الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فإذا اجتمع هذا مع ما ذكرته النصوص فعندئذ يوجد الراسخ في العلم.
ولعلنا بذلك نكون قد حددنا سمات من نستطيع أن نقبل كلامه في موضوع المحكم والمتشابه، فإذا ما اجتمع لنا مع ذلك معرفة تاريخية في أنواع من المتشابه، ضلت به الفرق المنشقة عن جسم الأمة الإسلامية، أو يستعمله المنحرفون المعاصرون، فإن ذلك كله يساعد على توضيح قضية المحكم والمتشابه.
فصل في التقية:
بمناسبة قوله تعالى لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً يتحدث عادة عن موضوع «التقية» الذي اشتهر عن الشيعة، والذي يشاركهم في بعض مضامينه أهل السنة، ويخالفونهم في مضامين أخرى كثيرة. وقد ذكرنا أثناء التفسير ما يوضح بعض النقاط.
ولزيادة الإيضاح فإننا ننقل بعض كلام الألوسي في هذا المقام:
يقول الألوسي:
«وفي الآية دليل» على مشروعية التقية، وعرفوها بحفظ النفس. أو العرض. أو المال من شر الأعداء، والعدو قسمان: الأول من كانت عداوته مبنية على اختلاف الدين كالكافر والمسلم [المبتدع]، والثاني من كانت عداوته مبنية على أغراض دنيوية كالمال والمتاع والملك والإمارة، ومن هنا صارت التقية قسمين: أما القسم الأول: فالحكم الشرعي فيه أن كل مؤمن وقع في محل لا يمكن له أن يظهر دينه لتعرض المخالفين، وجب عليه الهجرة إلى محل يقدر فيه على إظهار دينه، ولا يجوز له أصلا أن يبقى هناك ويخفي دينه ويتشبث بعذر الاستضعاف، فإن أرض الله تعالى واسعة، ثم إن كان ممن لهم عذر شرعي في ترك الهجرة كالصبيان والنساء والعميان والمحبوسين والذين يخوفهم المخالفون بالقتل. أو قتل الأولاد. أو الآباء. أو الأمهات تخويفا يظن معه إيقاع ما خوفوا به غالبا سواء كان هذا القتل بضرب العنق. أو بحبس القوت. أو بنحو ذلك فإنه يجوز له المكث مع المخالف، والموافقة بقدر الضرورة ويجب عليه أن يسعى في الحيلة للخروج والفرار بدينه. ولو كان التخويف بفوات المنفعة، أو بلحوق المشقة التي يمكنه تحملها كالحبس مع القوت، والضرب القليل غير المهلك لا يجوز له موافقتهم، وفي صورة الجواز أيضا موافقتهم رخصة وإظهار مذهبه عزيمة فلو تلفت نفسه لذلك فإنه شهيد
قطعا؛ ومما يدل على أنها رخصة- ما روي عن الحسن أن مسيلمة الكذاب أخذ رجلين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لأحدهما: أتشهد أن محمدا رسول الله؟ قال: نعم فقال: أتشهد أني رسول الله؟ قال: نعم ثم دعا بالآخر فقال لأحدهما: أتشهد أن محمدا رسول الله؟ قال: نعم فقال: أتشهد أني رسول الله؟ قال: إني أصم قالها ثلاثا، وفي كل يجيبه بأني أصم فضرب عنقه فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:«أما هذا المقتول فقد مضى على صدقه ويقينه وأخذ بفضله فهنيئا له. وأما الآخر فقد رخصه الله تعالى فلا تبعة عليه» وأما القسم الثاني: فقد اختلف العلماء في وجوب الهجرة وعدمه فيه فقال بعضهم: تجب، لقوله تعالى: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ (سورة البقرة) وبدليل النهي عن إضاعة المال، وقال قوم لا تجب إذ الهجرة عن ذلك المقام مصلحة من المصالح الدنيوية، ولا يعود على من تركها نقصان في الدين لاتحاد الملة، وعدوه المؤمن لا يتعرض له بالسوء من حيث هو مؤمن، وقال بعضهم: الحق إن الهجرة هنا قد تجب أيضا إذا خاف هلاك نفسه أو أقاربه، أو هتك حرمته بالإفراط، ولكن ليست عبادة وقربى حتى يترتب عليها الثواب، فإن وجوبها لمحض مصلحة دنيوية. لا كذلك المهاجر لإصلاح الدين ليترتب عليه الثواب، وليس كل واجب يثاب عليه، لأن التحقيق أن كل واجب لا يكون عبادة. بل كثير من الواجبات لا يترتب عليه ثواب كالأكل عند شدة المجاعة، والاحتراز عن المضرات المعلومة أو المظنونة في المرض، وعن تناول السموم في حالة الصحة وغير ذلك، وهذه الهجرة أيضا من هذا القبيل وليست هي كالهجرة إلى الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، لتكون مستوجبة بفضل الله تعالى لثواب الآخرة، وعد قوم من باب التقية مداراة الكفار والفسقة والظلمة، وإلانة الكلام لهم، والتبسم في وجوههم، والانبساط معهم، وإعطاؤهم لكف أذاهم، وقطع لسانهم، وصيانة العرض منهم، ولا يعد ذلك من باب الموالاة المنهي عنها بل هي سنة وأمر مشروع.
فقد روى الديلمي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله تعالى أمرني بمداراة الناس كما أمرني بإقامة الفرائض» وفي رواية «بعثت بالمداراة» وفي الجامع «سيأتيكم ركب مبغضون فإذا جاءوكم فرحبوا بهم» وروى ابن أبي الدنيا «رأس العقل بعد الإيمان بالله تعالى مداراة الناس» وفي رواية البيهقي «رأس العقل المداراة» وأخرج الطبراني «مداراة الناس صدقة» وفي رواية له «ما وقى به المؤمن عرضه فهو صدقة»
وأخرج ابن عدي. وابن عساكر «من عاش مداريا مات شهيدا. قوا بأموالكم
أعراضكم، وليصانع أحدكم بلسانه عن دينه» وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: استأذن رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا عنده فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بئس ابن العشيرة- أو أخو العشيرة- ثم أذن فألان له القول، فلما خرج قلت: يا رسول الله قلت ما قلت ثم ألنت له القول؟ فقال يا عائشة إن من أشر الناس من يتركه الناس أو يدعه الناس اتقاء فحشه» وفي البخاري عن أبي الدرداء «إنا لنبش في وجوه أقوام وإن قلوبنا لتلعنهم» وفي رواية الكشميهني «وإن قلوبنا لتقليهم» وفي رواية ابن أبي الدنيا.
وإبراهيم الحرمي بزيادة «ونضحك إليهم» إلى غير ذلك من الأحاديث لكن لا تنبغي المداراة إلى حيث يخدش الدين ويرتكب المنكر.
ووراء هذا التحقيق قولان لفئتين متباينتين من الناس. وهم الخوارج والشيعة: أما الخوارج فذهبوا إلى أنه لا تجوز التقية بحال ولا يراعى المال وحفظ النفس والعرض في مقابلة الدين أصلا، ولهم تشديدات في هذا الباب عجيبة. منها أن أحدا لو كان يصلي وجاء سارق أو غاصب ليسرق أو يغصب ماله لا يقطع الصلاة بل يحرم عليه قطعها
وطعنوا على بريدة الأسلمي من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبب أنه كان يحافظ على فرسه في صلاته كيلا يهرب، ولا يخفى أن هذا المذهب من التفريط بمكان، وأما الشيعة فكلامهم مضطرب في هذا المقام فقال بعضهم: إنها جائزة في الأقوال كلها عند الضرورة، وربما وجبت فيها لضرب من اللطف والاستصلاح ولا تجوز في الأفعال كقتل المؤمن ولا فيما يعلم أو يغلب على الظن أنه إفساد في الدين؛ وقال المفيد: إنها قد تجب أحيانا وقد يكون فعلها في وقت أفضل من تركها وقد يكون تركها أفضل من فعلها، وقال أبو جعفر الطوسي: إن ظاهر الروايات يدل على أنها واجبة عند الخوف على النفس، وقال غيره: إنها واجبة عند الخوف على المال أيضا ومستحبة لصيانة العرض، حتى يسن لمن اجتمع مع أهل السنة، أن يوافقهم في صلاتهم وصيامهم وسائر ما يدينون به، ورووا عن بعض أئمة أهل البيت من صلى وراء سني تقية فكأنما صلى وراء نبي.
وفي وجوب قضاء تلك الصلاة عندهم خلاف، وكذا في وجوب قضاء الصوم على من أفطر تقية حيث لا يحل الإفطار قولان أيضا، وفي أفضلية التقية من سني واحد صيانة لمذهب الشيعة عن الطعن خلاف أيضا، وأفتى كثير منهم بالأفضلية. ومنهم من ذهب إلى جواز- بل وجوب- إظهار الكفر لأدنى مخافة أو طمع، ولا يخفى أنه من الإفراط بمكان، وحملوا أكثر أفعال الأئمة مما يوافق مذهب أهل السنة ويقوم به الدليل على رد مذهب الشيعة على التقية وجعلوا هذا أصلا عندهم وأسسوا عليه دينهم- وهو الشائع