الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(11) بَابُ النَّهْي عَنِ التَّشَبَّهِ بِأَهْلِ الكِتَابِ
(11)
بَابُ النَّهْي عَنِ التَّشَبَّهِ بِأَهْلِ الكِتَابِ
وهم اليهود والنصارى.
وإنما جمعنا بين الكلام على التشبه باليهود والكلام على التشبه بالنصارى لاختلاط أعمالهم غالباً، وتقابلها إما اتحاداً كحالهم في عدم تغيير الشيب، وإما تضاداً كما في مباشرة الحائض؛ فإن اليهود مُفْرِطون في الاجتناب، والنصارى مُفَرِّطون معه بالوقاع.
وقد جمع الله تعالى بين أحوال اليهود وأحوال النصارى كثيراً في كتابه العزيز.
واعلم أن الآيات الناطقة بالنهي عن التشبه باليهود والنصارى خاصة، والأحاديث الواردة في ذلك كثيرة.
قال الله تعالى مكلماً لأوليائه المؤمنين: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 6 - 7].
روى الإمام أحمد بإسناد صحيح، عن عبد الله بن شقيق، عن بعض الصحابة رضي الله تعالى عنهم: أنَّ رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَنْ هؤلاءِ المَغضوب علَيهم؟ فأشار إلى اليهودِ.
قال: فمَنْ هؤلاء الضَّالون؟
قال: "النَّصَارَى"(1).
وأخرجه ابن مردويه عن عبد الله بن شقيق، عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه، وأنه هو السائل (2).
وروى الإمام أحمد، والترمذي وحسنه، وابن حبان في "صحيحه" عن عدي بن حاتم رضي الله تعالى عنه، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"اليَهُودُ مَغْضُوْبٌ عَلَيْهِمْ، وَالنَّصَارَى ضُلَاّلٌ"(3).
وروي هذا التفسير عن كثير من الصحابة والتابعين حتى قال ابن أبي حاتم: لا أعلم عنهم فيه خلافاً (4).
واستنبطه القرطبي وغيره من القرآن؛ فإن الله تعالى وصف اليهود بالغضب عليهم كثيراً كقوله تعالى: {وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} [البقرة: 61].
وقوله تعالى: {فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ} [البقرة: 90].
وقوله تعالى: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ
(1) رواه الإمام أحمد في "المسند"(5/ 77).
(2)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (8/ 159) وحسن إسناده، و"الدر المنثور" للسيوطي (1/ 42).
(3)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(4/ 378)، والترمذي (2954) وحسنه، وابن حبان في "صحيحه"(6246).
(4)
انظر: "تفسير ابن أبي حاتم"(1/ 31).
وَغَضِبَ عَلَيْهِ} [المائدة: 60] الآية.
وقال تعالى في النصارى: {وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة: 77](1).
وقال تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} [البقرة: 120].
قال العلماء: الخطاب في ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، والمراد أمته كما في قوله تعالى:{لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65]
وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام: 159].
أراد بهم اليهود والنصارى لافتراقهم إلى أكثر من سبعين فرقة كما سيأتي.
والمعنى لستَ مشاركاً لهم في شيء، إنما أنت متبرئ من جميع أمورهم.
فينبغي لمن كان متبعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون متبرئاً منهم كتبري متبوعه منهم، ومن كان موافقاً لهم في شيء فهو مخالف للنبي صلى الله عليه وسلم بقدر موافقته لهم.
(1) انظر: "تفسير القرطبي"(1/ 150).
وقال الله تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 105].
قال أكثر المفسرين: وهم اليهود والنصارى (1).
وهو مروي عن جابر رضي الله تعالى عنه (2).
قرأ الجمهور الآية: {وَلَا يَكُونُوا} [الحديد: 16]- بالياء التحتية - على معنى، وكذلك:{أَلَمْ يَأْنِ} [الحديد: 16] لهم؛ أي: لا يكونوا كأهل الكتاب.
وفي ذلك توبيخ لكل مؤمن في كل وقت أن يجتهد على أن لا يكون كأهل الكتاب في قسوة القلب لطول الأمد والعهد.
وقرأ رويس: {وَلَا تَكُونُوا} - بالفوقية - على النهي على طريقة الالتفات من الغيبة للخطاب (3).
وقال تعالى: {وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} [الأعراف: 142].
(1) انظر: "تفسير الطبري"(4/ 39)، و"تفسير ابن أبي حاتم"(3/ 728).
(2)
انظر: "تفسير القرطبي"(4/ 166).
(3)
انظر: "تحبير التيسير في القراءات العشر" لابن الجزري (ص: 576).
فهذا نهي من موسى لأخيه هارون عليهما السلام أن يوافق مفسدي بني إسرائيل، فما ظنك بموافقتهم بعد تبديل كتابهم، أو بعد نسخ ما لم يبدل منه؟
وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ} [المجادلة: 14].
عاب المنافقين الذين تولوا اليهود.
إلى قوله تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة: 22].
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة: 51].
وقد استدل عمر رضي الله تعالى عنه بهذه الآية على المنع من الاستعانة بهم في شيء من الولايات.
فروى الإمام أحمد بسند صحيح، عن أبي موسى رضي الله تعالى عنه قال: قلت لعمر رضي الله عنه: إن لي كاتباً نصرانياً.
فقال: ما لك قاتلك الله؟ أما سمعت الله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [المائدة: 51]؟ ألا اتخذت حنيفاً.
قال: قلت: يا أمير المؤمنين! لي كتابته، وله دينه.
قال: لا أُكرمهم إذ أهانهم الله، ولا أعزهم إذا أذلهم الله، ولا أُدْنيهم إذ أقصاهم الله (1).
أشار عمر رضي الله تعالى عنه إلى أن الرجل الشريف الكبير إذا استعان بالذمي بكتابته أو غيرها فإن انتسابه إليه بسبب ذلك يلجئ الناس إلى إكرامه وإعزازه وتقريبه، وذلك عين توليه.
ولمَّا خالف هذا الأصل أُمراء هذا الزمان فاتخذوا الكتاب والعمال يهود أو نصارى، لزم منه خدمة المسلمين لهم بالإكرام ودفع الأموال وغير ذلك، وفي ذلك إذلال المسلمين.
وإذا كان هذا حال توليهم فكيف التشبه بهم الناشئ عن استحسان ما هم عليه؟
وكيف يوالون أو تُرضى أعمالهم وقد لعنهم الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم كما روى الإمام أحمد عن أسامة بن زيد، والشيخان، والنسائي عن عائشة، وابن عباس معاً، ومسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنهم: أَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَعَنَ اللهُ اليَهُوْدَ وَالنَّصَارَى؛ اتَّخَذُوْا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ"(2).
(1) وروى نحوه ابن أبي حاتم في "التفسير"(4/ 1156)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(9/ 204).
(2)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(5/ 203) عن أسامة بن زيد رضي الله عنه.
والبخاري (425)، ومسلم (531)، والنسائي (703) عن عائشة، وابن عباس رضي الله عنهما.
ومسلم (530)، وكذا البخاري (426) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
ومن المشهور على ألسنة كثير من العوام: لعن الله اليهود، ثم اليهود، ثم أموات النصارى.
وليس هذا بحديث أصلاً، وإن وقع في فتاوى الشيخ شهاب الدين أحمد بن عبد الحق المصري ما يوهم أنه حديث؛ فإني تفحصت عنه كثيراً فلم أجده، وسمعت بعضهم يوجهه: بأن النصارى لهم قرب من الإسلام، كأنه يستدل بقوله تعالى:{وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً} [المائدة: 82] الآية.
قال: ولذلك يسلم منهم كثير بخلاف اليهود، فقد قال تعالى:{فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 88].
وهذا فيه نظر لأن قوله تعالى: {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} [المائدة: 82] إنما نزلت في النجاشي وأصحابه، وهم مسلمون (1).
ولأن اللفظ الجاري على الألسنة المذكور آنفاً يعارضه الحديث الصحيح المتقدم: "لَعَنَ اللهُ اليَهُوْدَ وَالنَّصَارَى"، فجمع بينهم في اللعنة لاجتماعهم في الكفر.
وقد قيل: إن كفر النصارى أشد من كفر اليهود.
نعم، روى عبد الكريم بن السمعاني في "تاريخه" عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قال رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مَا
(1) انظر: "تفسير الطبري"(7/ 2)، و"تفسير ابن أبي حاتم"(4/ 1183).
يَتَصَدَّقُ بِهِ فَلْيَلْعَنِ اليَهُودَ" (1).
وأخرجه الخطيب في "تاريخه"، والديلمي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه:"مَنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ صَدَقَةٌ فَلْيَلْعَنِ اليَهُودَ؛ فَإِنَّهَا لَهُ صَدَقَةٌ"(2).
وروى أبو الشيخ بن حيان في كتاب "الثواب"، والديلمي عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم يقول: "مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ عَبْدِكَ وَرَسُوْلِكَ، وَعَلَى المُؤْمِنِيْنَ وَالمُؤْمِنَاتِ، وَالمُسْلِمِينَ وَالمُسْلِمَاتِ؛ فَهُوَ لَهُ زَكَاةٌ"(3).
واعتبر؛ كما يطلب منك أن تتشبه بمن أمرت بالصلاة عليهم، طُلبَ منك أن تنتهي عن التشبه بمن أمرت أن تلعنهم.
وأما الأحاديث الواردة في النهي عن التشبه باليهود والنصارى فستأتي مفرقة في محالِّها.
ومن أعمها: ما رواه الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي عن
(1) ورواه أبو القاسم الجرجاني في "تاريخ جرجان"(ص: 322)، وابن عدي في "الكامل" (4/ 200) وقال: حديث معضل. قال الخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد"(14/ 269): هذا كذب وباطل لا يحدث بهذا أحد يعقل.
(2)
رواه الخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد"(1/ 258). قال ابن القيم في "المنار المنيف"(ص: 61): - بعد أن ذكره في تعداد الحديث الباطل في نفسه -: اللعنة لا تقوم مقام الصدقة أبداً.
(3)
رواه الديلمي في "مسند الفردوس"(5963).
هُلْب رضي الله تعالى عنه: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "لا يَخْتَلِجَنَّ فِي صَدْرِكَ شَيْءٌ ضَارَعْتَهُ"(1)؛ أي: شابهت فيه النصرانية.
فإن قيل: ما تصنع بقول الأكثرين - وإن كان أكثر المحققين على خلافه -: إن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يدل شرعنا على خلافه؟
وبحديث "الصحيحين" عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: "كَانَ أَهْلُ الكِتَابِ يسْدِلُونَ أَشْعَارَهُم، وَكَانَ المُشْرِكُونَ يُفَرِّقُونَ شُعُورَهُم، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُحِبُّ مُوَافَقَةَ أَهْلِ الكِتَابِ فِيْمَا لَمْ يُؤْمَرْ فِيهِ بِشَيْءٍ، فَسَدَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ فَرَقَ"(2).
وحديثهما عنه: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قدِم المدِينةَ فوجدَ اليهودَ صياماً يومَ عاشوراءَ فقال لهُم: "مَا هَذَا الْيَومُ الَّذِي تَصُومُونهُ؟ "
قالوا: هذا يومٌ عظيمٌ أنجى اللهُ تعالى فيهِ موسى عليه السلام وقومه، وغرَّق فيةِ فرعونَ وقومهُ، فصامهُ موسَى شكراً، فنحن نصومه تعظيماً له.
فقالَ رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم: "فَنَحْنُ أَحَقُّ وَأَوْلَى بِمُوسَى مِنْكُم".
فصامه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر بصيامه (3).
فالجواب: أنَّ شرع من قبلنا إنما يكون شرعاً لنا عند من يقول به
(1) رواه الإمام أحمد في "المسند"(5/ 226)، وأبو داود (3784)، والترمذي (1565) وحسنه.
(2)
رواه البخاري (3365)، ومسلم (2336).
(3)
رواه البخاري (1900)، ومسلم (1130).
فيما لم يكن له في شرعنا بيان خاص إمَّا بالموافقة أو بالمخالفة، ثم لا نأخذ به إلَاّ إن ثبت أنَّه شرع سابق بطريق يفيد العلم لا بمجرد نقل أهل الكتاب، ولا بالرجوع إلى ما في كتبهم.
وفي الحديث الصحيح: "إِذَا حَدَّثَكُم أَهْلُ الْكِتَابِ فَلا تُصَدِّقُوهُم وَلا تُكَذِّبُوهُم"(1).
وأمَّا قول ابن عباس رضي الله عنهما: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء (2).
ولعلَّ محل ذلك فيما لو دار أمره بين أمرين أحدهما يوافق فيه المشركين، والآخر يوافق فيه أهل الكتاب؛ لأنَّه كان يرجو أن يكون موافقاً لما لم يكن مُغيَّراً من كتابهم، وهذا كما في الفرق والسدل، ثم أمر بالفرق ففرق.
أو يقول: كان من شِرْعه صلى الله عليه وسلم موافقته لأهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء، ثم نسخ ذلك وأمر بمخالفتهم، ولذلك كان يسدل ثم فرق، وصار الفرق شعارَ المسلمين.
وهذا كما كان صلى الله عليه وسلم يستقبل بيت المقدس موافقة لأهل الكتاب، ثم نسخ ذلك وأمر باستقبال الكعبة.
وقد روى ابن عدي في "الكامل" عن ابن عمر رضي الله تعالى
(1) رواه أبو داود (3644) عن أبي نملة رضي الله عنه.
(2)
تقدم تخريجه قريباً.
عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اِخْتَضِبُوا وَافْرُقُوْا، وَخَالِفُوا اليَهُودَ"(1).
ثم لو فرضنا أن موافقته لهم فيما لم يؤمر فيه بشيء لم ينسخ، فلنا أن نقول: إنَّه صلى الله عليه وسلم هو الذي كان له أن يوافقهم لأنه يعلم حقهم من باطلهم، ونحن نوافقه ونتَّبعه.
فأمَّا نحن فليس لنا أن نأخذ عنهم شيئاً من الدين، لا من أقوالهم ولا من أفعالهم.
وأمَّا موافقته صلى الله عليه وسلم لليهود في صوم عاشوراء فقد كان صلى الله عليه وسلم يصومه قبل أن يهاجر إلى المدينة، فلما هاجر صامه وأمر بصيامه، كما ثبت في "الصحيحين" من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها (2).
وأيضاً فقد روى ابن أبي شيبة بسند صحيح، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قالَ رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم: "صُوْمُوا يَوْمَ عَاشُورَاءَ؛ يَومٌ كَانَتِ الأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ تَصُوْمُهُ، فَصُومُوْهُ"(3).
فصام النبي صلى الله عليه وسلم عاشوراء، ولم يكن لموافقة اليهود، بل كان لموافقة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، حيث أعلمه الله تعالى أنهم كانوا يصومونه، ولذلك قال كما في حديث ابن عباس: "نَحْنُ أَحَقُّ
(1) رواه ابن عدي في "الكامل"(2/ 195) عن الحارث بن عمران الجعفري، وقال: الضعف بين على رواياته.
(2)
رواه البخاري (1898)، ومسلم (1125).
(3)
رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(9355).
وَأَوْلَى بِمُوسَى مِنْكُم" (1)، فأشار إلى أنَّ صومه إنما كان تشبهاً بموسى عليه السلام، واقتداء به لا بهم، ولذلك أمر صلى الله عليه وسلم آخر الأمر أن يصام قبله يوماً وبعده يوماً ليكون بذلك مخالفاً لليهود، كما روى الإمام أحمد، والبيهقي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم: "صُوْمُوا يَوْمَ عَاشُوْرَاءَ، وَخَالِفُوا فِيهِ اليَهُودَ، وَصُومُوا قَبْلَهُ يَوْمًا وَبَعْدَهُ يَوْمًا" (2).
ورواه سعيد بن منصور، ولفظه:"وَصُوْمُوا يَومًا قَبْلَهُ وَيَومًا بَعْدَهُ".
وروى البخاري عن أبي موسى رضي الله تعالى عنه قال: كان يوم عاشوراء تعده اليهود عيداً؛ قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "فَصُومُوا أَنْتُم"(3).
وروى مسلم عنه قال: كان يوم عاشوراء تعظِّمه اليهود وتتخذه عيداً.
وفي لفظ له: كان أهل خيبر يصومون يوم عاشوراء يتخذونه عيداً، ويُلبسُون نساءهم فيه حليهن، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:"فَصُوْمُوهُ أَنْتُم، وَلا تتَّخِذُوهُ عِيْدًا"(4).
(1) تقدم تخريجه قريباً.
(2)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(1/ 241)، والبيهقي في "شعب الإيمان"(3790).
(3)
رواه البخاري (1901).
(4)
رواه مسلم (1131).
والحاصل: أنَّ الذي استقر عليه الأمر أنَّ التشبه بأهل الكتاب منهي عنه في الجملة، وأنَّ مخالفتهم في هَدْيِهِم مشروعة وجوباً أو ندباً، في أصل الفعل أو في هيئته.
فإن كان الأمر المشروع عندهم مشروعاً عندنا كصوم يوم عاشوراء ودفن الميت، خالفناهم في صفة ذلك الأمر، فنصوم يوماً قبل عاشوراء أو بعده، ونختار في الدفن اللَّحد حيث اختاروا الشق كما سيأتي.
وإن كان المشروع عندهم منسوخاً عندنا كالسبت، والامتناع من أكل الشحوم، خالفناهم في أصل ذلك الأمر، ولم نكتف بمخالفتهم في الوصف.
وكذلك فيما لم يكن مشروعاً عندهم ولا عندنا مما ابتدعوه؛ كمحاباة اليهود الأشراف في الحدود، وتحويل النصارى صوم رمضان إلى أيام الربيع، وزيادة الصوم فيه على ثلاثين يوماً، بل موافقتهم في ذلك أقبح من موافقتهم فيما كان مشروعاً عندهم، ثم نسخ عندنا، وإن كان الكل قبيحاً لأنَّا مأمورون بمخالفة المبتدعة من أهل الملة، فكيف بالمبتدعة من غيرهم.
* تَنْبِيْهٌ:
ما ينهى عن التشبه فيه بأهل الكتاب هو ما تَلَبَّسُوا به مما نهاهم عنه أنبياؤهم قبل نسخ دينهم أو مما ابتدعوه ولم يكن مشروعاً، ثم نسخ.
فأما ما لم يقبل النسخ، واتَّفقت عليه الأمم كالتوحيد وأصول
العقائد المتفق عليها، فهذا دين الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ولا يصح النهي عنه بحال.
وأمَّا ما يقبل النسخ ولم ينسخ؛ كمحاسن الآداب، ومكارم الأخلاق كإجلال مَنْ يُجل واحترامه، والجود، والحلم، والحياء، فهذا يتشبه فيه بصالحي أهل الكتاب وغيرهم ما لم يثبت في شريعتنا خلافه كسجود التحية، فيجتنب.
* تَتِمَّةٌ:
بان لك أن التشبه بأهل الكتاب على قسمين:
مذمومٌ منهي عنه: وهو التشبه بضُلَاّلهم.
ومحمودٌ ومأمور به أو مندوب إليه: وهو التشبه بهُدَاتهم.
قال الله تعالى: {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ} [آل عمران: 113 - 114].
وقد تقدم الكلام على هذه الآية في التشبه بالصالحين.
وقال الله تعالى: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (56)
وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [آل عمران: 55 - 57].
قال العلماء: المراد بالذين اتبعوا عيسى صالحوا أمته إلى عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ومن بعده، فالمراد بهم من آمن منهم بعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم، وتديَّن بدين محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن عيسى بشَّرهم به، وعرَّفهم بعموم رسالته.
وفي "الصحيحين" عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم: "ثَلاثَةٌ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ - وفي لفظٍ: لهم أَجرَانِ -: رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمَنَ بِنَبِيِّهِ وَأَدْرَكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فآمَنَ بِهِ، وَاتَّبَعَهُ وَصَدَّقَهُ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَرَجُلٌ كَانَ لَهُ أَمَةٌ فَأَدَّبَهَا فَأَحْسَنَ أَدبَهَا، ثُمَّ أَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَ بِهَا فَلَهُ أَجْرَانِ، وَعَبْدٌ مَمْلُوكٌ أَدَّى حَقَّ اللهِ وَحَقَّ سَيِّدِهِ فَلَهُ أَجْرَانِ"(1).
ومصداق هذا الحديث في مؤمني أهل الكتاب قولُه تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ} [القصص: 52] إلى قوله تعالى: {أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ} [القصص: 54].
وقال تعالى في النَّجاشي وأصحابه، وغيرهم من مؤمني النصارى:{وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} إلى قولى تعالى: {يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [المائدة: 82 - 83].
(1) رواه البخاري (3262)، ومسلم (154) واللفظ له.
قال: {فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [المائدة: 85] الآية.
* تَنْبِيْهٌ:
ممن وفق لموافقة الحنيفية ومخالفة اليهود والنصارى قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم زيد بن عمرو بن نفيل، وهو والد سعيد بن زيد أحد العشرة رضي الله عنهم.
روى محمد بن سعد في "طبقاته" عن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب قال: قال زيد بن عمرو بن نفيل: شاممت النصرانية واليهودية فكرهتهما، فكنت بالشام وما والاها حتى لقيت راهباً في صومعة، فوقفت عليه، فذكرت له اعتزالي عن قومي، وكراهتي عبادة الأوثان، واليهودية والنصرانية، فقال له: أراك تريد دين إبراهيم، يا أخا أهل مكة! إنَّك لتريد ديناً ما يوجد اليوم، وهو دين أبيك إبراهيم، كان حنيفاً، لم يكن يهودياً ولا نصرانياً، كان يصلي ويسجد إلى هذا البيت الذي ببلادك، فَالْحَق ببلدك؛ فإن الله يبعث من قومك في بلدك من يأتي بدين إبراهيم الحنيفية، وهو أكرم الخلق على الله تعالى (1).
وقد ذكر البخاري، وغيره عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنهما قالت: رأيت زيد بن عمرو بن نفيل قائماً مسنداً ظهره إلى الكعبة يقول: يا معشر قريش! والله ما منكم أحد على دين إبراهيم غيري، وكان يحيى الموؤدة (2).
(1) رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى"(1/ 162).
(2)
رواه البخاري (3616).
وذكر آخرون أنَّه كان يصلي إلى الكعبة، وكان يحج ويقف بعرفة، ويقول في تلبيته: لبيك لا شريك لك ولا ندَّ لك، ويقول: لبيك حقاً حقاً، تعبُّداً ورِقًّا، عُذْت بما عاذ به إبراهيم عليه السلام.
وكان لا يأكل مما ذُبحَ على النُّصُب، ومن ثم قال رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم وقد سئِلَ عَنهُ:"ذَاكَ يُحْشَرُ أُمَّةً وَحْدَهُ بَيْنِي وَبَيْنَ عِيْسَى". أخرجه ابن عساكر بإسناد جيد، عن جابر (1).
وأخرج الإمام أحمد نحوه من حديث ولده سعيد بن زيد رضي الله تعالى عنهم (2).
وقالَ صلى الله عليه وسلم: "قَدْ رَأَيْتُهُ فِي الجَنَّةِ يَسْحَبُ ذُيُوْلاً". أخرجه الواقدي عن عامر بن ربيعة رضي الله تعالى عنه (3).
فانظر ما استوجبه زيد بن عمرو بن نفيل رضي الله تعالى عنه بسبب اجتناب قبائح اليهود والنصارى والمشركين.
(1) رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق"(63/ 23)، وكذا أبو يعلى في "المسند"(2047). وحسن ابن كثير إسناد ابن عساكر في "البداية والنهاية"(2/ 241).
وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(9/ 416): رواه أبو يعلى، وفيه مجالد، وهذا مما مدح من حديث مجالد، وبقية رجاله رجال الصحيح.
(2)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(1/ 189)، وكذا الحاكم في "المستدرك"(5855).
(3)
ورواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى"(1/ 162)، والطبري في "التاريخ"(1/ 529).
* تنبِيْهٌ:
وإذ قد علمت مما سبق أنَّ التشبه بأهل الكتاب منه محمود ومنه مذموم، وهو مؤدَّى قول حذيفة رضي الله تعالى عنه: نِعْمَ الإخوة لكم بنو إسرائيل؛ كانت فيهم المُرَّة وفيهم (1) الحلوة. رواه أبو نعيم (2).
فلعلك تقول: لو أشرت إلى الترغيب في التشبه بصالحيهم؟
فأقول لك في الجواب: يغني عن ذلك ما ذكرناه في القسم الأول من التشبه بالصالحين فمن فوقهم لاندراجهم فيهم.
ثم إنَّ الاعتناء بالتحذير من التشبه ببني إسرائيل وسائر أهل الكتاب، بل وبغيرهم من الأمم من أهم ما يعتنى به، ويهتم بشأنه لأن النفوس أخوات، والناس أشباه تميل أخلاقهم لمثل ما مالت إليه أسلافهم، فتعيَّن التحذير مما هلكت به وعليه الأسلاف.
وقد روى الإمام مالك في "الموطأ"، والإمام أحمد، والشيخان، وابن ماجه عن أبي سعيد، والطبراني في "الكبير" عن سهل بن سعد، وابن أبي شيبة، والحاكم في "المستدرك" عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنهم قالوا: قال رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ الَّذِيْنَ مِن قَبْلِكُم شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعاً بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَو سَلَكُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَسَلَكْتُمُوهُ".
قالوا: يا رسولَ اللهِ! اليهود والنَّصارى؟
(1) في "حلية الأولياء": "وفيكم"بدل "وفيهم".
(2)
رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(3/ 50).
قال: "فَمَن؟ "(1).
وروى البزار بسند صحيح، والحاكم وصححه، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَتَرْكَبُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُم شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعاً بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ أَنَّ أَحَدَهُم دَخَلَ جحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُم، وَحَتَّى لَوْ أَنَّ أَحَدَهُم جَامَعَ أُمَّهُ لَفَعَلْتُم"(2).
وروى الطبراني عن ابن مسعود رضي الله عنه: أَنَّ النَّبِي صلى الله عليه وسلم قالَ: "إِنَّكُمْ أَشْبَهُ الأُمَمِ بِبَنِي إِسْرَائيْلَ؛ لَتَرْكَبُنَّ طَرِيقَهُمْ حَذْوَ القُذَّةِ بِالقُذَّةِ، حَتَّى لا يَكُونَ فِيْهِم شَيْءٌ إِلَاّ كَانَ فِيكُم مِثْلَهُ، حَتَّى إِنَّ القَوْمَ لتمُرُّ عَلَيْهِمُ المَرْأَةُ فَيَقُومُ إِلَيْهَا بَعْضُهُم فَيُجَامِعُهَا، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى أَصْحَابِهِ فَيَضْحَكُ إِلَيْهِم وَيَضْحَكُونَ إِلَيْهِ"(3).
وإنما خصص أهل الكتابين بعد التعميم في ركوب سنن الأولين
(1) رواه الإمام أحمد في "المسند"(3/ 84)، والبخاري (3269)، ومسلم (2669)، عن أبي سعيد رضي الله عنه.
والطبراني في "المعجم الكبير"(5943) عن سهل بن سعد رضي الله عنه.
وابن أبي شيبة في "المصنف"(37376)، والحاكم في "المستدرك"(106)، وكذا ابن ماجه (3994) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
رواه الحاكم في "المستدرك"(8404). قال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(7/ 261): رواه البزار، ورجاله ثقات.
(3)
رواه الطبراني في "المعجم الكبير"(9882). قال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(7/ 261): فيه من لم أعرفه.
لأنهم أقرب عهد إلى هذه الأمة.
وخصص بني إسرائيل في هذا الحديث لطول مدتهم واشتهار قبائحهم.
وعمَّم فيما رواه الطبراني في "الأوسط" بإسناد صحيح، عن المستورد بن شداد رضي الله تعالى عنه، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"لا تَتْرُكُ هَذهِ الأُمَّةُ شَيْئاً مِنْ سَنَنِ الأَوَّلِيْنَ حَتَّى تَأتِيَهُ"(1).
والمراد بالسنن في هذه الأحاديث سيئاتها، وسنن فسَّاقها وضُلَاّلها؛ لأن المقام الذي أوردت فيه مقام تهويل وتوبيخ وتحذير.
وقد وقع بيان ذلك فيما رواه الإمام أحمد، والطبراني عن شداد ابن أوس رضي الله تعالى عنه، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"لَيحْمِلَنَّ شِرَارُ هَذِهِ الأُمَّةِ عَلَى سَنَنِ الَّذِينَ خَلَوا مِن أَهْلِ الكِتَابِ حَذْوَ الْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ"(2).
وروى الطبراني بسند جيد، والحاكم وصححه، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقولُ: "سَيُصِيبُ أُمَّتِي دَاءُ الأُمَمِ".
(1) رواه الطبراني في "المعجم الأوسط"(313) وقال: لا يروى هذا الحديث عن المستورد إلا بهذا الإسناد تفرد به ابن لهيعة.
(2)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(4/ 125)، والطبراني في "المعجم الكبير" (7140). قال ابن عدي في "الكامل" (4/ 39): رواه شهر بن حوشب، وشهر هذا ليس بالقوي في الحديث، وهو ممن لا يحتج بحديثه، ولا يتدين به.
فقالوا: يا رسول الله! وما داء الأمم؟
قال: "الأَشَرُ، وَالبَطَرُ، وَالتَّدَابُرُ، وَالتَّنَافُسُ، وَالتَّبَاغُضُ، وَالبُخْلُ حَتَّى يَكُونَ البَغْيُ ثُمَّ يَكُونَ الهَرْجُ"(1).
* تَنْبِيْهٌ:
روى ابن أبي شيبة عن حذيفة رضي الله تعالى عنه قال: لتركبنَّ سنن بني إسرائيل حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة، غير أني لا أدري تعبدون العجل أم لا (2).
لكن روى الديلمي عن حذيفة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لِكُلِّ أُمَّةٍ عِجْلٌ يَعْبُدُونهُ، وَعِجْلُ هَذِهِ الأُمَّةِ الدَّرَاهِمُ وَالدَّناَنِيْرُ"(3).
وعنده من حديث أبي هريرة مرفوعاً: "لِكُلِّ شَيْءٍ آفَةٌ تُفْسِدُهُ، وَأَعْظَمُ الآفَاتِ آفَةٌ تُصِيْبُ أَمَّتِي حُبُّهُمُ الدُّنْيَا، وَحُبُّهُمُ الدِّينَارَ وَالدِّرْهَمَ؛ يَا أَبَا هُرَيْرَة! لا خَيْرَ فِي كَثِيْرٍ مِمَّنْ جَمَعَهَا إِلَاّ مَنْ سَلَّطَهُ اللهُ
(1) رواه الطبراني في "المعجم الأوسط"(9016)، والحاكم في "المستدرك" (7311). قال العراقي في "تخريج أحاديث الإحياء" (2/ 863): إسناده جيد.
(2)
رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(37387).
(3)
رواه الديلمي في "مسند الفردوس"(5019). قال العراقي في "تخريج أحاديث الإحياء"(2/ 1092): إسناد فيه جهالة.
عَلَى هَلَكَتِهَا فِي الحَقِّ" (1).
واعلم أن الخصلة التي كانت سبباً لضلال اليهود والنصارى وهلاكهم التهاون بالطاعات، واحتقار الصغائر من المعاصي، وكانوا يتركون الدين شيئاً فشيئاً حتى رق دينهم وهان أمرهم، ثم ارتكبوا العظائم، ثم كفروا وأشركوا، كما يشير إليه قوله تعالى:{وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} [البقرة: 61].
بيَّنت الآية أن سبب ذلتهم ومسكنتهم وبوائهم بالغضب الكفر، وقتل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وأنَّ سبب وقوعهم في الكفر المعصية والتهاون بها، واعتياد العدوان على الناس، فَجَزَّهم قليل الشر إلى كثيره.
وروى أبو نعيم في "الحلية" عن طارق بن شهاب، عن حذيفة رضي الله تعالى عنهما قال: قيل له: في يوم واحد تركت بنو إسرائيل دينهم؟
قال: لا، ولكنهم كانوا إذا أمروا بشيء تركوه، وإذا نهوا عنه ركبوه، حتى انسلخوا من دينهم كما ينسلخ الرجل من قميصه (2).
واعلم أنَّ قبائح اليهود والنصارى، وأعمالهم وأخلاقهم التي أمرنا بمخالفتهم فيها كثيرة جداً.
(1) رواه الديلمي في "مسند الفردوس"(641).
(2)
رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(1/ 279).