنا، فأنزل الله تعالى قوله:{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} [الزمر: 23] الآية.
فقالوا: يا رسول الله! لو قصصت علينا، فأنزل الله عز وجل:{نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} [يوسف: 3] الآية.
فقالوا: يا رسول الله! لو ذكرتنا ووعظتنا، فأنزل الله عز وجل:{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} [الحديد: 16](2).
وروى عبد بن حميد عن قيس بن سعد قال: جاء ابن عبَّاس
(1) ورواه ابن الضريس في "فضائل القرآن"(ص: 75) موقوفًا.
(2)
رواه البزار في "المسند"(1153)، وأبو يعلى في "المسند"(740)، والطبري في "التفسير"(12/ 150)، وابن حبَّان في "صحيحه"(6209)، والحاكم في "المستدرك"(3319).
رضي الله تعالى عنهما حتَّى وقف على عبيد بن عمير وهو يقص، فقال:{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا} [مريم: 41]، {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ} [مريم: 54] الآية، {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ} [مريم: 56] الآية، حتَّى بلغ:{أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ} [مريم: 58].
قال ابن عبَّاس: ذكِّرنا بأيام الله، وأثنِ على من أثنى الله عليه (1).
وقال عبد الرَّزَّاق: عن معمر قال: أخبرني من سمع الحسن يقص يقول في قصصه: [من الخفيف]
لَيْسَ مَنْ ماتَ فاسْتَراحَ بِمَيْتٍ
…
إِنَّما الْمَيْتُ مَيِّتُ الأَحْياءِ
قال معمر: ورأيت عطاء الخراساني يقص بالسنن (2).
وفيه: أنَّه لا بأس بإنشاد القاص والمذكر الشعر المشتمل على الموعظة.
السابع: أن لا يتكلم في مجلسه بما لا تحتمله عقول جلسائه.
قال الحافظ زين الدين العراقي في كتاب "الباعث على الخلاص من حوادث القصاص": ومن آفاتهم أن يحدِّثوا لكثير من العوام مما لا تبلغه عقولهم، فيقعوا في الاعتقادات السيئة.
(1) انظر: "الدر المنثور" للسيوطي (5/ 525).
(2)
رواه عبد الرزاق في "المصنف"(5403).
هذا إذا كان صحيحًا، فكيف إذا كان باطلًا (1)؟
وقد قال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: ما أنت تحدث قومًا حديثًا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة. رواه مسلم في مقدمة "صحيحه"(2).
وروى الدينوري في "المجالسة" عن سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه أنَّه قال: لو حدَّثت الناس بكل ما أعلم لقالوا: رحم الله قاتل سلمان (3).
الثامن: أن يحترز من الكذب في الأحاديث النبوية والآثار.
وَقَلَّ أن يسلم قاص من ذلك، فمن ثمَّ قال الإمام أحمد رضي الله تعالى عنه: كذب الناس السُّوَّال والقصاص (4).
وروى البخاري، والترمذي، والنَّسائي، وابن ماجه عن أنس رضي الله تعالى عنه: إنه ليمنعني أن أحدِّثكم حديثا كثيرًا: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ تَعَمَّدَ عَلَيَّ كَذِبًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ"(5).
(1) انظر: "تحذير الخواص من أكاذيب القصاص" للسيوطي (ص: 180).
(2)
انظر: "مقدمة صحيح مسلم"(1/ 11).
(3)
رواه الدينوري في "المجالسة وجواهر العلم"(ص: 310).
(4)
انظر: "قوت القلوب" لأبي طالب المكي (1/ 260).
(5)
رواه البخاري (108)، والترمذي (2661)، والنسائيُّ في "السنن الكبرى"(5913) وابن ماجه (32)، وكذا مسلم (2).
التاسع: أن لا يروي حديثاً ولا أثرًا حتى يتثبت فيه، وإن أشكل عليه شيء منه قال: أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
روى الدارمي، وابن ماجه، والدَّارقطني عن ابن سيرين قال: كان أنس رضي الله تعالى عنه قليل الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان إذا حدَّث عن النَّبي صلى الله عليه وسلم ففرغ منه قال: أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (1).
وروى الدارمي، والدارقطني عن أبي الدَّرداء رضي الله تعالى عنه: أنه كان إذا فرغ من الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: هذا أو نحوه، أو شبهه، أو شكله (2).
وروي عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه نحو ذلك (3).
العاشر: أن لا يروي حديثًا سمعه من غير علماء الحديث، أو نظره في كتاب حتى يتثبت فيه ويعلم من أي أصل هو.
قال العراقي: ثمَّ إنهم -يعني: القصاص- ينقلون حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير معرفة بالصحيح والسقيم.
قال: وإن اتفق أنه يذكر حديثاً صحيحاً كان آثمًا في ذلك لأنه ينقل ما لا علم به، وإن صادف الواقع كان آثمًا بإقدامه على ما لا يعلم.
قال: وأيضًا فلا يحل لأحد ممن هو بهذا الوصف أن ينقل حديثًا
(1) رواه الدارمي في "السنن"(276)، وابن ماجه (24).
(2)
رواه الدارمي في "السنن"(268).
(3)
رواه الحاكم في "المستدرك"(378).
من الكتب ولو من "الصَّحيحين" ما لم يقرأه على من يعلم ذلك من أهل الحديث.
قال: وقد حكى الحافظ أبو بكر بن خير اتفاق العلماء أنَّه لا يصح لمسلم أن يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا حتى يكون عنده ذلك القول مرويًا ولو على أقل وجوه الروايات؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِن النَّارِ"(1).
وفي بعض الروايات: "مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ" من غير تقييد (2).
وروى عبد الكريم بن السمعاني في "ذيله على تاريخ بغداد" عن أبي عبد الرحمن السلمي رحمه الله تعالى قال: قال عمر بن الخطّاب رضي الله تعالى عنه: إذا وجد أحدكم كتاباً فيه علم لم يسمعه من عالم فَلْيَدعُ بإناء وماء، وينقعه فيه حتى يختلط سواده ببياضه (3).
الحادي عشر: التخفيف وعدم الإكثار، والتخول بالموعظة من غير إملال؛ لحديث ابن مسعود المتقدم رضي الله عنه.
و[روى] البيهقي في "المدخل": أن عمر بن الخطاب صلى الله عليه وسلم قال على المنبر: يا أيها الناس! لا تبغضوا الله في عباده.
قال: فقال قائل: وكيف ذلك أصلحك الله؟
(1) تقدم تخريجه قريبا.
(2)
انظر: "تحذير الخواص من أكاذيب القصاص" للسيوطي (ص: 107 - 108).
(3)
ورواه الخطيب البغدادي في "الكفاية في علم الرواية"(ص: 352).
قال: يجلس أحدكم قاصًا فيطول على النَّاس حتى يبغض إليهم ما هم فيه (1).
وروى ابن سعد في "طبقاته" عن عطاء قال: دخلت أنا وعبيد بن عمير على عائشة رضي الله تعالى عنها فقالت: من هذا؟
فقال: أنا عبيد بن عمير.
قالت: قاص أهل مكة؟
قال: نعم.
قالت: خفف؛ فإن الذكر ثقيل (2).
ولا ينبغي المبالغة في التخفيف بحيث يسرد أشياء ويقوم، بل يختصر بما يؤدي ويتأنى فيه.
ولا بأس بتكرار ما يهتم بتفهيمه ثلاثًا؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان إذا تكلم بكلمة رددها ثلاثًا. رواه البخاري عن أنس رضي الله تعالى عنه (3).
وفي رواية: أعادها ثلاثًا فتعقل عنه (4).
وروى البخاري عن عروة قال: جلس أبو هريرة إلى جنب حجرة عائشة رضي الله عنها، فلما قضت صلاتها قالت لابن أختها: ألا تعجب
(1) رواه البيهقي في "شعب الإيمان"(8139).
(2)
رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى"(5/ 463).
(3)
رواه البخاري (94).
(4)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(3/ 213).
إلى هذا وحديثه؟ إن النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان يحدِّث حديثًا لو عدَّه العادُّ أحصاه (1).
وروى مسلم عن عروة: أن عائشة قالت: ألا يعجبك أبو هريرة؟ جاء فجلس إلى جنب حجرتي يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمعني ذلك، وكنت أسبح، فقام قبل أن أقضي سبحتي، ولو أدركته لرددت عليه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يسرد الحديث كسردكم (2).
وفي رواية ابن المبارك: ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسرد الحديث كسردهم؛ إنما كان حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلًا تفهمه القلوب (3).
والأولى الأحسن أن يكون كلام المذكر، بل كلام العالم مطلقًا قصدًا بين الإفراط والتفريط، لا إسهاب ممل، ولا إيجاز مخل، ولا خدرفة لا تفهم.
ولعل ضرر الإفراط هنا أشد من ضرر التفريط.
روى ابن أبي الدُّنيا في "المداراة" عن محمَّد بن سعيد قال: بلغني أن قاصًا قصَّ على بني إسرائيل حتى أملَّهم، فلُعن ولُعنوا (4)؛ أي: لعن بسبب إملاله إياهم، ولعنوا بسبب تبرمهم من الذِّكر وملالهم.
(1) رواه البخاري (3375).
(2)
رواه مسلم (2493).
(3)
ورواه أبو يعلى في "المسند"(7/ 357).
(4)
ورواه السمعاني في "أدب الاستملاء"(ص: 66).
وروى فيه عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: حدِّث القوم ما أقبلت عليك قلوبهم، فإذا انصرفت قلوبهم فلا تحدِّثهم.
قيل له: ما علامة ذلك؟
قال: إذا حدقوك بأبصارهم، فإذا تثاءبوا أو اتكأ بعضهم على بعض فقد انصرفت قلوبهم، فلا تحدِّثهم (1).
وروى أبو نعيم عن الزُّهريِّ رضي الله تعالى عنه قال: إذا طال المجلس كان للشَّيطان فيه نصيب (2).
الثاني عشر: أن يرى نفسه واحدًا من أهل المجلس، ولا يجد لنفسه على أحد منهم مزية.
روى ابن عساكر عن بكير: أن تميمًا الدَّاريَّ استأذن عمر رضي الله تعالى عنه في القصص، فقال له عمر: أتدري ما تريد؟ إنك تريد الذبح؛ ما يؤمنك أن ترفعك نفسك حتى تبلغ السماء، ثمَّ تضعك (3).
وتقدم: أن عمر قال للحارث بن معاوية قريبًا من هذا.
وروى الإمام عبد الله بن المبارك في "الزُّهد" عن الحسن رحمه الله تعالى -مرسلًا - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يَغُزَّنَّ الرَّجُلَ مِنْ نَفْسِهِ
(1) ورواه الخطيب البغدادي في "الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع"(1/ 330).
(2)
رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(3/ 366).
(3)
رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق"(11/ 81).
كَثْرَةُ النَّاسِ حَوْلَهُ" (1).
الثالث عشر: أن لا يتصنع لمجلس الوعظ بتحسين ثياب، ولا بتخشينها زيادة عن عادته، ولا يظهر البكاء والخشوع إلا إذا غلبه البكاء، ولا يتشدق في الكلام، ولا يسجعه، ولا يقبل على بعض السامعين دون بعض إلا إن اقتضت حكمة أو نصيحة خاصة لما في الرياء والتصنع من الإثم.
وروى الإمام أحمد، وابن أبي شيبة، وأبو يعلى، وابن السني بإسناد صحيح، عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: إياك والسَّجع، فإن النَّبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم كانوا لا يسجعون (2).
وروى ابن أبي شيبة عنها أنها قالت لابن أبي السَّائب قاصِّ مكةَ: اجتنب السَّجع في الدُّعاء؛ فإنِّي عهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهم لا يفعلون ذلك (3).
وروى الأستاذ أبو القاسم القشيري عن أبي عثمان قال: قال أبو حفص -يعني: النيسابوري-: إذا جلست للناس فكن واعظًا لقلبك
(1) رواه ابن المبارك في "الزهد"(1/ 292).
(2)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(6/ 217)، وابن أبي شيبة في "المصنف"(29164)، وأبو يعلى في "المسند"(4475). وحسن العراقي إسناده في "تخريج أحاديث الإحياء"(1/ 27).
(3)
رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(29164).
ولنفسك، ولا يغرنك اجتماعهم عليك؛ فإنهم يراقبون ظاهرك، والله رقيب باطنك (1).
وقال الدِّينوري في "المجالسة": حدَّثنا إبراهيم الحربيُّ قال: ثنا داود بن رشيد قال: كان ابن السَّمَّاك يعظ النَّاس يومًا فطول، فلمَّا فرغ دخل إلى منزله وكانت له جارية عاقلة، فقال لها: كيف رأيت كلامي؟
فقالت: حسن لولا أنك تكرر وتردد.
فقال لها: أنا أكرر وأردد حتى يَفْهَمَهُ من لا يَفْهَمُه.
فقالت: إلى أن تُفْهِمَهُ من لا يَفْهَمُهُ! قد نسي من قد فَهِمَهُ.
فعجب من حسن قولها ومن فطنتها (2).
وروى أبو نعيم في "الحلية" عن حبيب بن أبي ثابت قال: إن من السنَّة إذا حدَّث الرَّجل القوم أن يقبل عليهم جميعًا، ولا يختص أحدًا دون أحد (3).
الرابع عشر: أن لا يحث المستمعين على رفع الصَّوت ولا يستثيرهم لذلك، بل ينبغي أن يعلمهم السَّكينة والوقار.
ففي الحديث عن عليٍّ رضي الله تعالى عنه: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كان لا ترن في مجلسه الأصوات. رواه الترمذي في "الشَّمائل"(4).
(1) رواه القشيري في "رسالته"(ص: 227).
(2)
رواه الدينوري في "المجالسة وجواهر العلم"(ص: 246).
(3)
رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(5/ 61).
(4)
رواه الترمذي في "الشمائل المحمدية"(ص: 278).
وروى ابن السكن في "معرفة الصَّحابة" عن الحسن قال: أول من قص هنا -يعني: بالبصرة- الأسود بن سريع، فارتفعت أصواتهم، فجاء مجالد بن مسعود السلمي الصَّحابي رضي الله عنه فقال الأسود: وسِّعوا لأبي عبد الله.
فقال: والله ما أتيتكم لأجلس، لكني رأيتكم صنعتم اليوم شيئًا أنكره المسلمون؛ فإياكم وما أنكر المسلمون (1).
ورواه ابن المبارك في "الزهد"، ولفظه: كان الأسود بن سريع من أول من قص في هذا المسجد -يعني: مسجد البصرة- وكان يقص في مؤخر المسجد، فارتفعت أصواتهم يومًا، فانتهرهم أهل مقدم المسجد، فأقبل مجالد بن مسعود السلمي رضي الله تعالى عنه حتى قام عليهم، فوسَّعوا له، فقال: ما جئت لأجلس -وإن كنتم جلساء صدق- ولكن علت أصواتكم فانتهركم أهل المسجد؛ فإياكم وما أنكر المسلمون رحمكم الله تعالى.
قالوا: رحمك الله! نقبل نصيحتك (2).
وروى أبو نعيم في "الحلية" عن حبيب بن أبي ثابت قال: إنَّ من السنة إذا حدَّث الرجل القوم أن يقبل عليهم جميعًا (3).
(1) انظر: "تحذير الخواص من أحاديث القصاص" للسيوطي (ص: 183).
(2)
رواه ابن المبارك في "الزهد"(1/ 232).
(3)
تقدم تخريجه قريبًا.
الخامس عشر: أن يقطع طمعه عن من حضره فلا يجمع منهم دراهم، ولا يتشوف منهم إلى شيء؛ لأنَّ العلم والهدى لا يؤخذ عليه أجر ولا طمع.
والآيات والأحاديث في ذلك معروفة.
وروى ابن لال في "مكارم الأخلاق" عن ابن مسعود رضي الله عنه، عن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"مَكْتُوبٌ في الكِتَابِ الأَوَّلِ: يَا ابنَ آدَمَ! عَلِّم مَجَّانًا كَمَا عُلِّمْتَ مَجَّانًا"(1).
وروى ابن الجوزي عن أبي زرعة الرازيِّ رحمه الله تعالى: أنَّ قاصًا بعث إليه يسأله أن يقبله، ويقول: أنا على مذهبك، وأنا رجل نوَّاح أنوح وأنوح.
فقال أبو زرعة: إنما النَّواح لمن يدخل بيته ويغلق بابه، وينوح على ذنوبه، فأمَّا أن تخرج إلى أصبهان وفارس، وتجول الأمصار في النَّوْح فأنا لا أقبل هذا منك، هذا من أفعال المتأكلة الذين يطلبون الدَّراهم والدَّنانير، ولم يقبله (2).
وروى الأستاذ أبو القاسم القشيري في "رسالته" عن محمَّد بن محمَّد بن الأشعث البيكندي أنَّه قال: من تكلم في الزهد، ووعظ الناس،
(1) ورواه الديلمي في "مسند الفردوس"(6387)، وتقدم نحوه عن أبي العالية، وأنس رضي الله عنه.
(2)
رواه ابن الجوزي في "القصاص والمذكرين"(ص: 338).
ثمَّ رغب في مالهم، نزع الله حب الآخرة من قلبه (1).
السادس عشر: أن يجلس في مجلس التذكير مستقبل القبلة، مقبلًا على القوم في تؤدة ووقار، يغضب لله تعالى إذا أورد ترهيبًا أو وعيدًا فيما الناس فيه من المخالفات والمنكرات، غير ملاحظ لأحد من الحاضرين، ولا مراع له في شيء يخالف الدين والشرع، ولا متصفصف في هيئة، ولا في إيراد، ولا متصنع، مراقبًا لله تعالى في جميع حركاته وسكناته، غير شاهد لنفسه كمالًا ولا حالًا ولا مقامًا.
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب احمرَّت عيناه، وعلا صوته، واشتدَّ غضبه كأنه منذر جيش؛ يقول:"صَبَّحَكُم مَسَّاكُم" كما رواه ابن ماجه، وابن حبَّان، والحاكم -وصححاه- عن جابر رضي الله تعالى عنه (2).
وتقدم قول سفيان وقد حضر صالحًا المري رحمهما الله تعالى في قصصه: هذا ليس بقاص، هذا نذير قوم.
السابع عشر: أن يختار للتذكير يوم الخميس كما كان ابن مسعود رضي الله تعالى عنه يصنع، وهو في "الصَّحيحين" كما تقدَّم.
أو يوم الجمعة لما روى ابن عساكر عن حميد بن عبد الرحمن: أن تميمًا الدَّاريَّ استأذن عمر رضي الله تعالى عنهما في القصص، فأبى
(1) رواه القشيري في "رسالته"(ص: 154).
(2)
رواه ابن ماجه (45)، وابن حبَّان في "صحيحه"(10)، وكذا مسلم (867).
أن يأذن له، فأذن له في يوم واحد، فلمَّا أكثر عليه قال: ما تقول؟
قال: أقرأ عليهم القرآن، وآمرهم بالخير، وأنهاهم عن الشَّر.
قال: قال عمر: ذلك الذَّبح.
ثمَّ قال: عِظْ قبل أن أخرج إلى الجمعة.
وكان يفعل ذلك يومًا واحدًا في الجمعة (1).
وإنما وقع الاختيار على هذين اليومين؛ لأنَّ يوم الجمعة كانوا يتفرغون فيه للآخرة خصوصًا أوَّل النهار، ولا شك أن سماع الذكر من أعمال الآخرة.
وأمَّا يوم الخميس فكانوا يتأهبون فيه للجمعة، وسماع الذكر والوعظ والحث على أخذ أهبتها.
الثامن عشر: أن يختار للتذكير أوَّل النهار إلى ارتفاع الشَّمس، أو آخره إلى أن تغرب.
ودليل هذا الأدب حديث أبي أمامة المتقدم.
وإنما وقع الاختيار على هذين الوقتين؛ لأنهما وقت تفرغ النَّاس من الأشغال الدُّنيوية، فيكون القلب أوعى لما يفرغ فيها، ولأن أوَّل النَّهار يرشد فيه إلى تلافي ما فات بالليل، وتدارك العمل الصَّالح فيما يستقبل من النهار، وآخره يرشد إلى تلافي ما فات فيه، واستقبال الليل بالعمل الصالح الممكن فيه.
(1) رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق"(11/ 80).
التاسع عشر: أن يحضر المجلس على طهارة حسية ومعنوية، تائبًا مقلعًا، غيرَ ناوٍ سوءًا ولا غشًا، متواضعًا مستكينًا، غيرَ معجَبٍ ولا مختال، ولا راءٍ لنفسه مقامًا ولا حالًا.
ثمَّ يبدأ بحمد الله، والشَّهادتين، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويختم بالحمد والصَّلاة والسلام، ولا يذكر شيئًا حتَّى ينوي العمل به وتقوى الله فيه، وليحرض على التقوى ما أمكنه فتكون موعظته مؤثرة، وإذا حضر الوعظ ينوي موعظة نفسه قبل الحاضرين.
وأدلة الابتداء بما ذكر معروفة.
وروى أبو نعيم في "الحلية" عن عباد بن جرير، وغيره من المشايخ قال: كنا نجلس إلى صالح المُرِّي رحمه الله تعالى، فكان أول ما يبتدئ به فيقول: الحمد لله؛ فإذا أَعْيُنُ الناس قد سألت (1).
وروى الحسن بن جهضم في "بهجة الأسرار" عن محمَّد بن علي الحصريِّ رحمه الله تعالى قال: إن الرجل إذا جلس يعظ القوم نادت ملائكته: يا عبد الله! عظ نفسك بما تعظ به أخاك، واستحي من سيدك؛ فإنَّه يراك (2).
وروى الإمام أحمد في "الزُّهد" عن مالك بن دينار رحمه الله تعالى قال: أوحى الله تعالى إلى عيسى عليه السلام: أن يا عيسى! عظ نفسك،
(1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(6/ 168).
(2)
وانظر: "الرسالة القشيرية"(ص: 252).
فإن اتعظت فعظِ الناس؛ وإلا فاستحي مني (1).
وعن أبي وائل قال: قلت لعلقمة: ألا تقص علينا؟
قال: أكره أن أقول لكم ما لا أفعل.
وروى ولده عبد الله في "زوائده" عن مالك بن دينار قال: إن العالم أو القاص الذي إذا أتيته فلم تجده في بيته، قَصَّ عليك بيتُهُ؛ ترى حصيرة للصلاة، ترى مصحفًا، ترى أَجَّانة الوضوء، ترى أثر الآخرة (2).
وروى الدِّينوري في "المجالسة" عن مالك بن دينار أيضًا قال: قال عيسى بن مريم عليهما السلام: طوبى لمن سمعت أذناه ما يقول لسانه (3).
وروى أبو نعيم في "الحلية" عن ابن السَّمَّاك قال: قال ذر لأبيه عمر بن ذر رحمهم الله تعالى: ما بال المتكلمين يتكلمون فلا يبكي أحد، فإذا تكلمت سمع البكاء من ها هنا ومن ها هنا؟
فقال: يا بني! ليست النائحة المستأجرة كالنائحة لنفسها (4).
(1) رواه الإمام أحمد في "الزهد"(ص: 54).
(2)
ورواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(2/ 373).
(3)
رواه الدينوري في "المجالسة وجواهر العلم"(ص: 212).
(4)
رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(5/ 110)، وكذا الإمام أحمد في "الزهد" (ص: 357).
وما أحسن ما قيل: [من البسيط]
يا واعظَ النَّاسِ قَدْ أَصْبَحْتَ مُتَّهَمًا
…
إِذْ عِبْتَ مِنْهُمْ أُمُورًا أَنْتَ تَأْتِيها (1)
وقال آخر: [من الكامل]
عَوِّدْ لِسانَكَ قِلَّةَ اللَّفْظِ
…
وَاحْفَظْ لِسانَكَ أيَّما حِفْظِ
إِيَّاكَ أَنْ تَعِظَ الرِّجالَ وَقَدْ
…
أَصْبَحْتَ مُحْتاجًا إِلَى الْوَعْظِ (2)
تمام العشرين: أن يلزم الخوف إذا انتهى من التذكير؛ حذرًا أن يكون قد وقع في المجلس ما عليه عهدته من سبق لسانه إلى شيء مما يحذر.
ثمَّ يلزم الاستغفار، ويسأل الله تعالى أن يكون المجلس مقبولًا، ويستعيذ مما يحبطه، ويسأله أن يوفقه إلى العمل بما علم وذكر به، ولا يخالف إلى ما نهى عنه.
(1) البيت لأبي العتاهية. انظر: "الأغاني" للأصفهاني (4/ 38)، و"جامع بيان العلم وفضله" للخطيب البغدادي (1/ 194).
(2)
انظر: "أدب الدنيا والدين" للماوردي (ص: 90).
[ويلزم](1) قبل ذلك وبعده: التقوى والحزن.
قال الله تعالى حكايته عن شعيب عليه السلام: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88].
روى أبو الشَّيخ عن مالك بن دينار رحمه الله تعالى: أنَّه قرأ هذه الآية: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ} [هود: 88]، فقال: بلغني أنَّه يدعى يوم القيامة بالمُذَكِّر الصادق فيوضع على رأسه تاج الملك، ثمَّ يؤمر به إلى الجنة، فيقول: إلهي! إن في مقام القيامة أقوامًا قد كانوا يعينوني في الدنيا على ما كنت عليه، قال: فيفعل بهم مثلما فعل به، ثمَّ ينطلق يقودهم إلى الجنَّة (2).
وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن أبي السوار رحمه الله تعالى: أنهم أتوا جندب بن سمرة رضي الله تعالى عنه في قراء البصرة، فقال: أرى هديًا حسنًا وسمتًا حسنًا؛ فإياكم وهذه الأصوات.
ثمَّ قال: مثل الذي يُعلِّم الناس ولا يعمل، كمثل السراج يضيء للناس ويحرق نفسه (3).
وروى ابنه في "زوائده" عن صفوان بن محرز رحمه الله تعالى قال:
(1) ما بين معكوفتين من "ت".
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
رواه الإمام أحمد في "الزهد"(ص: 202).
نزل عليَّ جندب البلخي، فسمعته يقول: إنَّ مثل الذي يعظ الناس وينسى نفسه كمثل المصباح يضيء لغيره ويحرق نفسه (1).
وروى ابن أبي شيبة عن إبراهيم التَّيمي رحمه الله تعالى -وكان ممن قص وآثروا قصصه- أنَّه قال: والله ما عرضت على قولي عملي إلا خفت أن أكون مكذبًا (2).
وذكر في "الإحياء" عن يحيى بن أبي كثير: أن داود عليه السلام كان إذا ناح على نفسه، وذكر بني إسرائيل فأخذ في الدُّعاء، خرَّ مغشيًا عليه، فيأتيه سليمان عليه السلام بسرير فيحمله عليه، ثمَّ إذا أفاق داود عليه السلام قام ووضع يده على رأسه، ودخل بيت عبادته، وأغلق بابه وقال: يا إله داود! أغضبان أنت على داود؟
ولا يزال يناجي ربه، فيأتي سليمان عليه السلام، ويقعد على الباب، ويستأذن، ثمَّ يدخل ومعه قرص من شعير، فيقول: يا أبتاه! تقوَّ بهذا على ما تريد، فيأكل من ذلك القرص ما شاء الله، ثمَّ يخرج إلى بني إسرائيل فيحكم بينهم (3).
(1) رواه عبد الله ابن الإمام أحمد في "الزهد"(ص: 182).
(2)
تقدم تخريجه، لكن عزاه هناك لأبي نعيم، ورواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(34970).
(3)
انظر: "إحياء علوم الدين" للغزالي (4/ 182).
واعلم أني إنما بسطت الكلام في هذا المقام لشدة الاحتياج إليه، وقد كنت أردت أن أؤلف في هذا المعنى مؤلفًا مستقلًّا، فاستغنيت بهذا الفصل عن استئناف كتاب مستقل؛ ولله الحمد.