الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ} [هود: 89].
وهذا فيه إشارة إلى أن التحذير من أعمال الأمم السالفة، والتنفير عن التشبه بهم خلق نبوي قديم، وأَن التذكير بالأمم الماضية ليس إلا للتنفير عن مثل أعمالهم التي كانت سبباً لهلاكهم، وأن الشقاق والجدال من أخلاق قوم شعيب وأعمالهم، وأنه يفضي بصاحبه إلى التصميم على رأي النفس ومتابعة الهوى حتى يكون ذلك مانعًا للمرء عن اتباع الحق، فيكون من الهالكين.
وفي قوله: {وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ} تلميح بأنهم كانوا مرتكبين مثل أعمالهم.
وقد سبق أن عمل قوم لوط كان فاشياً في أصحاب الرَّسِّ، وهم أصحاب الأيكة على بعض الأقوال، وهذا غير بعيد لأن الشر متى فتح بابه تتابع الناس عليه لميلهم إلى التقليد، وبذلك يشتد طمع الشيطان فيهم، ولا تجد باباً من الشر فُتح إلا واتسع بعد فتحه خرقُه، وبَعُد على كل مؤمن رتقُه.
*
تنبِيْهٌ ثالِثٌ:
الخصال التي توارد عليها الأمم الهالكة عشر: الكفر، وقسوة القلب، والظلم، والبطر، والجرأة، والإصرار، والأمن من مكر الله، ونقض المواثيق والعهود، وكفران النعم، والاغترار بالله.
قال كعب الأحبار لأبي هريرة رضي الله تعالى عنهما: في التوراة:
من يظلم يخرب بيته.
فقال أبو هريرة: وذلك في كتاب الله: {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا} [النمل: 52](1).
وروى الدينوري في "المجالسة": أن هذه القصة صارت بين كعب وابن عباس رضي الله تعالى عنهم (2).
وروى أبو نعيم عن عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه أنه قال: إنما هلك من كان قبلنا لحبسهم الحق حتى يشترى منهم، وبسطهم الظلم حتى يفتدى منهم (3).
وقال الله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ} ؛ أي: فلم يؤمنوا ولم يجيبوا، {فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ} [الأنعام: 42].
البأساء: الشدة والفقر، والضراء: الضر والآفات.
وروى أبو الشيخ عن سعيد بن جبير رحمه الله تعالى في قوله: {بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ} ؛ قال: خوف السلطان، وغلاء الأسعار (4).
وما ذكرته شامل لهذا ولغيره.
{لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ} [الأنعام: 42]؛ أي: يتذللون لنا فيتوبون إلينا.
(1) انظر: "سراج الملوك" للطرطوشي (ص: 123).
(2)
رواه الدينوري في "المجالسة وجواهر العلم"(ص: 351).
(3)
رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(5/ 311).
(4)
انظر: "الدر المنثور" للسيوطي (3/ 268).
{فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 43].
قال قتادة رحمه الله تعالى في الآية: عاب الله عليهم القسوة عند ذلك - أي: عند بأس الله - فتضعضعوا لعقوبة الله تعالى بارك الله فيكم، ولا تتعرضوا لعقوبة الله - أي: ثانياً - بالقسوة؛ فإنه عاب ذلك على قوم قبلكم. رواه ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ (1).
والبأس: العذاب، والبأساء: نوع منه، أو أبلغ منه لزيادة الساء.
فإن قلنا بالأول فالوجه في قوله تعالى: {فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا} [الأنعام: 43]، ولم يقل: بأساؤنا أن التضرع والاستكانة إلى الله تعالى مطلوبان مأمور بهما عند كل نوع من أنواع البلاء والشدة والعذاب، لا يختص بنوع منه دون نوع، ومن ثم استحب الاسترجاع إذا انقطع شِسع النعل.
وإن قلنا بالثاني فالوجه فيه أن التضرع والاستكانة مطلوبان عند كل بأس وإن كان قليلاً، لا يختص به الشديد البالغ منه؛ فإن البلاء إذا نزل بالعبد فإنما يُنزله الله به تذكرة له وتنبيهاً، فإذا لم ينتبه ولم يتذكر دلَّ ذلك على خذلانه، ومن ثم قال سبحانه وتعالى:{فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} ؛ أي: من الرخاء وسعة الرزق وكثرة النعم.
(1) رواه ابن أبي حاتم في "التفسير"(4/ 1289).
{حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [الأنعام: 44].
قال محمد بن النضر الحارثي رحمه الله تعالى في قوله: {أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً} ؛ قال: أُمهلوا عشرين سنة. رواه ابن أبي حاتم، وغيره (1).
والمبلس: الآيس، المكتئب، المُجْهَد، والمكروب المتغير الوجه الذي نزل به من الشر ما لا يدفعه، ومنه سمي إبليس.
قال تعالى: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 45]؛ أي: على استئصالهم بالعذاب.
روى البيهقي في "الشعب" عن عقبة بن عامر رضي الله تعالى عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إِذَا رَأَيْتَ اللهَ يُعْطِي الْعَبْدَ فِي الدُّنْيَا وَهُوَ مُقِيْمٌ عَلَىْ مَعَاصِيْهِ مَا يُحِبُّ فَإنَّمَا هُوَ اسْتِدرَاجٌ"، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم:{فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ} [الأنعام: 44]، الآية، والآية التي بعدها (2).
وقال الله عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ} ؛ أي: فكذبوه أو عصوه {إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ} ؛ أي: فيرجعوا عن المعاصي {ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ} قال ابن عباس: مكان الشدة الرخاء {حَتَّى عَفَوْا} ؛ قال: حتى كثروا وكثرت
(1) رواه ابن أبي حاتم في "التفسير"(4/ 1292)، وكذا الطبري في "التفسير"(7/ 194).
(2)
رواه البيهقي في "شعب الإيمان"(4540)، وكذا الطبراني في "المعجم الكبير"(17/ 330). وحسن العراقي إسناده في "تخريج أحاديث الإحياء"(2/ 1037).
أموالهم. رواه ابن المنذر، وابن أبي حاتم (1).
وعن قتادة: حتى كثروا.
وعن مقاتل: بطروا ولم يشكروا ربهم. رواهما الثعلبي (2).
{وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ} [الأعراف: 95]؛ قال قتادة في الآية: قالوا: قد أتى على آبائنا مثل هذا فلم يكن شيئاً.
{فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} [الأعراف: 94 - 95]؛ قال: بَغَتَ القومَ أمرُ اللهِ، وما أخذ الله قوماً قط إلا عند سكونهم، وغرتهم، ونعمتهم؛ فلا تغتروا بالله، إنه لا يغتر بالله إلا القوم الفاسقون. رواه عبد بن حميد، وابن أبي حاتم (3).
ثم قال تعالى مشيراً إلى أنهم لو قابلوا النعمة بالشكر الذي هو الطاعة، ولم يغتروا بها، ولم يبطروا، ولم ينسوا نعمها، لدامت عليهم وزادت، وبورك فيها:{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا} ؛ أي: آمنوا بالله ورسله، واتقوا المعاصي.
{لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} ؛ أي: بالمطر، والنبات الكثيرين النافعين.
(1) رواه ابن أبي حاتم في "التفسير"(5/ 1526)، وكذا الطبري في "التفسير"(9/ 7).
(2)
انظر: "تفسير الثعلبي"(4/ 264).
(3)
رواه ابن أبي حاتم في "التفسير"(5/ 1527).
{وَلَكِنْ كَذَّبُوا} ؛ أي: وعصوا {فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ} ؛ أي: فدعاهم الأمن إلى التمادي في الغرور والضلال ليلاً ونهاراً.
{أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف: 96 - 99].
ووضع الظاهر موضع المضمر تفخيمًا وتهويلاً لأمر الأمن من المكر.
قال هشام بن عروة: كتب رجل إلى صاحب له: إذا أصبت من الله شيئاً يسرُّك فلا تأمن أن يكون فيه مكر، وإنّه لا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون. أخرجه ابن أبي حاتم (1).
ثم قال تعالى محذِّراً لهذه الأمة من مثل ما نزل بالأمم: {أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ} [الأعراف: 100].
ونقل البغوي عن قتادة، ويعقوب أنهما قرءا:(أوَلم نهد) - بالنون - (2).
والمعنى - والله أعلم -: أوَلَم يتبين لمن وَرِثوا الأرض بعد الأمم الهالكة بسبب التمادي في المعاصي - والوارثون هم هذه الأمة -
(1) رواه ابن أبي حاتم في "التفسير"(5/ 1529).
(2)
انظر: "تفسير البغوي"(2/ 184).
فاقتدوا بهم، وعملوا مثل أعمالهم، أنهم متعرضون بذلك لمثل ما نزل بالأمم من العذاب.
أو المعنى: أولم يتبين لمن ورث أرضاً من بعد أهلها؛ فإن كل ذي أرض مملوكة مشتملة على مساكن ومزارع ومنافع لا بد أن يذهب ويتركه، فيرثها غيره.
والاستفهام للتوبيخ؛ أي: أيليق ويحسن لمن ورث أرضاً هلك عنها صاحبها بعد بطره وغروره، وكان هلاكه بسبب إصراره على معاصيه أن يقلدوه في الغرور والتمادي في الذنوب، ويعمل مثل عمله؟ إنه متعرض لمثل ما نزل به أن ينزل به، فلو نشاء أن نؤاخذه بذنوبه ما كان له عمل صالح يدفع عنه العقوبة والعذاب.
وقوله: {وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [الأعراف: 100] معطوف عطف الجملة بعضها على بعض؛ أي: ونحن نطبع على قلوبهم فلم يهتدوا إلى هذا الأمر، فهم لا يسمعون الترهيب فيرهبوا، ولا الترغيب فيرغبوا، ولا المواعظ فيتعظوا.
والحاصل: أن من تشبه بأحد من الهالكين فيما هلكوا فقد عرض نفسه لمثل ما هلكوا به إلا أن يلطف الله به فيتوب؛ نسأل الله تعالى التوبة والمغفرة، فإنه وليُّ ذلك والقادرُ عليه.
وأما ما ذكرناه عن الأمم الهالكين مما اتفقوا عليه من الجرأة والإصرار، فمن تأمل قصصهم وما كانوا يجيبون به رسلهم، وإغلاظهم
لهم، ومناقضة أوامرهم، والمبادرة إلى تكذيبهم، والمداومة منهم على ذلك كله، تحقق جرأتهم على الله، وإصرارهم على معاصيه، وسبب ذلك كله الجهل؛ فإن الجرأة إنما تكون على من يملك المجترئ منه ضرر أو أذى يوصله إليه، وهذا محال؛ فإن الله تعالى ذو البطش الشديد، والفعَّال لما يريد، وهو من وراء خلقهم كلهم محيط بكبيرهم وصغيرهم، منزَّه عن صفات الحَدَث، ووصول الضرر، متعال عن كل ضرر وسوء وأذى، وهو الضار النافع، المعطي المانع، المنعم المنتقم، فالمجترئ عليه لم يدع من الجهل شيئاً.
وقد روى الدينوري في "المجالسة" عن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنهم: أنه سمع رجلاً يقول: ما أجرأَ فلانًا على الله!
فقال القاسم: إن ابن آدم أهون وأضعف من أن يكون جريئاً على الله تعالى، ولكن ما أقلَّ معرفتَه بالله (1)!
وكذلك الإصرار أصله الجهل بالله، والجهل بعذابه وانتقامه مع استحسان ما عليه المُصِرُّ من الضلال، وإعجابه بما له من الرأي الخالي عن الحكمة؛ كَشَفَ اللهُ تعالى عنَا غَمْرةَ الجهل، ورفع عنا سَكْرة الهوى.
(1) رواه الدينوري في "المجالسة وجواهر العلم"(ص: 160).