الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأنتم إن لم تعملوا بهذا الكتاب كان مثلكم كمثلهم.
وقال ابن جريج في قوله: {ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا} [الجمعة: 5]: أمرهم أن يأخذوا بما فيها فلم يعملوا به. أخرج هذه الآثار ابن المنذر (1).
39 - ومنها: أخذ العلم من الكتب، والاعتماد على الكتاب دون الرواية وحسن الروية
.
وقد روي في الأخبار: من وصف هذه الأمة: أناجيلهم في صدورهم (2).
وروى الطبراني في "الأوسط" عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَتبُوا كِتَابًا فَاتَّبَعُوهُ، وَتَرَكُوا التَّوْرَاةَ"(3).
وروى ابن أبي شيبة عن ابن سيرين قال: إنما ضلت بنو إسرائيل بكتب وَرِثوها عن آبائهم (4).
(1) انظر: "الدر المنثور" للسيوطي (8/ 154).
(2)
رواه الطبراني في "المعجم الكبير"(10046) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يرفعه.
(3)
رواه الطبراني في "المعجم الأوسط"(5548)، وكذا الدارمي في "السنن" (480). قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (1/ 192): رواه الطبراني في "الكبير" ورجاله ثقات.
(4)
رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(26445).
وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: أتي بصحيفة فيها حديث، فدعا بماء فمحاها، ثم غسلها، ثم أمر بها فأحرقت، ثم قال: بهذا هلك أهل الكتاب قبلكم، حتى نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون (1).
وروى الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال: كنا قعوداً نكتب ما نسمع من النبي صلى الله عليه وسلم، فخرج علينا فقال:"مَا هَذَا تَكْتبوْنَ؟ "
فقلنا: ما نسمع منك.
فقال: "أَكِتَابٌ مَعَ كِتَابِ اللهِ؟ امْحَضُوا كِتَابَ اللهِ وَأخْلِصُوا"(2).
واعلم أن كتابة العلم وتقييده مما استقر عليه أمر المسلمين بحيث صار إجماعاً، وإنما نهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن كتابة ما يسمعونه منه أولاً حذراً أن يخلط ما ليس بالقرآن به كما في حديث أبي سعيد رضي الله تعالى عنه، ثم أذن في الكتابة بعد.
وأما ما كان عليه جماعة من الصدر الأول من النهي عن كتابة الحديث، فإنما كان حذراً من الاتكال على الخط، وعدم الاجتهاد في حفظ العلم حتى قيل:
(1) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(26447).
(2)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(3/ 12). قال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(1/ 151): فيه عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وهو ضعيف، وبقية رجاله رجال الصحيح.
ما الْعِلْمُ إِلَاّ ما وَعاهُ الصَّدْرُ
…
وَلَيْسَ بِالَّذِي حَوى الْقِمَطْرُ
وبالجملة فإذا تثبت الكاتب، ولم يكتب إلا ما صح الأخذ به من الكتاب والسنة، فهذا مثاب على كتابته -سواء كان ناسخاً، أو مصنفاً إذا كان فيه أهلية لذلك- وهي مما مدحت به هذه الأمة حتى قال القاضي أبو بكر بن العربي في "المعارف" (1): ولم يكن قط في الأمم من انتهى إلى حد هذه الأمة من التصرف في التصنيف والتحقيق.
ثم ما كان بعد زمانه من ذلك لا شك أنه أوسع وأكثر مما رآه أو سمع به.
ولقد جاء بعده أمم من العلماء اتسعت تصرفاتهم، وانتشرت تصنيفاتهم وتأليفاتهم.
وقرأت بخط الشيخ برهان الدين بن جماعة ما قرأه بخط صاحبه الشيخ أبي عبد الله محمد بن مرزوق التلمساني قال: سئل شيخنا الإمام أبو عبد الله التلمساني الآبلي عن كثرة تصانيف هذه الأمة واشتغالها بالتآليف، فقال: هذا من فوائد تحريم الخمر عليها، انتهى.
قلت: ووجهه أن شارب الخمر يصرف مدة من الزمان في الشرب والطرب، وتذهب عليه مدة في السكر والغيبة، فمن كان عالماً توفرت
(1) في "ت": "العارضة" بدل "المعارف".
عليه هذه الأوقات إذا لم يلعب به الهوى، فتكون مصروفة في الجمع والتأليف، والترتيب والتصنيف إن وفقه الله تعالى لذلك.
وأيضاً فإن الخمر مضرة بالعقول، والتصنيف يحتاج إلى عقل رصين، وقد سلمت علماء هذه الأمة إلا من ضربه الله تعالى بسوط الخذلان حتى مده في الغي الشيطان؛ نسأل الله العافية فيما بقي، ونحمده عليها فيما مضى.
وكتابة العلم وتصنيفه في الكتب مما عليه إجماع الأمة، وهو من أعظم أدلة الدين، وفي الكتاب والسنة ما يؤيد هذا الإجماع الرصين.
قال الله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (4)} [الأحقاف: 4].
روى الإمام أحمد -ورجاله رجال الصحيح- والطبراني في "الكبير" عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى:{أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ} [الأحقاف: 4] قال: "الْخَطُّ"(1).
وروى الطبراني في "الأوسط"، ولفظه: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه سئل عن الخط فقال: "هُوَ أثَارةٌ مِنْ عِلْمٍ"(2).
(1) رواه الإمام أحمد في "المسند"(1/ 226)، والطبراني في "المعجم الكبير" (10725). قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (7/ 105): رجال أحمد رجال الصحيح.
(2)
رواه الطبراني في "المعجم الأوسط"(269).
وروى الحاكم في "المستدرك" عن ابن عباس موقوفاً (1) في قوله: {أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ} [الأحقاف: 4] فقال: جودة خط (2).
وهذا الأثر، وقد أخرجه ابن مردويه عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ:"حُسْنُ الخَطِّ"(3).
يشير إلى أن المراد بالخط الكتابة، ولا تكرار عليه لأنه أراد بقول: بكتاب: ما نزاع، وبأثارة: ما قيد به العلم.
وقيل: أراد به التنجيم، وخط الرمل.
والأثارة -بفتح الهمزة-: من مادة: أث ر، وهي والأُثرة - بالضم -: بقية العلم.
وقد روى ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس: أنه قال في قوله: {أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ} [الأحقاف: 4]: بينة من الأمر (4).
وهي شاملة للعلم المكتوب.
والمعنى والله سبحانه أعلم: ائتوني بكتاب منزل على نبي من
(1) في "أ": "مرفوعاً".
(2)
رواه الحاكم في "المستدرك"(3695)، ورواه الطبراني في "المعجم الأوسط"(472) موقوفاً.
(3)
انظر: "الدر المنثور" للسيوطي (7/ 434).
(4)
رواه الطبري في "التفسير"(26/ 3)، وابن أبي حاتم في "التفسير"(10/ 3293).
قبل هذا القرآن، أو بخط جيد ثابت عن من يؤخذ عنهم الدين إن كنتم صادقين.
ففي ذلك إشارة إلى الاحتجاج بالخط، ومعنى جودته، وحسن
ضبطه، والتثبت فيه، ومن ثم اعتبر المحدثون الكتابة، والوِجادة، ومناولة الكتب كما هو مقرر في محله.
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282].
فأمر بكتابة الدَّين حفظاً له من الضياع، فكتابة العلم تقييداً له أولى.
وروى ابن أبي شيبة، وأبو داود عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: كنت كتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأريد حفظه، فنهتني قريش عن ذلك، وقالوا: تكتب كل شيء تسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم يتكلم في الرضا والغضب؟
قال: فأمسكت، وذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فأشار بيده إلى فِيْهِ فقال:"اُكْتُبْ؛ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدهِ مَا يَخْرُجُ مِنِّي إِلَاّ حَقٌّ"(1).
وروى الإمام أحمد -وأصله في الصحيح- عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: ما كان أحد أعلم بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم مني إلا ما كان من عبد الله بن عمرو؛ فإنه كان يكتب بيده ويعيه بقلبه، وكنت أعيه
(1) تقدم تخريجه.
بقلبي ولا أكتب بيدي، واسْتَأْذَنَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكتابة فأذن له (1).
وروى الطبراني في "الأوسط" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اِستَعِنْ بِيَمِيْنِكَ عَلَى حِفْظِكَ"(2).
وفيه إيماء إلى أن الكتابة تكون باليمين، وهي مكروهة بالشمال.
وروى ابن أبي شيبة، والدارميُّ، والحاكم وصححه، عن عمر ابن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: قَيِّدوا العلم بالكتاب (3).
وروى الطبراني -ورجاله رجال الصحيح- عن ثُمامة قال: قال لنا أنس رضي الله تعالى عنه: قيدوا العلم بالكتاب (4).
وروى ابن أبي شيبة عن مسلمة (5)، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما (6).
(1) رواه الإمام أحمد في "المسند"(2/ 403)، وأصله عند البخاري (113).
(2)
رواه الطبراني في "المعجم الأوسط"(801) قال أبو حاتم: هذا حديث منكر. انظر: "علل الحديث" لابن أبي حاتم (2/ 339).
(3)
رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(26427)، والدارميُّ في "السنن"(497)، والحاكم في "المستدرك"(360).
(4)
رواه الطبراني في "المعجم الكبير"(700).
(5)
في "ت": "نحوه" بدل "عن مسلمة".
(6)
ورواه أبو خيثمة في "العلم"(ص: 34)، وعبد الله ابن الإمام أحمد في "العلل ومعرفة الرجال"(1/ 213).