الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مستوين من سيذكر منهم مع من ذكر. مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ من آمن منهم بالإسلام أُمَّةٌ قائِمَةٌ أي: جماعة مستقيمة عادلة. قائمة بأمر الله مطيعة لشرعه، متبعة نبيه. فقائمة هنا بمعنى: مستقيمة. يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ أي: يقومون الليل، ويكثرون التهجد، ويتلون القرآن في صلواتهم. وآناء الليل:
ساعاته.
يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ المسارعة في الخير: فرط الرغبة فيه، لأن من رغب في الأمر سارع بالقيام به، وهؤلاء يبادرون إليها خشية الفوت. وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ.
أي: وهؤلاء الموصوفون بما وصفوا به من المسلمين، أو من جملة الصالحين، صلحت أحوالهم عند الله ورضيهم.
وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ أي لن يحرموا أجره. وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ أي: لا يخفى عليه عمل عامل، ولا يضيع لديه أجر من أحسن عملا، وهذه بشارة للمتقين بجزيل الثواب.
ثم قال تعالى مخبرا عن الكفرة.
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أي: لا يرد عنهم بأس الله ولا عذابه. وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ ماكثون فيها أبدا، فما أشد هذا العقاب، وما أعد له، لأنهم لو بقوا أبدا لاستمروا على الكفر أبدا.
ثم ضرب مثلا لما ينفقون في هذه الدار، كيف أنه لا ينفعهم عند الله مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا من أموالهم التي يتظاهرون بأنهم ينفقونها بقصد طيب، مع كفرهم، ورغبتهم في الثناء، والذكر الحسن عند الناس، كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ الصر: هو البرد الشديد أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ أي: أرض قوم قد آن حصادها، وقطافها وهؤلاء القوم صفتهم ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بالذنوب والمعاصي فَأَهْلَكَتْهُ أي: فدمرته فصار المعني: مثل إهلاك ما ينفقون عند الله، كمثل إهلاك ريح باردة لثمرة أرض. تدمرها فلا ينتفع أهلها منها بشيء، وكذلك هؤلاء. وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ بإهلاك حرثهم وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ بارتكاب ما استحقوا به العقوبة. هذا إذا أرجعنا الضمير على أصحاب الأرض، وإذا أرجعنا الضمير للمنفقين يكون المعنى: وما ظلمهم الله بأن لم يقبل نفقاتهم، ولكنهم ظلموا أنفسهم، حيث لم يأتوا بها لائقة للقبول.
فوائد حول المقطع:
1 -
بمناسبة قوله تعالى: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ نذكر
حديثين:
أ- أخرج الإمام أحمد عن مجاهد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ. .. لو أن قطرة من الزقوم قطرت في دار الدنيا لأفسدت عمل أهل الدنيا وما فيهم، فكيف بمن ليس له طعام إلا الزقوم» ورواه الترمذي وغيره، قال الترمذي حسن صحيح.
ب- وروى الإمام أحمد عن جابر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قبل موته بثلاث: «لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله عز وجل» ورواه مسلم.
2 -
وفي تفسير الحبل في قوله تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا ..
نذكر:
أ- روى الطبري عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كتاب الله هو حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض» .
ب- روى ابن مردويه عن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
وقال الألوسي في تحقيق كلمة (حبل الله): وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ أي:
القرآن روي ذلك بسند صحيح عن ابن مسعود.
وأخرج غير واحد عن أبي سعيد الخدري قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كتاب الله هو حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض»
وأخرج أحمد عن زيد بن ثابت قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني تارك فيكم خليفتين كتاب الله- عز وجل ممدود ما بين السماء والأرض، وعترتي أهل بيتي، وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض» . وورد بمعنى ذلك أخبار كثيرة، وقيل المراد بحبل الله: الطاعة والجماعة، وروى ذلك عن ابن مسعود أيضا.
أخرج ابن أبي حاتم من طريق الشعبي عن ثابت بن قطنة المزني قال: سمعت ابن مسعود يخطب وهو يقول: «أيها الناس عليكم بالطاعة، والجماعة، فإنهما حبل الله تعالى الذي أمر به» ، وفي رواية عنه:«حبل الله تعالى الجماعة» ، وروي ذلك أيضا
عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وأبي العالية: «أنه الإخلاص لله تعالى وحده» .
وعن الحسن: «أنه طاعة الله- عز وجل» وعن ابن زيد «أنه الإسلام» . وعن قتادة: أنه عهد الله تعالى وأمره وكلها متقاربة» اهـ.
3 -
وبمناسبة قوله تعالى: وَلا تَفَرَّقُوا نذكر الحديث الذي رواه الإمام مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله يرضى لكم ثلاثا، ويسخط لكم ثلاثا، يرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم. ويسخط لكم ثلاثا: قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال» قال ابن كثير: وقد ضمنت لهم العصمة، (أي للمسلمين) - عند اتفاقهم- من الخطأ كما وردت بذلك الأحاديث المتعددة أيضا، وخيف عليهم الافتراق، والاختلاف، فقد وقع ذلك في هذه الأمة فافترقوا على ثلاث وسبعين فرقة، منها فرقة ناجية إلى الجنة، ومسلمة من عذاب النار، وهم الذين على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
4 -
وبمناسبة قوله تعالى: وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ قال ابن كثير: وقد امتن عليهم بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم قسم غنائم حنين فعتب من عتب منهم، بما فضل عليهم في القسمة بما أراه الله، فخطبهم فقال:«يا معشر الأنصار: ألم أجدكم ضلالا فهداكم الله بي، وكنتم متفرقين فألفكم الله بي، وعالة فأغناكم الله بي» . فكلما قال شيئا قالوا: الله ورسوله أمن».
5 -
وقد ذكر محمد بن إسحاق وغيره: أن هذه الآية وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً .... نزلت في شأن الأوس والخزرج، وذلك أن رجلا من اليهود مر بملإ من الأوس والخزرج، فساءه ما هم عليه من الاتفاق والألفة، فبعث رجلا معه، وأمره أن يجلس بينهم، ويذكرهم ما كان من حروبهم يوم بعاث، وتلك الحروب، ففعل، فلم يزل ذلك دأبه حتى حميت نفوس القوم، وغضب بعضهم على بعض وتثاوروا، ونادوا بشعارهم وطلبوا أسلحتهم، وتواعدوا إلى الحرة، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأتاهم، فجعل يسكنهم ويقول:«أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم، وتلا عليهم هذه الآية. فندموا على ما كان منهم، واصطلحوا، وتعانقوا، وألقوا السلاح» . وذكر النسفي أن هذا سبب نزول الآيتين قبلها إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ ....
ولا يبعد أن كل هذه الآيات الأربع نزلت بهذه المناسبة.
6 -
وبمناسبة قوله تعالى: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ نذكر ثلاثة أحاديث:
أ- روى الإمام مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان» .
ب- وروى مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
ج- وروى الإمام أحمد والترمذي بسند حسن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
7 -
بمناسبة قوله تعالى وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ ننقل بعض النصوص والنقول: روى الإمام أحمد عن أبي عامر عبد الله بن يحيى قال: حججنا مع معاوية بن أبي سفيان، فلما قدمنا مكة قام حين صلى صلاة الظهر فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن أهل الكتابين افترقوا في دينهم على ثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ملة- يعني الأهواء- كلها في النار إلا واحدة- وهي الجماعة- وإنه سيخرج في أمتي أقوام تتجارى بهم الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه، لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله. والله يا معشر العرب لئن لم تقوموا بما جاء به نبيكم صلى الله عليه وسلم، لغيركم من الناس أحرى أن لا يقوم به» .
8 -
وروى الترمذي: رأى أبو أمامة رءوسا منصوبة على درج مسجد دمشق فقال أبو أمامة: كلاب النار شر قتلى تحت أديم السماء، خير قتلى من قتلوه، ثم قرأ:
يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ .... إلى آخر الآية. قلت لأبي أمامة: أنت
سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لو لم أسمعه إلا مرة، أو مرتين، أو ثلاثا، أو أربعا، حتى عد سبعا ما حدثتكموه» ثم قال الترمذي: حديث حسن والذين رأى أبو أمامة رءوسهم هم الخوارج، فهم إحدى الفرق التي تفرقت، واختلفت؛ فاستحقت سواد الوجه يوم القيامة.
وبمناسبة قوله تعالى وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا ننقل تحقيقا للآلوسي بسبب أن كثيرين لا يفرقون بين أنواع من الاختلافات:
يقول الألوسي: «ثم إن هذا الاختلاف المذموم، محمول كما قيل على الاختلاف في الأصول دون الفروع، ويؤخذ هذا التخصيص من التشبيه، وقيل: إنه شامل للأصول والفروع لما نرى من اختلاف أهل السنة فيها- كالماتريدي، والأشعري- فالمراد حينئذ بالنهي عن الاختلاف فيما ورد فيه نص من الشارع، أو أجمع عليه وليس بالبعيد.
واستدل على عدم المنع من الاختلاف في الفروع بقوله عليه الصلاة والسلام «اختلاف أمتي رحمة» وبقوله صلى الله عليه وسلم: «مهما أوتيتم من كتاب الله تعالى فالعمل
به لا عذر لأحد في تركه، فإن لم يكن في كتاب الله تعالى فسنة مني ماضية، فإن لم يكن سنة مني ماضية فما قال أصحابي. إن أصحابي بمنزلة النجوم في السماء فأيما أخذتم به اهتديتم، واختلاف أصحابي لكم رحمة» وأراد بهم صلى الله عليه وسلم خواصهم البالغين رتبة الاجتهاد، والمقصود بالخطاب من دونهم فلا إشكال فيه، خلافا لمن وهم. والروايات عن السلف في هذا المعنى كثيرة.
فقد أخرج البيهقي في المدخل عن القاسم بن محمد قال: «اختلاف أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم رحمة لعباد الله تعالى» وأخرجه ابن سعد في طبقاته بلفظ «كان اختلاف أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم رحمة للناس» وفي المدخل عن عمر بن عبد العزيز قال: «ما سرني لو أن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا؛ لأنهم لو لم يختلفوا لم تكن رخصة» واعترض الإمام السبكي بأن «اختلاف أمتي رحمة» ليس معروفا عند المحدثين، ولم أقف له على سند صحيح، ولا ضعيف، ولا موضوع، ولا أظن له أصلا إلا أن يكون من كلام الناس؛ بأن يكون أحد قال: اختلاف الأمة رحمة فأخذه بعضهم، فظنه حديثا، فجعله من كلام النبوة، وما زلت أعتقد أن هذا الحديث لا أصل له، واستدل على بطلانه بالآيات، والأحاديث الصحيحة، الناطقة بأن الرحمة تقتضي عدم الاختلاف، والآيات أكثر من أن تحصى، ومن الأحاديث قوله صلى الله عليه وسلم «إنما هلكت بنو إسرائيل بكثرة
سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم» وقوله عليه الصلاة والسلام: «لا تختلفوا فتختلف قلوبكم» وهو وإن كان واردا في تسوية الصفوف إلا أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ثم قال: والذي نقطع به أن الاتفاق خير من الاختلاف، وأن الاختلاف على ثلاثة أقسام: أحدها: في الأصول، ولا شك أنه ضلال، وسبب كل فساد، وهو المشار إليه في القرآن، والثاني: في الآراء، والحروب، ويشير إليه قوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ.
وأبي موسى لما بعثهما إلى اليمن: «تطاوعا ولا تختلفا» ولا شك أيضا أنه حرام؛ لما فيه من تضييع المصالح الدينية والدنيوية، والثالث: في الفروع كالاختلاف في الحلال والحرام ونحوهما، والذي نقطع به أن الاتفاق خير منه أيضا، لكن هل هو ضلال كالقسمين الأولين أم لا؟ فيه خلاف، فكلام ابن حزم ومن سلك مسلكه ممن يمنع التقليد يقتضي الأول، وأما نحن فإنا نجوز التقليد للجاهل، والأخذ عند الحاجة بالرخصة من أقوال بعض العلماء من غير تتبع الرخص، وهو يقتضي الثاني، ومن هذا الوجه قد يصح أن يقال:«الاختلاف رحمة» ، فإن الرخص منها بلا شبهة، وهذا لا ينافي قطعا القطع بأن الاتفاق خير من الاختلاف، فلا تنافي بين الكلامين، لأن جهة الخيرية تختلف باختلاف وجهة الرحمة، فالخيرية في العلم بالدين الحق الذي كلف الله تعالى به عباده وهو الصواب عنده، والرحمة في الرخصة فيه وإباحة الإقدام بالتقليد على ذلك، ورحمة نكرة في سياق الإثبات لا تقتضي العموم، فيكتفى في صحته أن يحصل في الاختلاف رحمة ما، في وقت ما، في حالة ما، على وجه ما، فإن كان ذلك حديثا فيخرج على هذا، وكذا إن لم يكنه، وعلى كل تقدير نقول إن الاتفاق مأمور به، والقول بأن الاتفاق مأمور به يلتفت إلى أن المصيب واحد أم لا؟ فإن قلنا: إن المصيب واحد- وهو الصحيح- فالحق في نفس الأمر واحد، والناس كلهم مأمورون بطلبه، واتفاقهم عليه مطلوب، والاختلاف حينئذ منهي عنه، وإن عذر المخطئ، وأثيب على اجتهاده وصرف وسعه لطلب الحق.
فقد أخرج البخاري، ومسلم، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه من حديث عمرو بن العاص «إذا حكم الحاكم فاجتهد وأصاب فله أجران» وإذا قلنا: كل مجتهد مصيب فكل أحد مأمور بالاجتهاد، وباتباع ما غلب على ظنه؛ فلا يلزم أن يكونوا كلهم مأمورين بالاتفاق، ولا أن يكون اختلافهم منهيا عنه، وإطلاق الرحمة على هذا التقدير في الاختلاف أقوى من إطلاقها على قولنا: المصيب واحد، هذا كله إذا حملنا الاختلاف في الخبر على الاختلاف في الفروع، وأما إذا قلنا: المراد بالاختلاف في
الصنائع والحرف فلا شك أن ذلك من نعم الله تعالى التي يطلب من العبد شكرها كما قال الحليمي في «شعب الإيمان» ، لكن كان المناسب على هذا أن يقال: اختلاف الناس رحمة، إذ لا خصوصية لأمة بذلك؛ فإن كل الأمم مختلفون في الصنائع، والحرف، لا هذه الأمة فقط، فلا بد لتخصيص الأمة من وجه، ووجهه إمام الحرمين بأن المراتب والمناصب التي أعطيتها أمته صلى الله عليه وسلم لم تعطها أمة من الأمم؛ فهي من رحمة الله تعالى لهم، وفضله عليهم لكنه لا يسبق من لفظ الاختلاف إلى ذلك ولا إلى الصنائع والحرف، فالحق الإبقاء على الظاهر المتبادر وتأويل الخبر بما تقدم.
هذه خلاصة كلامه أي (السبكي)، ولا يخفى أنه مما لا بأس به، نعم كون الحديث ليس معروفا عند المحدثين أصلا لا يخلو عن شئ، فقد عزاه الزركشي في الأحاديث المشتهرة إلى «كتاب الحجة» لنصر المقدسي، ولم يذكر سنده ولا صحته، لكن ما ورد يقويه في الجملة مما نقل من كلام السلف والحديث الذي أوردناه قبل وإن رواه الطبري، والبيهقي في المدخل بسند ضعيف عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما على أنه يكفي في هذا الباب الحديث الذي أخرجه الشيخان وغيرهما، فالحق الذي لا محيد عنه أن المراد اختلاف الصحابة رضي الله تعالى عنهم، ومن شاركهم في الاجتهاد، كالمجتهدين المعتد بهم من علماء الدين، الذين ليسوا بمبتدعين، وكون ذلك رحمة لضعفاء الأمة، ومن ليس في درجتهم مما لا ينبغي أن ينتطح فيه كبشان ولا يتنازع فيه اثنان فليفهم». ا. هـ كلام الألوسي.
9 -
وبمناسبة قوله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ننقل بعض الأحاديث:
أ- في الحديث الحسن الذي رواه الترمذي وغيره قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«أنتم توفون سبعين أمة، أنتم خيرها وأكرمها على الله عز وجل» .
ب- روى الإمام أحمد: قام رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر فقال: يا رسول الله أي الناس خير؟ قال: «خير الناس أقراهم، وأتقاهم لله، وآمرهم بالمعروف، وأنهاهم عن المنكر، وأوصلهم للرحم» .
ح- روى الإمام مسلم عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «عرضت علي الأمم، فرأيت النبي ومعه الرهيط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد، إذ رفع لي سواد عظيم، فقيل لي: انظر إلى الأفق الآخر فإذا سواد عظيم، فقيل لي: هذه