الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
17 - ومنها - وهو من جنس ما قبله -: إطالة البنيان، وإحكامه، وتجصيصه
.
قال الله تعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [القصص: 38].
قال سعيد بن جبير رضي الله تعالى عنه في قوله: {فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ} : أوقد لي على الطين حتى يكون آجراً (1).
وقال مجاهد في قوله: على الطين على المدر يكون لبناً مطبوخاً (2).
وقال قتادة: بلغني أنَّ فرعون أول من طبخ الآجر. أخرجه ابن المنذر (3).
وروى ابن أبي حاتم عن قتادة قال: كان فرعون أول من طبخ الآجر، وصنع له الصَّرح (4).
قال في "الكشاف": روي أنَّه لمَّا أمر ببناء الصَّرح جمع هامان العمال حتَّى اجتمع خمسون ألف بنَّاء سوى الأتباع والأجراء، وأمر بطبخ الآجر والجص، ونجر الخشب، وضرب المسامير [فشيدوه]
(1) انظر: "الدر المنثور" للسيوطي (6/ 416).
(2)
رواه الطبري في "التفسير"(20/ 77)، وابن أبي حاتم في "التفسير"(9/ 2979).
(3)
ورواه الطبري في "التفسير"(20/ 77).
(4)
رواه ابن أبي حاتم في "التفسير"(9/ 2979).
حتى بلغ ما لم يبلغه بنيان أحد من الخلق.
وكان الباني لا يقدر أن يقوم على رأسه يبني، فبعث الله عز وجل جبريل عليه السلام عند غروب الشمس، فضربه بجناحه، فقطعه ثلاثة قطع؛ وقعت قطعة على عسكر فرعون فقتلت ألف ألفِ رجل، ووقعت قطعة في البحر، وقطعة في المغرب، ولم يبق أحد من عماله إلَّا قد هلك (1).
وروى ابن أبي حاتم عن السدي قال: لمَّا بُني له الصرح ارتقى فوقه، فأمر بنشابة فرمى بها إلى السماء، فرُدَّت إليه وهي ملطخة دماً، فقال: قتَلتُ إلهَ موسى (2).
وقول قتادة: إنَّ فرعون أول من صُنِع له الصرح يَرِدُ عليه ما رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عبَّاس رضي الله تعالى عنهما في قوله تعالى:{قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ} [النحل: 26]؛ قال: هو نمرود بن كنعان حين بنى الصَّرح (3).
وأخرجه ابن أبي شيبة، وغيره عن مجاهد (4).
(1) انظر: "الكشاف" للزمخشري (3/ 417).
(2)
رواه ابن أبي حاتم في "التفسير"(9/ 2979)، وكذا الطبري في "التفسير"(20/ 78).
(3)
انظر: "الدر المنثور" للسيوطي (5/ 127).
(4)
ورواه الطبري في "التفسير"(14/ 98).
وروى عبد الرَّزاق، وابن جرير عن زيد بن أسلم قال: أول جبَّار كان في الأرض نمرود، فبعث الله تعالى عليه بعوضة فدخلت في منخره، فمكث أربعمئة سنة يضرب رأسه بالمطارق، وأرحم النَّاس به من جمع يديه فضرب بهما رأسه، وكان جبَّاراً أربعمئة سنة، فعذَّبه الله تعالى أربعمئة سنة كملكه، ثم أماته الله تعالى.
قال: وهو الذي كان بنى صرحاً إلى السَّماء الذي قال الله تعالى: {فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ} [النحل: 26](1).
وروى ابن جرير، وابن أبي حاتم عن السدي: أنَّ نمرود بعد أن هاجر من أرضه إبراهيم ولوط عليهما السلام حلف ليطلبنَّ إله إبراهيم، فأخذ أربعة فراخ من أفراخ النُّسور، فربَّاهنَّ بالخبز واللَّحم، حتى إذا كبرن وغلظن واستعلجن، فربطهن بتابوت، وقعد في ذلك التابوت، ثم رفع رِجْلاً من لم لهن، حتى إذا وَهِم في السماء أشرف فنظر إلى الأرض، وإلى الجبال تَدُب كدبيب النمل، ثم رفع لهن اللحم، ثم نظر فرأى الأرض محيطًا بها بكر كأنَّها فلكة في ماء، ثم رفع طويلاً فوقع في ظلة، فلم ير ما فوقه ولم ير ما تحته، فألقى اللحم، فاتبعته منقضات، فلما رأى الجبال إليهن قد أقبلن منقضات، وسمعن خفقهن، فزعت الجبال وكادت أن تزول من أمكنتها، ولم يفطن؛ قال فذلك قوله: {وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ
(1) رواه عبد الرزاق في "التفسير"(1/ 106)، والطبري في "التفسير"(3/ 25).
لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} [إبراهيم: 46].
وهي في قراءة ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: وإن كاد مكرهم؛ يعني: بالدال.
قال: فلما رأى أنه لا يطيق شيئاً أخذ في بنيان الصرح، فبنى حتى أسنده إلى السماء ارتقى فوقه ينظر يزعم إلى إله إبراهيم، فأحدث ولم يكن يحدث، وأخذ الله بنيانه من القواعد (1).
ففي هذا الأثر أنَّ نمرود اتخذ الصَّرح قبلُ، وأنَّه هو الذي سخر النُّسور لما أراد.
وعن علي رضي الله تعالى عنه: أنَّه إنما سخر نسرين فقط. رواه ابن جرير (2).
وروى ابن جرير، وابن المنذر عن مجاهد: أن بخت نصر جوَّع نسوراً، ثم جعل عليهن تابوتاً، ثم دخله، وجعل رماحاً في أطرافه واللحم فوقها، فقلَّت، فذهبت نحو اللحم حتى انقطع بصره من الأرض وأهلها، فنودي: أيها الطاغية! أين تريد؟
فَفَرَق، ثم سمع الصوت فوقه، فصوَّب الرماح، فتصوبت النسور، ففزعت الجبال من هدتها، وكادت الجبال أن تزول من حس ذلك، فذلك قوله:{وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} [إبراهيم: 46](3)
(1) رواه الطبري في "التاريخ"(1/ 173).
(2)
رواه الطبري في "التفسير"(13/ 244).
(3)
رواه الطبري في "التفسير"(13/ 245).
كذا قرأها مجاهد؛ أي: بالدال كما سبق عن ابن مسعود، وهي قراءة عمرَ بن الخطاب، وعلى بن أبي طالب، وأبى بن كعب كما أخرج ذلك ابن الأنباري، وابنِ عباس كما أخرجه أبو عبيد، وابن المنذر.
ورويا قراءة عمر رضي الله تعالى عنه أيضاً (1).
وروى ابن جرير عن مجاهد أنه قرأها: {وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ} بالنون {لَتزول} بفتح اللام، وبالرفع كما قرأها الكسائي (2).
وقيل: إن على القراءة المشهورة نافية، واللام مؤكدة لها كقوله:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} [الأنفال: 33].
ولا معارضة بين قول مجاهد: إن صاحب النسور بخت نصر، وقول السدي: إنه نمرود، ورواه ابن جرير عن علي رضي الله عنه، بل هما محمولان على أن نمرود فعل أولاً، ثم تابعه عليه بخت نصر، أو تواردا عليه وتوافقا كما توارد نمرود وفرعون على بناء الصرح، أو تبعه فرعون.
وهؤلاء الثلاثة رؤوس الملوك الجبابرة، وقد علمت ما فعلوه، ثم ما صاروا إليه من الهلاك.
ثم إنَّ الجبابرة والظالمين بعدهم يوم القيامة وبالهم عظيم، ولا يبعد أن يزاد فيه على عذاب هؤلاء الثلاثة لأنهم علموا ما نزل بهم
(1) انظر: "فضائل القرآن" لأبي عبيد (2/ 80 - 82)، و "حجة القراءات" لابن زنجلة (ص: 379).
(2)
رواه الطبري في "التفسير"(13/ 246).
ولم يتعظوا؛ ألا تسمع وتصغي إلى قول الله تعالى: {وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ (44) وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ (45) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} [إبراهيم: 44 - 46]؟
أي: إذ كانوا ليزيلونها، أو ليزيلوا ما هو كالجبال الراسية ثباتاً وتمكناً بمكرهم.
قال تعالى: {فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} [إبراهيم: 47]
أي: يملي للظالمين، وكيده متين، ثم إذا انتقم انتقم بقدرة، وإذا آن أوان الانتقام لم يمنع الظالم من نقمة الله صرحه ولا حصنه، ولم يخلَّد المترف في نعيمه قصره ولا أمنه، فالسَّعيد من وُعِظَ بغيره.
روي أنَّ عمر رضي الله تعالى عنه نظر في طريق الشام إلى صرح قد بني بجص وآجر، فكبَّر وقال: ما كنت أظن أن يكون في هذه الأمة من يبني بنيان هامان وفرعون (1).
وروى البيهقي عن إبراهيم النخعي رحمه الله تعالى - مرسلاً - قال:
(1) انظر: "قوت القلوب" لأبي طالب المكي (1/ 433)، و"إحياء علوم الدين" للغزالي (4/ 236).
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كُلُّ نَفَقَةٍ يُنفِقُهَا المُسلِمُ يُؤْجَرُ فِيهَا - عَلى نَفْسِهِ، وَعَلَى عِيَالِهِ، وَعَلى صَدِيقِهِ، وَعَلَى بَهِيمَتِهِ - إلَاّ في بِنَاءٍ، إِلَّا بِنَاءَ مَسْجِدٍ يُبْتَغَى فِيْهِ وَجْهَ اللهِ"(1).
وله شاهد من حديث خباب بن الأرت رضي الله تعالى عنه. أخرجه ابن ماجه (2).
وروى أبو داود بإسناد جيد، عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "كُل بِنَاءٍ وَبَالٌ عَلَى صَاحِبِهِ إِلَاّ مَا لا"(3)؛ يعني: ما لابد منه.
والأحاديث في ذلك كثيرة.
وقيل في قوله تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ} [القصص: 83]: العلو: الرياسة والتطاول في البنيان.
وقال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: يأتي قوم يرفعون الطين، ويضعون الدين، ويستعملون البراذين، يصلُّون إلى قبلتكم، ويموتون على غير دينكم (4).
(1) تقدم تخريجه.
(2)
رواه ابن ماجه (4163). قال العراقي في "تخريج أحاديث الإحياء"(2/ 1116): إسناده جيد. وقد تقدم نحوه لكن لم يعزه هناك لابن ماجه.
(3)
تقدم تخريجه.
(4)
انظر: "إحياء علوم الدين" للغزالي (4/ 236).