الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حَتَّى بَهَتُوا أُمَّهُ، وَأَحَبَّتْهُ النَّصَارَى حَتَّى أَنْزَلُوهُ بِالمَنْزِلَةِ الَّتِي لَيْسَ بِهَا". رواه أبو نعيم في "فضائل الصحابة"، وغيره، وهو في "مستدرك الحاكم" (1).
لكن تعقب، وسيأتي بيان قبائحهم في محله.
*
فائِدَةٌ ثالِثَةٌ:
روى الإمام عبد الله بن المبارك في "الزهد"، وابن أبي شيبة عن غالب بن عجرد قال: حدَّثني رجل من فقهاء أهل الشام في مسجد منى، قال: إن الله خلق الأرض وخلق ما فيها من الشجر، ولم يكن أحد من بني آدم يأتي شجرة إلا أصاب منها خيراً، أو كان له خير، فلم تزل الشجر كذلك حتى تكلمت فَجَرة بني آدم بالكلمة العظيمة؛ قولهم: اتخذ الله ولداً، فاقشعرت الأرض، فشاك الشجر (2).
واعلم أنَّ منشأ ما ذكرناه هنا عن اليهود والنصارى من الكفر حتى ادَّعوا ما ادَّعوا، وقالوا ما قالوا إنَّما هو من اعتقاد التشبيه، وتأولهم لما في كتابهم من آيات الصفات على قدر آرائهم من غير ملاحظة للتنزيه،
(1) رواه أبو نعيم في "فضائل الخلفاء الراشدين"(ص: 199)، والحاكم في "المستدرك"(4622) وتعقبه الذهبي، وكذا رواه البخاري في "التاريخ الكبير"(3/ 281)، وعبد الله ابن الإمام أحمد في "زوائد المسند"(1/ 160)، والنسائي في "خصائص علي" (ص: 121). وإسناده ضعيف.
(2)
رواه ابن المبارك في "الزهد"(1/ 114)، وابن أبي شيبة في "المصنف"(35163).
ولذلك ضحك النبي صلى الله عليه وسلم ضحك تهكُّم على ذلك الحَبر الذي جاء فيما رواه الشيخان عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: جاء حَبْر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد! إن الله يضع السماء على أصبع، والأرضين على أصبع، والجبال على أصبع، والشجر والأنهار على أصبع، وسائر الخلق على أصبع، ثم يقول: أنا الملك.
فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالَ: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الزمر: 67] ".
وفي رواية فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه تصديقاً للحبْر، ثم قرأ الآية (1).
أي: تصديقاً له في اعتقاد القبضة، وتعجباً من حيث حمل هذه الصفة على ما فهم من التشبيه.
قال الحسن: إن اليهود نظروا في خلق السموات والأرض والملائكة، فلما فرغوا أخذوا يقدِّرونه، فأنزل الله تعالى:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الزمر: 67]. رواه ابن أبي حاتم (2).
وروى الترمذي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: مرَّ يهودي بالنبي صلى الله عليه وسلم فقال: كيف تقول يا أبا القاسم إذا وضع الله السموات على ذه، والأرض على ذه، والماء على ذه، والجبال على ذه، وسائر الخلق على ذه - وأشار بعض الرواة بخنصره أولاً، ثم تابع حتى بلغ الإبهام -؟
(1) رواه البخاري (7013)، ومسلم (2786).
(2)
رواه ابن أبي حاتم في "التفسير"(10/ 3255).
فأنزل الله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67](1).
وروى ابن جرير، والحاكم وصححه، والبيهقي في "الأسماء والصفات" عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن اليهود أتت النبي صلى الله عليه وسلم فسألته عن خلق السماوات والأرض، فقالَ: "خَلَقَ اللهُ الأَرْضَ يَومَ الأَحَدِ وَالاثْنَيْنِ، وَخَلَقَ الجَبَالَ يَومَ الثُّلاثَاءِ وَمَا فِيْهِنَّ مِن مَنَافِعَ، وَخَلَقَ يَومَ الأَرْبِعَاءِ الشَّجَرَ وَالمَاءَ، وَالمَدَائِنَ وَالعُمْرَانَ وَالخَرَابَ، فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أَيَّامٍ، فَقَالَ عَزَّ مِن قَائِل:{أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} إلى قوله: {وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} [فصلت: 9 - 10].
وَخَلَقَ يَومَ الخَمِيْسِ السَّمَاءَ، وَخَلَقَ يَومَ الجُمُعَةِ النُّجُومَ، والشَّمْسَ والقَمَرَ، والمَلائِكَةَ إِلَى ثَلاثِ سَاعَاتٍ بَقِيْنَ مِنْهُ، فَخَلَقَ فِي أَوَّلِ سَاعَةٍ مِنْ هَذِهِ السَّاعَاتِ الثَّلاثَة الآجَالَ حِيْنَ يَمُوتُ مَن مَاتَ، وفِي الثَّانِيةِ أَلْقَى الآفَةَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ يَنْتَفِعُ بِهِ النَّاسُ، وَفِي الثَّالِثَةِ آدَمَ وَأسْكَنَهُ الجَنَّةَ، وَأَمَرَ إِبْلِيْسَ بِالسُّجُودِ لَهُ، وَأَخْرَجَهُ مِنْهَا فِي آخِرِ سَاعَةٍ".
ثمَّ قالت اليهودُ: ثمَّ ماذا يا محمَّد؟
قال: "ثُمَّ اسْتَوَى عَلى العَرْشِ".
قالوا: قد أصبت لو أتممت؛ قالوا: ثم استراح.
قال: فغضب النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم غضباً شديدًا، فَنَزَلَت: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا
(1) رواه الترمذي (3240) وقال: حسن غريب صحيح.
{السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} [ق: 38 - 39](1).
قال قتادة: قالت اليهود: إنَّ الله خلق السماوات والأرض ما بينهما في ستة أيام، وفرغ من الخلق يوم الجمعة، واستراح يوم السبت، فأكذبهم الله تعالى فقال:{وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق: 38]. رواه عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر (2).
وقال مجاهد في الآية: اللغوب: النَّصَبُ؛ يقول اليهود: إنَّه أُعيي بعدما خلقها. رواه ابن جرير، والبيهقي (3).
وروى الخطيب البغدادي في "تاريخه": عن العَوَّام بن حوشب قال: سألتُ أبا مجلز عن الرَّجل يجلس فيضع إحدى رجليه على الأخرى، فقال: لا بأس به؛ إنَّما كره ذلك اليهود زعموا أنَّ الله تعالى خلق السماوات والأرض في ستة أيام، ثمَّ استراح يوم السبت، فجلس
(1) رواه الطبري في "التاريخ"(1/ 21)، والحاكم في "المستدرك"(3997)، والبيهقي في "الأسماء والصفات" (2/ 304). قال الذهبي في "العلو للعلي الغفار" (ص: 95): صححه الحاكم وأنى ذلك، والبقال قد ضعفه ابن معين والنسائي.
(2)
رواه عبد الرزاق في "التفسير"(3/ 239)، والطبري في "التفسير"(26/ 179).
(3)
رواه الطبري في "التفسير"(26/ 179)، والبيهقي في "الأسماء والصفات"(2/ 305).
تلك الجلسة، فأنزل الله تعالى:{وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق: 38](1).
وروى ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: إنَّ رهطاً من نجران قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم السَّيد والعاقب، فقالوا: ما شأنك لم تذكر صاحبنا؟
قال: "مَنْ هُوَ"؟
قالوا: عيسى عليه السلام، تزعم أنَّه عبد الله.
فقال: "أَجَل".
فقالوا: هل رأيت مثل عيسى أو أنبئت به؟
ثم خرجوا من عنده، فجاءه جبريل عليه السلام فقال: قل لهم إن أتوك: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ} إلى قوله: {مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [آل عمران: 59 - 60](2).
وروى ابن جرير عن السدي رحمه الله تعالى: أنَّ أربعة من أهل نجران سألوا النبي صلى الله عليه وسلم: ما تقول في عيسى عليه السلام؟
قال: "هُوَ عَبْدُ اللهِ وَرُوْحُهُ وَكَلِمَتُهُ".
قالوا: لا، ولكنه هو الله نزل من ملكه، فدخل جوف مريم،
(1) رواه الخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد"(8/ 6).
(2)
رواه الطبري في "التفسير"(3/ 295)، وابن أبي حاتم في "التفسير"(2/ 665).
وخرج منها، فأرانا قدرته وأمره، فهل رأيت قط إنساناً خلق من غير أب؟
فأنزل الله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ} [آل عمران: 59](1).
فعلم من ذلك أن النصارى إنما عبدوا عيسى من حيث انفرادُه بخصوصية كونه من غير أب، ولا أب لله، فدخل التشبيه عليهم من هذه الحيثية، وهذا نظر في غاية الفساد فإنهم يقولون: إنَّ الإله لا والد له، ثم يقولون: إنَّه ابن الله، وهذا يستلزم بطلان أُلُوهِيَّتِه؛ فسبحان من وصف نفسه بقوله:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11].
وروى اللالكائي في "السنة" عن نعيم بن حمَّاد رحمه الله تعالى قال: من شبَّه الله تعالى بشيء من خلقه فقد كفر، ومن أنكر ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس ما وصف الله به نفسه ورسوله بتشبيه (2).
وروى فيه عن يزيد بن هارون رحمه الله تعالى قال: إنَّ الجهمية غلت تفرعت في غلوها إلى أن نفت، وأنَّ المشبِّهة غلت تفرعت في غلوها إلى أن مثَّلت (3).
(1) رواه الطبري في "التفسير"(3/ 295).
(2)
رواه اللالكائي في "اعتقاد أهل السنة"(3/ 532)، وكذا ابن عساكر في "تاريخ دمشق"(62/ 163).
(3)
رواه اللالكائي في "اعتقاد أهل السنة"(3/ 531).
ومن هنا كان السلف لا يؤولون آيات الصفات وأحاديثها، ويقولون: أمُّرِوها كما جاءت (1)، مع اعتقاد التنزيه.
وتأولها جماعة من الخلف بما يليق بها مع اعتقاد التنزيه أيضاً.
قال الشيخ الجد في ألفيته "الجوهر الفريد": [من الرجز]
وَنُثْبِتُ الَّذِي أَتَى مِنْ مُشْكِلِ
…
فِي سُنَّةِ وَفِي كِتابٍ مُنْزَلِ
مُنَزِّهِينَ اللهَ عَنْ تَمْثِيلِ
…
مُقَدِّسِينَ فِيهِ عَنْ تَعْطِيلِ
كَالْيَدِ وَالْوَجْهِ وَسَمْعٍ وَبَصَرْ
…
وَالرَّوْحِ وَالنَّفْسِ وَعَيْنِ وَنَظَرْ
وَهَلْ يُفَوَّضُ إِلَيْهِ الْمُشْكِلُ
…
سُبْحانَهُ مِنْ ذاكَ أَوْ يُؤَوَّلُ
وَالأَعْلَمُ التَّفْوِيْضُ مَذْهَبُ السَّلَفْ
…
وَالأَحْكَمُ التَّأْوِيْلُ مَذْهَبُ الْخَلَفْ
(1) رواه أبو داود في "المراسيل"(ص: 112): من قول سفيان بن عيينة، وابن أبي حاتم في "العلل"(2/ 210)، وابن بطة في "الإبانة" (3/ 242): عن الأوزاعي، وسفيان الثوري، ومالك بن أنس، والليث ابن سعد.