الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تعالى هنا: إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ.
وصلة فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً في سورة البقرة بقوله تعالى هنا:
إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ.
وصلة وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ من سورة البقرة بقوله تعالى هنا: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً.
وصلة: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ من سورة البقرة بقوله تعالى هنا: وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ.
وصلة وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ* فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ في سورة البقرة بقوله هنا:
وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً.
إن الصلة واضحة، وهذا يؤكد ما ذهبنا إليه من أن محور سورة النساء من سورة البقرة هو الآيات (21 - 22 - 23 - 24 - 25) ولنا عودة على السياق.
المعنى العام للمقطع:
بين الله- عز وجل في هذا المقطع أنه أنزل كتابه على رسوله صلى الله عليه وسلم بالحق، فهو يتضمن الحق في خبره وطلبه، من أجل أن يحكم رسوله على ضوئه في كل أمر من أمور الناس، وهذا هو الحق الخالص، ومع الأمر بالحق نهى الله رسوله صلى الله عليه وسلم عن أن يكون بجانب الخائنين مجادلا عنهم ومدافعا، وهو نهي للأمة كلها، وإذن فهناك صيغة للحق وحيدة هي ما أنزله الله في كتابه، وما سواها باطل وأهلها خونة، والدفاع عن أهل الباطل حرام، كترك الحق في الحكم. وإذا عرفنا أن هذه بداية المقطع، وأن نهايته الأمر بإقامة العدل والقسط، عرفنا مضمون هذا المقطع، وعرفنا أن كل ما يحتويه داخل
ضمن توضيح قضايا من الحق والعدل، كجزء من مفهوم التقوى التي هي محور السورة الرئيسي. وبعد الأمر بالحق والنهي عن الدفاع عن أهل الباطل في الآية الأولى من هذا المقطع، يصدر الأمر بالاستغفار؛ لدقة قضية الحق؛ ولدقة الموقف من أهل الباطل، ولكن الله واسع المغفرة والرحمة، يغفر ويرحم لمن يجهد في إقامة الحق، ويحرر نفسه من الوقوف بجانب أهل الباطل. ثم يؤكد الله- عز وجل نهيه عن الدفاع عمن يعمل الباطل ويخون نفسه بفعله الإثم، وذلك لأن الله لا يحب من كانت صفته الخيانة والإثم، فكيف يدافع المؤمن عمن يبغضه الله. فههنا إذن قضيتان متلازمتان، الحكم بالحق، وترك الدفاع عن أهل الباطل، والله- عز وجل ينفر من الدفاع عن أهل الباطل بتبيان صفاتهم المنفرة، ومن ذلك استخفاؤهم من الناس، وإخفاؤهم قبائحهم عنهم؛ لئلا ينكروا عليهم، ويجاهرون الله بها فلا يستخفون منه؛ لأنهم منافقون، إيمانهم بالله مضطرب وغير صحيح. فيبيتون الباطل والظلم، ومن هذا شأنهم فكيف يدافع المؤمن عنهم، والله هو المحيط بأعمالهم، وهو محاربهم ومعاديهم. وإذا افترض أحد أن هؤلاء الخائنين قد استفادوا من مجادلة المؤمنين عنهم، فمن يستطيع الجدال عنهم يوم القيامة، أو من يتوكل لهم يومئذ- يوم القيامة- في ترويج دعواهم؟ فإذا كان الأمر كذلك، والله محيط هذه الإحاطة، فلا يدافعن مسلم عن خائن.
وفي عصرنا هذا- عصر القانون والمحاماة- تظهر أهمية هذا التوجيه، إذ يقرر أن صيغة الحق هي كتاب الله، وأن الدفاع عمن يختانون أنفسهم لا يجوز.
ثم يستمر السياق بعد أن وضح النهي عن الدفاع عن الخائنين، يستمر مقررا ثلاث حقائق رئيسية، الأولى: أن المذنب المسئ إذ استغفر يغفر الله له. والثانية: أن كل إنسان مسئول عن نفسه، وأنه لا تزر وازرة وزر أخرى، وأن إثم الآثم لا يتعداه.
والثالثة: أن الذي يرتكب الخطيئة، أو الإثم، ثم يرمي به الأبرياء، فقد اجتمع عليه ذنبان، ذنب البهتان، وإثمه الأصلي. وإذ تتقرر هذه الحقائق الثلاث المرتبطة بموضوع عدم الدفاع عن الخائنين، يبين الله- عز وجل أن بقاء الإنسان على الحق، وعدم تبنيه للدفاع عن الخائنين، لا يكون إلا بتوفيق من الله، خاصة مع وجود الراغبين في
الإضلال، الذين لا يضلون إلا أنفسهم ولا يضرون غيرها. ثم يذكر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بنعمته عليه بإنزال الكتاب عليه، وتعليمه الحكمة، وتعليمه ما كان يجهله، وهذا يدل على عظم ما خص الله به رسوله صلى الله عليه وسلم، من الفضل العظيم، الذي من مقتضيات
شكره، الوقوف على الحق، وترك الدفاع عن الباطل وأهله. والصلة واضحة بين بداية المجموعة المطالبة بالحكم بالقرآن، والنهي عن الجدال عن الخائنين، وبين نهايتها المتحدثة عن نعمة الله على رسوله صلى الله عليه وسلم بتعليم القرآن.
وفي إطار السورة، وفي سياق هذا المقطع الذي يبين صورا من العدل والحق، في إطار العبادة والتقوى، يحدد الله- عز وجل إطار الخير في أحاديث الناس بعضهم مع بعض، وهو مظهر من مظاهر العبادة والتقوى عظيم. فبين أن الحديث الخير هو ما كان أمرا بصدقة، أو أمرا بمعروف: وهو الحق والعدل، أو كان إصلاحا بين الناس. ثم بين الله أن من يفعل ذلك، مبتغيا وجه الله، مخلصا لله فيه، فإن له أجره العظيم عند الله.
دل ذلك على أن توجيه الكلام في هذه الدائرة، من أعظم أنواع العبادة، ومن ألصق آثار التقوى. ثم يقرر الله- عز وجل حقيقة مرتبطة بقضية الحق والعدل، هذه القضية هي أن ما شرعه الله حق، وما أجمعت عليه الأمة الإسلامية حق، ومخالفة هذا الحق يستحق به صاحبه العذاب الأليم، وارتباط هذه القضية بموضوع السياق الخاص والعام، والجزئي، والكلي واضح. إن من سلك غير طريق الشريعة التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم، أو سلك غير الطريق الذي اجتمعت عليه الأمة المحمدية فيما علم اتفاقهم عليه تحقيقا، فإنه قد تضمنت لهم العصمة- في اجتماعهم من الخطأ؛ تشريفا لهم وتعظيما لنبيهم، فمن سلك طريق الشقاق لهذا، أو لهذا، يجازيه الله على ذلك باستدراجه في الدنيا، ويجعل النار مصيره في الآخرة. لأن من خرج عن الهدى، لم يكن له طريق إلا إلى النار يوم القيامة؛ لمخالفته الحق الذي لا يزيغ عنه إلا هالك. ولما كان رأس الانحراف عن الحق سببه الشرك واتباع الشيطان، فقد جاءت الآيات اللاحقة تبين هذه القضية مقررة: أن الذنب الذي لا يغفره الله هو الشرك، وأن ما دونه يمكن أن يغفره وأن الذي يشرك بالله، قد سلك غير الطريق الحق، وضل عن الهدى، وبعد عن الصواب، وأهلك نفسه وخسرها في الدنيا والآخرة، وفاتته سعادة الدنيا والآخرة. ثم بين الله- عز وجل حال هؤلاء المشركين، محقرا إياه، وأنهم ما يعبدون إلا إناثا كالأحجار، ومظاهر من هذا الكون والطبيعة، وأنهم ما يعبدون في شركهم إلا الشيطان المتمرد على الله، إذ هو الذي يأمرهم بذلك، ويحسنه ويزينه لهم، وهو الملعون المطرود، المبعد من رحمة الله، وعن جواره، وهو الذي أخذ على عاتقه أن يضل قسما معينا، مقدرا معلوما من الناس، من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون، يضلهم عن الحق، ويزين لهم ترك التوبة ويعدهم الأماني، ويأمرهم
بالتسويف والتأخير، ويغرهم من أنفسهم، ويزين لهم تحريم ما أحل الله، وتغيير خلق الله بارتكاب ما حرم، كالوشم والنمص وخصي الإنسان، وغير ذلك. ثم بين الله- عز وجل أن من يتخذ الشيطان وليا مطاعا معبودا، فإنه قد خسر الدنيا والآخرة، وتلك خسارة لا جبر لها، ولا استدراك لفائتها. ثم بين الله- عز وجل طريق الشيطان في الإضلال، وهو أن الشيطان يعد أولياءه ويمنيهم بأنهم هم الفائزون في الدنيا والآخرة، وقد كذب وافترى في ذلك. ولذلك بين الله- عز وجل أن وعد الشيطان أولياءه إنما هو هباء، ثم بين الله- عز وجل جزاء المستحسنين لإغواء الشيطان ووعوده ومناه، وأن هذا الجزاء هو جهنم، فهي مصيرهم ومآلهم يوم القيامة، وأنه ليس لهم عنها مندوحة، ولا مصرف، ولا خلاص ولا مناص.
فالشرك إذن يسبب الانحراف عن الحق، وأن الشرك في حقيقته عبادة للشيطان وطاعة له في دعوته، ومجئ هذه المعاني في سياق الأمر بالحق والعدل واضح. إذ لا عدل ولا حق مع الشرك واتباع الشيطان. وإذ ذكر حال الأشقياء في الآخرة، قفى بحال المؤمنين الذين صدقت قلوبهم، وعملت جوارحهم بما أمروا به من الخيرات، وتركوا ما نهوا عنه من المنكرات بأن جزاءهم الخلود الأبدي في جنات تجرى من تحتها الأنهار، ذلك وعد الله لهم، ووعد الله معلوم حقيقة أنه واقع لا محالة، إذ هو أصدق الصادقين، فلا أحد أصدق منه قولا وخبرا ووعدا. ومجئ هذه الآية في سياق الدعوة إلى الحق والعدل واضح، إذ بدون الإيمان، والعمل الصالح، والثقة بوعد الله في الآخرة، لا يستطيع إنسان أن يثبت على الحق والعدل، وإذ كان كل أهل دين يدعون أنهم أهل الحق، وأن الجنة لهم دون غيرهم، وحتى بعض المسلمين يعيشون على الأماني، فيتصورون أن الجنة لهم بلا عمل، قرر الله- عز وجل أن الدين ليس بالتحلي ولا بالتمني، ولكن ما وقر في القلب وصدقته الأعمال. وليس كل من ادعى شيئا حصل له بمجرد دعواه، ولا كل من قال إنه على الحق سمع قوله بمجرد ذلك، حتى يكون له من الله برهان، فليست النجاة بمجرد التمني، بل العبرة بطاعة الله سبحانه، واتباع ما شرعه على ألسنة الرسل الكرام، وأن القاعدة عند الله أن من يعمل سوءا يجازيه به.
ولا يستطيع أحد أن يحول بين الله وبين مجازاته، فينصره أو يدفع عنه. ولما ذكر الله الجزاء على السيئات، وأنه سيأخذ مستحقها من العبد، إما في الدنيا وهو الأجود له، نسأل الله العافية- وإما في الآخرة والعياذ بالله من ذلك، شرع في بيان إحسانه وكرمه ورحمته في قبول الأعمال الصالحة من عباده، ذكورهم وإناثهم بشرط الإيمان، وأنه
سيدخلهم الجنة، ولا يظلمهم من حسناتهم ولا مقدار النقير، وهو: النقرة، التي في ظهر نواة التمر.
ثم بين الله- عز وجل أنه لا أحسن دينا ممن اجتمع له إخلاص العمل لربه فعمل إيمانا واحتسابا، متبعا في العمل لما شرعه الله، وما أرسل به رسوله من الهدى ودين الحق. وهذان الشرطان لا يصح عمل عامل بدونهما، أن يكون العمل خالصا وصوابا. والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون متابعا للشريعة، فيصح ظاهر العبد بالمتابعة، وباطنه بالإخلاص. فمتى فقد العمل أحد هذين الشرطين فسد. فمتى فقد الإخلاص كان منافقا، وهم الذين يراءون الناس، ومتى فقد المتابعة كان ضالا جاهلا، ومن جمعهما كان من المؤمنين الذين لا أحسن دينا منهم، فهم مخلصون محسنون، وهم متبعون لملة إبراهيم، المائل عن كل شرك إلى التوحيد الخالص، ومن ثم اتخذه
الله خليلا، ثم بين الله- عز وجل أن ما في السموات والأرض ملكه وعبيده وخلقه، وهو المتصرف في جميع ذلك، لا راد لما قضى، ولا معقب لما حكم، ولا يسأل عما يفعل؛ لعظمته وقدرته؛ وعدله وحكمته، ولطفه ورحمته. وأن علمه نافذ في جميع ذلك، لا تخفى عليه خافية من عباده، ولا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر، فهو المحيط بكل شئ، وتقرير هذه المعاني في سياق الأمر بالحق والعدل، وفي السياق الذي يربي على العبادة والتقوى، والإيمان، والعمل الصالح، لا يغيب عن الحاذق الفهم، فليس الحق دعوى، وإنما هو عمل، وليس ميزان الله بخس، ولكنه ميزان عدل، وميزان دقيق، وليس شأن الله قليلا، حتى يهمل أمره أو يعصى أو يطاع غيره في غير طاعته، فالعبودية لله ميزانها الإسلام له، والإحسان في عبادته، واتباع رسله، إذ هو مالك كل شئ، والمحيط بكل شئ، ومن كان كذلك كان حريا أن يسلم له، وأن يحسن في عبادته، وأن يتبع رسله، وذلك من الحق والعدل.
فالحق والعدل في اتباع كتاب الله، وكذلك في عدم الدفاع عن المبطلين. وكما يكونان في ذلك. يكونان في المناجاة بالخير والإصلاح. وكما يكونان في هذا كله يكونان في ترك الشرك وطاعة الشيطان، وكذلك في الإسلام لله، والإحسان في عبادته، واتباع رسله، وذلك كله عبادة وتقوى.
فالمقطع يوضح جوانب من الحق والعدل، يفطن الناس لبعضها، ولا يفطنون لبعضها الآخر. وكل ذلك في إطار السياق الكلي لمحور سورة النساء الذي يعمق قضية العبادة
والتقوى. ثم يكمل المقطع شرح جوانب من الحق والعدل في موضوع يتامى النساء، والمستضعفين، واليتامى عامة، فيفتي بما هو حق وعدل، وذلك أن الرجل قد يكون في حجره يتيمة، هو وليها ووارثها، لا يرغب أن يتزوجها، ويكره أن يزوجها رجلا فيشركه في مالها إذا ماتت، أيفوت عليه ما يطمع فيه، فيعرضها. فبين الله- عز وجل حكمه العادل، والحق في مثل هذا، إما أن تتزوجها ولها مهرها كاملا أسوة بأمثالها من النساء، وإما أن تزوجها إن جاءها طالب كفأ ورضيت، وكانوا في الجاهلية لا يورثون الصغار ولا البنات، فأنزل الله حكمه العادل بوجوب التوريث حسب الاستحقاق، ثم أمر الله- عز وجل بإعطاء اليتامى العدل مذكرا بعلمه بمن فعل خيرا؛ تهييجا على فعل الخيرات وامتثال الأوامر.
ومجئ هذه المعاني في سياق الدعوة إلى الحق والعدل لا يحتاج إلى بيان. ثم بين الله- عز وجل قضايا من الحق والعدل في الشئون الزوجية، فأخبر مشرعا لأحوال من أحوال الزوجين، تارة في حال نفور الرجل من المرأة، وتارة في حال اتفاقه معها، وتارة في حال فراقه لها، وفي كل حالة من هذه الحالات علمنا الله الموقف العدل والحق. فالحالة الأولى ما إذا خافت المرأة من زوجها أن ينفر عنها، أو يعرض عنها، فلها أن تسقط عنه حقها، أو بعضه من نفقة أو كسوة، أو مبيت أو غير ذلك من حقوقها عليه، وله أن يقبل ذلك منها، فلا حرج عليها في بذلها ذلك له، ولا عليه في قبوله منها، إذ الصلح خير من الفراق. وإن كانت النفوس عادة شحيحة. ثم ندب الله- عز وجل الأزواج إلى الإحسان والتقوى، واعدا إياهم بالخير الكثير، إن تجشموا مشقة الصبر على ما يكرهون منهن، فإذا فعلوا ذلك وصبروا عليه فالله يعلمه، وسيجزي عليه خير الجزاء. والحالة الثانية حالة الوفاق في حال كون الرجل له أكثر من زوجة. فقد بين الله- عز وجل أن المساواة المطلقة والعدل المطلق بين الزوجات من كل الوجوه غير مستطاع للإنسان، ولذلك لم يكلف الإنسان به، فلا بد من التفاوت في المحبة والشهوة والجماع، ولكنه فرض العدل في المبيت والمطعم والملبس، ونهى عن المبالغة في الميل إلى واحدة؛ حتى تصبح الأخرى كالمعلقة، ووعد جل جلاله أنه في حالة الإصلاح في الأمور، والقسم بالعدل، في الحدود التي يملكها الإنسان، وفي حالة التقوى، فإن الله سيغفر ما كان من تفريط عند عدم وجود العدل المطلق، وأما الحالة الثالثة حالة الفراق، فقد وعد الله كلا من الزوجين أنهما إذا تفرقا فإن الله يغنيه عنها، ويغنيها عنه، بأن يعوضه الله بمن هي أو ما هو خير له منها، ويعوضها عنه بمن أو ما هو خير لها منه، ثم ذكر الله-
عزّ وجل- بأنه واسع الفضل، عظيم المنة، حكيم في جميع أفعاله وأقداره وشرعه، فليطمئن كل من الزوجين إذا فارق الآخر إلى فضل الله، وليتوكل كل من الزوجين على الله. ثم أخبر الله- عز وجل أنه مالك السموات والأرض، وأنه الحاكم فيهما، وأنه وصانا بما وصى به من قبلنا من تقواه، وعبادته وحده لا شريك له، وأنه في حالة كفرنا- والعياذ بالله- فإنه لا يضره ذلك، وكيف وهو مالك السموات والأرض، وهو الغني عن عباده، وهو المحمود في جميع ما يقدره ويشرعه. وإذن فما دام الله مالك السموات والأرض وهو الغني عن خلقه، المحمود في فعله وشرعه، فمن حقه أن يتقى، وأن يشكر فلا يكفر. ثم ذكر تعالى مرة ثانية بأنه مالك السموات والأرض، وأنه هو القائم على كل نفس بما كسبت، الرقيب الشهيد على كل شئ، وتذكيره بهذا مقدمة لتذكيره بأنه هو القادر على إذهابنا وتبديلنا بغيرنا إن عصيناه، إذ هو القادر على كل شئ، وإذا كان الأمر كذلك، فقد ذكر الله- عز وجل من ليس له همة إلا في الدنيا أن عند الله ثواب الدنيا والآخرة، وإذا سأله السائل من هذه وهذه أعطاه، فلتكن همته سامية إلى نيل المطالب العالية في الدنيا والآخرة، فإن مرجع ذلك كله إلى الذي بيده الضر والنفع، وهو الله الذي لا إله إلا هو، الذي قسم السعادة والشقاوة بين الناس، في الدنيا والآخرة، وعدل بينهم فيما علمه فيهم ممن يستحق هذه، وممن يستحق هذه، فهو السميع البصير.
وما محل هذه المعاني في السياق الخاص في مقطعها الذي هو أمر بالحق والعدل، وتوضيح لما يدخل في مفهوم الحق والعدل؟ الذي يبدو: أن الصلة بين هذه الآيات وبين مقطعها، من حيث إن الله مالك السموات والأرض، هو صاحب الحق في توجيه الإنسان إلى الحق، ويجب أن يتقى، ويجب أن ترتفع همة الإنسان للسير في الحق الذي شرعه لنيل رضوانه وجنته. إلا أننا نحب أن ننبه إلى أن الآيات ينبغي أن تفهم على ضوء سياقها الخاص، وارتباط سورتها بالسياق القرآني العام. وعلى هذا فلنتذكر أن ما ذكره الله في هذا المقطع وفي كل مقطع مرتبط بمجمل السورة في السياق القرآني العام، وسورة النساء محورها الأمر بالعبادة والتقوى. فإذا تذكرنا هذا، وتذكرنا الآيات التي هي محل كلامنا، والتي فيها الوصية بالتقوى وطلب الآخرة. أدركنا صلة هذه الآيات وصلة مقطعها القرآني العام.
والآن يستقر سياق المقطع بنداء المؤمنين أن يكونوا قوامين بالعدل، فلا يعدلوا عنه