الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كلمة في سورة النساء:
يقول صاحب الظلال: «هذه السورة مدنية، وهي أطول سور القرآن. بعد سورة البقرة، وترتيبها في النزول بعد الممتحنة، التي تقول الروايات: إن بعضها نزل في غزوة الفتح في السنة الثامنة للهجرة، وبعضها نزل في غزوة الحديبية قبلها في السنة السادسة.
ولكن الأمر في ترتيب السور حسب النزول- كما بينا في مطالع الكلام على سورة البقرة في الجزء الأول- ليس قطعيا. كما أن السورة لم تكن تنزل كلها دفعة واحدة في زمن واحد. فقد كانت الآيات تتنزل من سور متعددة؛ ثم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم، بوضع كل منها في موضعه من سورة بذاتها. والسورة الواحدة- على هذا- كانت تظل «مفتوحة» فترة من الزمان تطول أو تقصر. وقد تمتد عدة سنوات. وفي سورة البقرة كانت هناك آيات من أوائل ما نزل في المدينة، وآيات من أواخر ما نزل من القرآن.
وكذلك الشأن في هذه السورة. فمنها ما نزل بعد سورة الممتحنة في السنة السادسة وفي السنة الثامنة كذلك. ولكن منها الكثير نزل في أوائل العهد بالهجرة. والمنتظر- على كل حال- أن يكون نزول آيات هذه السورة قد امتد من بعد غزوة أحد في السنة الثالثة الهجرية، إلى ما بعد السنة الثامنة، حين نزلت مقدمة سورة الممتحنة.
ونذكر على سبيل المثال الآية الواردة في هذه السورة عن حكم الزانيات:
وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ؛ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا .. فمن المقطوع به أن هذه الآية نزلت قبل آية سورة النور التي بينت حد الزنا: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ، وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ، إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ .. وهذه الآية الأخيرة نزلت بعد حديث الإفك في السنة الخامسة (أو في السنة الرابعة على رواية) فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نزلت:«خذوا عني. خذوا عني. قد جعل الله لهن سبيلا .. » إلخ وكان السبيل هو هذا الحكم الذي تضمنته آية النور.
وفي السورة نماذج كثيرة كهذا النموذج، تدل على تواريخ نزولها على وجه التقريب.
وعلى النحو الذي بيناه في مطالع الكلام عن سورة البقرة» اهـ.
ويقول الألوسي عن وجه مناسبة مجيء سورة النساء بعد آل عمران:
(ووجه مناسبتها لآل عمران أمور، منها أن آل عمران ختمت بالأمر بالتقوى، وافتتحت هذه السورة به، وذلك من آكد وجوه المناسبات في ترتيب السور، وهو نوع من أنواع البديع يسمى في الشعر تشابه الأطراف وقوم يسمونه بالتسبيغ، وذلك كقول ليلى الأخيلية:
إذا نزل الحجاج أرضا مريضة
…
تتبع أقصى دائها فشفاها
شفاها من الداء العضال الذي بها
…
غلام إذا هز القناة رواها
رواها فأرواها بشرب سجالها
…
دماء رجال حيث نال حشاها
ومنها أن في آل عمران ذكر قصة أحد مستوفاة، وفي هذه السورة ذكر ذيلها، وهو قوله تعالى: فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ فإنه نزل فيما يتعلق بتلك الغزوة على ما ستسمعه- إن شاء الله تعالى- مرويا عن البخاري، ومسلم، وغيرهما. ومنها أن في آل عمران ذكر الغزوة التي بعد أحد كما أشرنا إليه في قوله تعالى: الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ الخ ..
وأشير إليها هاهنا بقوله سبحانه: وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ الآية. وبهذين الوجهين يعرف أن تأخير النساء عن آل عمران أنسب من تقديمها كما في مصحف ابن مسعود لأن المذكور هنا ذيل لما ذكر هناك وتابع فكان الأنسب في التأخير، ومن أمعن نظره وجد كثيرا مما ذكر في هذه السورة مفصلا لما ذكر فيما قبلها فحينئذ يظهر مزيد الارتباط وغاية الاحتباك) اهـ.
أقول: ما قاله الألوسي عن صلة آل عمران بسورة النساء نموذج لأقوال المفسرين حول الصلات بين السور، من محاولة ربط بين نهاية السور السابقة وبداية السور اللاحقة أو محاولة بحث عن وحدة موضوعية بين مواضيع السور عامة، والشئ الذي نحاول التدليل عليه في هذا التفسير هو أن الصلة بين السور تنتظمها قواعد أخرى وفيها أسرار أدق، وسيتضح هذا من خلال هذا التفسير، وقد لا ينتهي القارئ من قراءة ما ذكرناه حول السبع الطوال إلا ويتيقن ذلك وسيزداد يقينا كلما سار في هذا التفسير إن شاء الله.
لقد رأينا أن الآيات الأولى في سورة البقرة بدأت ب الم وانتهت بقوله تعالى وَأُولئِكَ
هُمُ الْمُفْلِحُونَ* وأن سورة آل عمران بدأت بقوله تعالى: الم وانتهت بقوله تعالى: لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
ونلاحظ أنه بعد مقدمة سورة البقرة جاء المقطع الأول من القسم الأول فيها، وقد بدأ بقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ .. وانتهى بقوله تعالى: وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. ونلاحظ أن سورة النساء بدأت بقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ .. وانتهت بقوله تعالى: وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.
وسنرى أنه كما أن سورة آل عمران فصلت في الآيات الأولى من سورة البقرة وما يتبعها من مقدمة سورة البقرة وما هو الألصق بمقدمة سورة البقرة، فإن سورة النساء تفصل في الآيات الأولى من المقطع الذي جاء بعد مقدمة سورة البقرة وتفصل في امتدادات هذا المحور من سورة البقرة.
إنه بعد مقدمة سورة البقرة، يأتي المقطع الأول، من القسم الأول من سورة البقرة، وقد أسميناه: مقطع الطريقين. وسنرى أنه ستفصل فيه سورة النساء، وسورة المائدة، وسورة الأنعام، وستأتي سورة الأعراف لتفصل بعد ذلك في مقطع قصة آدم عليه السلام من سورة البقرة، وهذا شئ سنراه إن شاء الله تعالى.
وسنجد- بإذن الله- أن سورتي المائدة والأنعام تفصلان في الآيات الأربع الأخيرة من مقطع الطريقين. فالمائدة تفصل في الآيتين الأوليين منها، والأنعام تفصل في الآيتين الأخيرتين منها.
أما سورة النساء فهي تفصل فيما قبل ذلك من المقطع، مع أنها تضع الأساس لتفصيل السورتين بعدها، فهي تفصل في محور رئيسي له ارتباطاته المباشرة بآيات وله امتداداته في سورة البقرة، إن محورها الرئيسي من مقطع الطريقين هو:
يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ* الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ* وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ
إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ* فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ* وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا: هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ.
إن سورة النساء تفصل في هذا المحور كما سنرى إن شاء الله. فهي توضح ما يدخل في التقوى، وتوضح الطريق إليها، وتوضح قضية الإيمان والعمل الصالح، وتوضح قضية الموقف من القرآن، ومن الرسول صلى الله عليه وسلم.
ولذلك فإنها مبدوءة بقوله تعالى:
يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ.
ونجد في أحد مقاطعها: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ. ونجد في أحد مقاطعها إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ. إنها تفصل في هذا المحور. ولكنه تفصيل على غير ما اعتاده البشر، وما ألفوه، إنه تفصيل معجز وهي كما تفصل في هذا المحور، تفصل في امتدادات معانيه في سورة البقرة، وتفصل في ارتباطاته. فالوصية المفروضة على المتقين في سورة البقرة، تأتي هاهنا تفصيلاتها. والقتال المفروض على المتقين في سورة البقرة تأتي هاهنا تفصيلات في شأنه. والسورة- وهي تفصل في محورها من البقرة، وامتدادات معانيه- لها سياقها الخاص، وروحها الخاصة.
وسورة النساء نزلت في المدينة كما ذكر العوفي عن ابن عباس. وهي إذ كانت تفصيلا للطريق إلى التقوى، وتوضيحا لماهية التقوى، وما يدخل فيها. فإنها تأتي بعد سورة آل عمران التي وضعت الأساس للتلقي. وهما جاءا بعد سورة البقرة التي وضعت الأساس للفهم والعمل، تتألف السورة من ثلاثة عشر مقطعا. لكل مقطع منها وحدته. ويربط بين المقطع السابق واللاحق روابط، ويربط بين مقاطع السورة كلها روابط متعددة، والسورة بمجموعها تشكل كلا متكاملا، وهي بمجموعها تأخذ