الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ففي هذا المقطع توجيه للمؤمنين لما فيه هداهم وخلاصهم، وتحذير لهم مما فيه هلاكهم وعذابهم. ومحل أهل الكتاب في هذا، وكونهم فئتين: فئة تؤمن، وأخرى تستمر على فسوقها، وكفرها، وعدم استواء هاتين في ميزان الله. ثم يختم المقطع الكلام عن الكافرين، فالمقطع توضيح لمقدمة سورة البقرة، وتفصيل لبعض ما فيها من إجمال، وتبيان لما ينبغي أن يلاحظ بسبب أن الناس مسلم وكافر.
المعنى الحرفي:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ أى: اتقوا الله واجب تقواه وما يحق منها وذلك يكون: بالقيام بالواجب، والاجتناب عن المحارم، فسرها عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فقال:«أن يطاع فلا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر» وذهب بعضهم إلى أنها منسوخة بقوله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ورد هذا القول ابن عباس وفسرها فقال: لم تنسخ، ولكن حق تقاته، أن يجاهدوا في سبيله حق جهاده، ولا تأخذهم في الله لومة لائم، ويقوموا بالقسط ولو على أنفسهم، وآبائهم، وأبنائهم. وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ. أي: لا تكونوا على حال سوى حال الإسلام إذا أدرككم الموت، وذلك بأن تحافظوا على الإسلام في حال صحتكم، وسلامتكم، لتموتوا عليه، فإن الكريم قد أجرى عادته بكرمه أنه من عاش على شئ مات عليه، ومن مات على شئ بعث عليه، فعياذا بالله من خلاف ذلك.
وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً أي: تمسكوا بالقرآن كلكم. وَلا تَفَرَّقُوا أي: ولا تتفرقوا؛ بأن يكون منكم فعل ما يكون عنه التفرق، ويزول به حق الاجتماع، أو لا تتفرقوا عن الحق بوقوع الاختلاف بينكم، أو لا تتفرقوا كما كنتم في الجاهلية: يحارب بعضكم بعضا. وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً هذا النص نزل في شأن الأوس والخزرج، فإنه قد كان بينهم حروب كثيرة في الجاهلية، وعداوة شديدة، وضغائن وإحن، طال بسببها قتالهم، والوقائع بينهم، فلما جاء الله بالإسلام؛ فدخل فيه من دخل، صاروا متحابين بجلال الله، متواصلين في ذات الله، متعاونين على البر والتقوى. وتدخل في ذلك كل حالة شبيهة جمع الله فيها القلوب على الحق بعد إذ كانت متفرقة على الباطل،
فهي نعمة تستوجب ذكرا وشكرا. وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ الشفا:
الحرف والطرف، أي: وكنتم على طرف حفرة من النار؛ بما كنتم عليه من الكفر ليس بينكم وبين النار إلا أن تموتوا، فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها أي: فأنقذكم الله منها بفضله وكرمه، إذ هداكم للإسلام. كَذلِكَ أي: كمثل هذا البيان البليغ، يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ أي: يوضحها لكم، ويذكركم بها في قرآنه. لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ أي:
لتهتدوا إلى الصواب، وما ينال به الثواب. أو لتكونوا مهتدين.
وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ تحتمل معنيين: الأول أن تكون (من) للبيان، أي:
ولتكونوا أمة، ويكون هذا أمر لجميع الأمة بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والثاني: أن تكون (من) للتبعيض، فيكون الأمر هنا لبعض الأمة أن يكون منها من يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، وتكون المسألة من باب فروض الكفايات، والأمة هنا الجماعة. يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ. الدعوة إلى الخير هي الدعوة إلى الكتاب والسنة، والمعروف: ما استحسنه الشرع والعقل الذي لا يناقض الشرع، أو ما وافق الكتاب والسنة، أو هو الطاعة، أو هو المباح والمندوب، والواجب والفرض.
والمنكر: ما استقبحه الشرع والعقل الموافق للشرع، أو ما خالف الكتاب والسنة، أو هو المعاصي، أو هو المكروه والحرام. وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ أي: هم الأخصاء بالفلاح الكامل.
وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا تفرقوا في العداوة، واختلفوا في الديانة، فكفر بعضهم بعضا. مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ الواضحات الموجبة للاتفاق على كلمة واحدة: وهي كلمة الحق. وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ
يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ أي: يوم القيامة تبيض وجوه أهل الحق، والجماعة، والسنة وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ وجوه أهل الباطل، والفرقة، والبدعة، أو تبيض وجوه المؤمنين، وتسود وجوه الكافرين، والبياض من النور، والسواد من الظلمة، وللمؤمن نوره ولو كان أسود اللون، وللكافر ظلمته ولو كان أبيض. فالسواد والبياض عند الله إنما هما ظلمة الكفر ونور الإيمان فالعبرة لبياض القلب أو ظلمته. فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ فيقال لهم: أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ وهذا توبيخ لهم، وتعجيب من حالهم، وما المراد بالإيمان هنا؟ هل المراد به الإيمان في عالم الذر يوم الميثاق إذ قالت الأرواح مقرة لله بالربوبية: بلى؟ فيكون المراد بهذا الخطاب جميع الكفار، أو المراد بالإيمان هنا الإيمان الدنيوي فيكون المراد بهذا أهل النفاق، والمرتدين إذ كفروا بعد الإيمان، أو كفروا باطنا، وأظهروا الإيمان ظاهرا، أو المراد به هنا إيمان أهل الكتاب،
الذين كانوا يؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل بعثته، فلما بعث كفروا به، أو المراد بالإيمان هنا أصل الفطرة، ثم حدث الكفر، والنص يدخل فيه هذا كله، ويخص من سبق إليه إيمان، ثم كفر بفرقة، أو بدعة، أو عداء لحق. فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ أي: بسبب كفركم.
وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ وهم أهل الإيمان فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ أي: في نعمته، وجنته، وثوابه هُمْ فِيها خالِدُونَ أي: ماكثون لا يظعنون عنها، ولا يموتون.
تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ أي: هذه آيات الله، وحججه، وبيناته، نتلوها عليك يا محمد متلبسة بالحق، والعدل من أمر الدنيا والآخرة. وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ أي: لا يريد الله أن يظلم عباده فيأخذ أحدا بغير جرم، أو يزيد في عقاب مجرم، أو ينقص من ثواب محسن.
وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أي: الجميع ملك له وعبيد له.
وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ أي: هو الحاكم المتصرف في الدنيا والآخرة فيجازي المحسن بإحسانه، والمسئ بإساءته.
كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ أي: وجدتم خير أمة أظهرت للناس، ثم بين سبب ذلك وعلته. تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ فمن اتصف من هذه الأمة بهذه الصفات دخل معهم في المدح.
قال عمر بعد أن قرأ هذه الآية: «من سره أن يكون من هذه الأمة فليؤد شرط الله فيها» .
قال ابن كثير: ومن لم يتصف بذلك أشبه أهل الكتاب الذين ذمهم الله تعالى كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ (سورة المائدة) ولهذا لما مدح تعالى هذه الأمة على هذه الصفات، شرع في ذم أهل الكتاب، وتأنيبهم، فقال تعالى: وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ أي: بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما أنزل عليه لَكانَ خَيْراً لَهُمْ أي: لكان الإيمان خيرا لهم مما هم فيه؛ لأنهم إنما يؤثرون دينهم على دين الإسلام حبا بالرئاسة والسلطة لهم أو لأقوامهم، واستتباعا للعوام، أو كبرا وحسدا. ولو آمنوا لكان خيرا لهم في الدنيا والآخرة، مع الفوز بما وعدوا به على الإيمان من إيتاء الأجر مرتين كما سنرى.
مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ أي: قليل منهم من يؤمن بالله: وما أنزل إليكم، وما أنزل إليهم، وأكثرهم على الضلالة، والفسق، والعصيان.
ثم أخبرنا تعالى مبشرا لنا أن النصر والظفر لنا على أهل الكتاب الكفرة الملحدين، وإن مسنا منهم أذى قال تعالى: لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً أي: ضررا مقتصرا على أذى: من طعن في الدين، أو تهديد، أو نحو ذلك دون أن يستطيعوا استئصالكم وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ
الْأَدْبارَ منهزمين، فلا يثبتون أمامكم. ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ أي: ثم لا يكون لهم نصر من أحد، ولا يمنعون منكم، وهذه أعظم بشارة لنا إن كنا مؤمنين حقا. خاصة في صراعنا مع اليهود، وأما هزائمنا أمامهم،
فتدل على أن الذين يقاتلونهم لم يتحققوا بصفات الإيمان، وهذا ظاهر إذ اللواء الذي قاتل تحته العرب فهزموا حتى الآن، إنما هو لواء الكفر، والفسوق، وإلا فالوقائع الماضية للمؤمنين مع أهل الكتاب شاهدة لما ذكرته الآية ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا هذا الكلام خاص باليهود، بدليل ما يأتي من صفاتهم التي هي علم عليهم. والآية تفيد أن اليهود قد ألزموا الذلة أينما وجدوا، وذلك بدفعهم الجزية لكل دولة يعيشون في ظلها، وخوفهم الدائم أينما كانوا.
مما يضطرهم لفعل الذليل من الأعمال، نفاقا واتقاء شر. ثم استثنى الله حالة عرفناها في عصرنا إذ قامت لهم دولة في فلسطين. قال تعالى: إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ أي: إلا بإمداد من الله، وإمداد من الناس، إلا بسبب يعطيهم الله إياه، وبسبب من الناس يكون لهم، فترتفع عنهم الذلة بذلك ويكون لهم دولة وسلطان، وهذا ما حدث الآن إذ أمدهم الله، وسخر لهم وسلطهم علينا بظلمنا، وإذ تمالأ العالم كله لصالحهم يمدهم ويحميهم، ويكيد لهم، ويخدمهم، فكان ما نعلمه، ولكنه حدث عارض بدليل ما سيمر معنا في سورة الأعراف، وفي سورة الإسراء. وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ أي: ألزموا بغضب الله بما استوجبوه من ذلك
وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ أي خوف الفقر هنا مع قيام اليسار. فهم لا يرون إلا مساكين متظاهرين بذلك، أو متحققين- وسبب هذا كله- وهو تهديد لنا أن نفعل مثل فعلهم، فنستحق ما استحقوه هم ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ أي: سبب ضرب الذلة والمسكنة عليهم، وبوئهم بغضب الله، كفرهم بآيات الله، وقتلهم الأنبياء بغير حق. ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ أي: سبب قتلهم الأنبياء، وكفرهم، هو عصيانهم لله، واعتداؤهم حدوده فالعصيان والاعتداء هما مقدمتا
الكفر والجرأة على سفك دم أهل الإيمان. وقد كفر كثيرون من هذه الأمة في عصرنا، حكاما ومحكومين، وقتلوا الدعاة إلى الله، وتجاوزوا حدوده، ووقعوا في معاصيه. أيستغرب بعد ذلك أن يغلبهم اليهود في معاركهم، وما غلب اليهود المسلمين، وإنما غلبوا أمثالهم. وإذ ذكر الله منذ قليل أن من أهل الكتاب من يؤمن، وأكثرهم المستمر على الكفر. فالآن يبين فضل الأولين،
بعد أن بين خسران الآخرين قال تعالى: لَيْسُوا سَواءً أي ليسوا