الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وما يؤول إليه في عاقبته. ثم استعمل في كل تأمل. والتفكر: تصرف القلب بالنظر في الدلائل ثم قال تعالى: وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ كما يزعم الكفرة لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً. أي: لوجدوا فيه تناقضا كبيرا في معانيه، بينما نجد معانيه يكمل بعضها بعضا في التوحيد، والتحليل والتحريم، والتربية والإخبار. أو المعنى: لوجدوا فيه تفاوتا من حيث البلاغة، فكان بعضه بالغا حد الإعجاز، وبعضه قاصرا عنه يمكن معارضته، أو لوجدوا فيه تفاوتا كثيرا من حيث المعاني، فكان بعضه إخبارا بغيب قد وافق المخبر عنه، وبعضه إخبارا مخالفا للمخبر عنه، وبعضه دالا على معنى فاسد غير ملتئم، أو هذا كله. وفي كتابنا- الرسول صلى الله عليه وسلم في بحث المعجزة القرآنية ذكرنا شيئا عن هذا، فليراجع.
فائدة:
استدل علماؤنا بهذه الآية فردوا على بعض الطوائف التي تقول: إن القرآن لا يفهم معناه إلا بتفسير الرسول صلى الله عليه وسلم والإمام، واستدلوا بها على صحة القياس. أما هي في سياقها فإنها تشير إلى مظهر من مظاهر الإعجاز في القرآن الذي يقطع شك الشاكين، ويزيل تردد المترددين في أمر طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم. وقد ذكرنا من قبل أن تدبر القرآن هو الطريق لتربية الأمة الإسلامية على الطاعة والانضباط.
ثم ذكر الله- عز وجل قضية أخرى مهمة في موضوع الحرب والقتال، لها علاقة بحرب الإشاعات، والحرب النفسية، تحدث عنها، ووضع علاجها. فالله- عز وجل يريد من هذه الأمة أن تكون لديها مناعة ضد الحرب النفسية وضد حرب الإشاعات وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ. الإذاعة: الإفشاء والنشر، والأمن: السلامة والسلم، والخوف: الخلل، أو الخطر، أو الهزيمة، أو الإصابة. والمراد أن هناك ناسا إذا بلغهم الخبر عن سرايا المسلمين وجيوشهم، كانوا يشيعونه ويذيعونه، فيترتب على ذلك خلل في المجتمع الإسلامي، ولذلك فقد ربى الرسول صلى الله عليه وسلم المسلمين على التثبت، ففي الصحيحين «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن قيل وقال» أي الحديث عما يقول الناس من غير تثبت ولا تدبر، وفي الصحيح:«من حدث بحديث، وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين» ، وفي سنن أبي داود «بئس مطية الرجل زعموا» .
وهاهنا في الآية، بعد أن أنكر الله- عز وجل على من يروج الإشاعات في المجتمع
الإسلامي، بين الطريق العملي، والموقف الصحيح من هذه الإشاعات، فقال:
وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ. أي: ولو ردوا الخبر أو الإشاعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته، وكبار أصحابه البصراء في الأمور في زمانه، أو لو ردوه إلى خلفائه، وأمراء المسلمين من بعده لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ. أي: لعلم تدبير ما أخبروا به الذين يستخرجون تدبيره، وما ينبغي فعله ممن عندهم قدرة على ذلك بفطنتهم، وتجاربهم، ومعرفتهم بأمور الحرب ومكايدها. دلت الآية على أن هناك أناسا عندهم قدرة على الاستنباط للحلول والأحكام لما يجد أو يحدث، أو يقع. وقد فسرنا الآية بما مر، وهو أحد اتجاهين في تفسيرها، فعلى هذا الاتجاه الذي ذكرناه، هي في الإشاعات التي تصل إلى المجتمع الإسلامي بشكل من الأشكال، مما يخدم مصلحة العدو، وعلاج ذلك هو ترك أمر معالجة هذه الإشاعات إلى أمراء المسلمين، وإهمال الإشاعة، وعدم التحدث عنها، وفي ذلك إماتتها. وفي قوله تعالى: وَلَوْ رَدُّوهُ إشارة إلى أن إبلاغ الإشاعة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وإلى أولي الأمر لا مانع منه، ولكن إشاعة الأمر وتداوله هو الخطأ. وهناك اتجاه آخر في تفسير الآية وهو كذلك قضية ينبغي أن تلاحقها الجماعة المسلمة، هذا الاتجاه هو: أن بعضهم كانوا يقفون من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأولي الأمر على أمن ووثوق بالظهور على بعض الأعداء، أو على خوف واستشعار فيذيعونه فينتشر، فيبلغ الأعداء، فتعود إذاعة الخبر الفاسد بالشر، ولو ردوه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وإلى أولي الأمر منهم، وفوضوه إليهم، وكانوا كأن لم يسمعوا، لأعطوا الذين يدبرون الأمور ويديرونها، ويخططون لها، فرصة الإدارة الصالحة، فيعرفون ما يأتون وما يذرون. وهذا اتجاه في التفسير ينبغي أن يلاحظ تطبيقه. والنبط: هو الماء الذي يخرج من البئر أول ما تحفر، واستنباطه استخراجه، فاستعير لما يستخرجه الرجل بفضل ذهنه من المعاني والتدابير فيما يفعل. وبعد أن ذكر الله- عز وجل هذه القضية المهمة في شأن القتال، ذكر أن الاستعداد النفسي عند الإنسان يوصله لاتباع الشيطان في هذه القضايا وغيرها، لولا أن الله قضت حكمته أن يتدارك المسلمين بفضله، ويتولاهم، وفي ذلك إشارة إلى أن نشر الإشاعات من الشيطان، وفي ذلك إشارة إلى ضرورة الشعور بفضل الله ورحمته، والتوكل عليه، لأنه مولى المؤمنين، وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ بتزكيته لكم وَرَحْمَتُهُ بإرسال رسوله صلى الله عليه وسلم، وإنزال كتابه، وحفظه لكم، لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ فيما يوسوس إِلَّا قَلِيلًا. أي:
إلا قليلا منكم، وهم من صفت فطرتهم، بما فطرهم الله عليه من كمال عقل. وقال ابن
عباس في تفسيرها: لاتبعتم الشيطان كلكم، لأن القليل في اللغة يطلق على العدم.
فائدة: في الحديث المتفق عليه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلق نساءه، فجاء من منزله حتى دخل المسجد، فوجد الناس يقولون ذلك، فلم يصبر حتى استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم، فاستفهمه أطلقت نساءك؟ فقال:
لا. فقلت: الله أكبر. وذكر الحديث بطوله. وعن مسلم: فقلت أطلقتهن؟ فقال:
لا. فقمت على باب المسجد فناديت بأعلى صوتي، لم يطلق الرسول صلى الله عليه وسلم نساءه، فنزلت هذه الآية وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ، وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ
…
فكنت أنا استنبطت ذلك الأمر. نفهم من هذا أن الاستنباط، ورد الأمر إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وإلى أولي الأمر ليس خاصا في قضايا القتال التي فهمناها من خلال السياق. وإذا لاحظنا أن أولي الأمر في المقطع السابق فسرت بالعلماء على أحد أوجه التفسير ندرك وجاهة من يدخل في هذه الآية قضية الاجتهاد الذي هو استنباط الأحكام لما يجد، وقضية المجتهدين الذين أهلتهم ملكاتهم وعلمهم وتقواهم لاستنباط الأحكام.
وبعد أن أمر الله- عز وجل في هذا المقطع أمرا عاما للمؤمنين جميعا أن يقاتلوا على طريقة حرب العصابات، أو على طريقة الحرب النظامية، أو على حسب مقتضيات الجهاد، وعاب على المتباطئين والمثبطين، وعالج مرض الراغبين في تأخير القتال، وربى المسلمين على الطاعة والصمت، والكتمان، يصدر الآن أمرا لكل فرد على حدة من خلال الأمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقاتل، وأن يحرض المسلمين على القتال، مبينا أن بأس الكافرين لا ينكف إلا بذلك، قال: فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ.
أي: لا تكلف غير نفسك وحدها أن تقدمها إلى الجهاد، فإن الله تعالى ناصرك لا الجنود. والمعنى: وإن أفردوك وتركوك وحدك، فقاتل. وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ.
أي: حضهم على القتال ورغبهم فيه، وشجعهم عليه عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا. أي: عسى الله بتحريضك على القتال، وقتالك، أن يكف بطش الذين كفروا وشدتهم، وعسى كلمة مطمعة، غير أن إطماع الكريم أعود من إنجاز اللئيم وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً من الكافرين وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا أي: وأشد تعذيبا، يفهم من ذلك: أن بأس الكافرين شديد، وتنكيلهم بالمؤمنين شديد، ولكن بأس الله وتنكيله أشد. وقد دلت الآية أن بأس الكافرين الشديد، وتنكيلهم الشديد بالمؤمنين،