الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولنرجع إلى السياق:
أمر الله بالإيمان وثبت عليه، وحذر من الكفر، ونفر من المنافقين الذين يكفرون بعد إيمان، ثم أخبر بما أعده للمنافقين، ثم وصفهم ليعرفوا وليحذروا، وكانت الصفة الرئيسية للمنافقين، انحراف ولائهم، ومن ثم يأتي المقطع الثاني ليبدأ بالنهي عن اتخاذ الكافرين أولياء: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ بالمصاحبة أو بالمصادقة، أو بالمناصحة وإسرار المودة إليهم، أو بإفشاء أحوال المؤمنين إليهم، أو بطاعتهم، أو بنصرتهم، أو غير ذلك من مظاهر الولاء. أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً. أي: حجة بينة في تعذيبكم. دلت الآية على أن مجرد الولاء، ولو رافقه إيمان يستحق به صاحبه التعذيب، والسلطان في الآية الحجة.
قال ابن عباس: «كل سلطان في القرآن حجة» والسند إليه صحيح.
إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ. أي: في أسفل النار. وقال بعضهم: النار دركات كما أن الجنة درجات، والمنافقون في القعر. وقد نقل عن الصحابة وصف حالهم في هذا القعر، فقال أبو هريرة: الدرك الأسفل بيوت لها أبواب تطبق عليهم فتوقد من تحتهم ومن فوقهم. وقال ابن مسعود: في توابيت من نار تطبق عليهم. قال النسفي: والنار سبع دركات، سميت بذلك لأنها متداركة متتابعة بعضها فوق بعض، وإنما كان المنافق أشد عذابا من الكافر، لأنه أمن السيف في الدنيا، فاستحق الدرك الأسفل في العقبى تعديلا، ولأنه مثله في الكفر، وضم إلى كفره الاستهزاء بالإسلام وأهله. وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً. أي: يمنعهم من العذاب، أو ينقذهم مما هم فيه، ويخرجهم من أليم العذاب.
إِلَّا الَّذِينَ تابُوا. أي: من النفاق وَأَصْلَحُوا. ما أفسدوا من أسرارهم وأحوالهم في النفاق. أي وأصلحوا العمل. وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ. أي:
وثقوا به كما يثق المؤمنون الخلص. وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فبدلوا الرياء بالإخلاص، وأصبحوا لا يبتغون بطاعتهم إلا وجه الله. فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ في الدارين، هم أصحابهم، وهم رفاقهم، وهم زمرتهم يوم القيامة.
وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً فليسارع المنافقون إذن إلى التوبة والإصلاح والاعتصام بالله، والإخلاص له ليشاركوا المؤمنين فيه. وليستخرج توبة المنافقين، وليرفع همة المؤمنين.
قال: ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ هذا استفهام تقريري معناه: إن الله لا يعذب المؤمن الشاكر، والإيمان معرفة المنعم والشكر
الاعتراف بالنعمة، والكفر بالمنعم والنعمة عناد، فلذا استحق الكافر العذاب. وقدم في الآية الشكر على الإيمان لأن العاقل ينظر إلى ما عليه من النعمة العظيمة في خلقه، وتعريضه للمنافع، فيشكر شكرا مبهما، فإذا انتهى به النظر إلى معرفة المنعم آمن به، ثم شكر شكرا متصلا، فكان الشكر متقدما على الإيمان. ومعنى النص: أي شئ يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وَكانَ اللَّهُ شاكِراً عَلِيماً يعلم من آمن وشكر، ومن نافق أو كفر، ويشكر لمن شكر، بمعنى أنه يجزي على الشكر، أو أن شكره لعبيده هو أنه يقبل اليسير من العمل، ويعطي الجزيل من الثواب.
وبعد أن أمرنا الله في هذين المقطعين بالإيمان، وتحرير الولاء. ورفع همتنا إلى أن نجمع مع الإيمان الشكر، لأن الشكر أعلى درجات العبودية يحذرنا فيما يلي من خلق يتنافى مع الإيمان، وهو الجهر بالسوء فقال: لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ. أي:
إلا جهر من ظلم، استثنى من الجهر الذي لا يحبه الله جهر المظلوم، والسوء كله لا يحبه الله سواء كان جهرا أو غير جهر، ولكن الجهر أفحش. وجهر المظلوم بالسوء إما بدعائه على الظالم، وذكره بما فيه من السوء، أو رده عليه بمثل ما ظلمه به، أو الكلام عليه ضمن حدود مظلمته للناس، ولا شك أن رفع الدعوى على الظالم، وذكر حيثيات الظلم جائز بإجماع. وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً. أي: سميعا لشكوى المظلوم، عليما بظلم الظالم،
ثم حث تعالى على العفو، وألا يجهر أحد لأحد بسوء وإن كان على وجه الانتصار، بعد ما أطلق له الجهر به، حثا على الأفضل فقال: إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ. أي: إن تظهروا خيرا أو تعملوا الخير سرا أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ. أي:
تمحوه عن قلوبكم، وتعرضوا عن الرد على من ظلمكم. فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً. أي: أنه لم يزل عفوا عن الآثام مع قدرته على الانتقام، فعليكم أن تقتدوا بسنته، وذكر عفوه مع قدرته دليل لمن ذهب على أن إبداء الخير وإخفاءه، والعفو عن السوء، كل ذلك في موضوع العفو. فمن عفى فقد أظهر خيرا. ومن لم يعف فقد أخفى خيرا، ومن عفا عن السوء كله، فإنه في هذا كله يكون متخلقا بأخلاق الله الكاملة. وفي الحديث الصحيح «ما نقص مال من صدقة، ولا زاد الله بعفو إلا عزا، ومن تواضع لله رفعه» .
دلت هاتان الآيتان على أن من أخلاق المؤمنين العفو عمن ظلمهم، وترك السوء، فالآيتان في سياقهما تدلان على أن حفظ اللسان والعفو، من القضايا الرئيسية في موضوع الإيمان، لأن السياق كله في هذا الموضوع.