الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأمر بالاستعانة بالصبر والصلاة، قبل ذكر الابتلاء، ومجئ آية الكتمان في ذلك السياق يشير إلى أن البيان سيرافقه ابتلاء، والابتلاء يحتاج إلى استعانة بالصبر والصلاة، والملاحظ أن آية (الصفا) في ذلك المقطع فصلت بين آية الكتمان وآيات الصبر، أما هاهنا فإن آية الكتمان جاءت بعد آية الصبر مباشرة.
ولعلنا الآن نستطيع أن نقول كلمة أكثر وضوحا في السياق القرآني العام: لقد سارت سورة البقرة على تسلسلها الذي رأيناه، فكانت مقدمة، وأقساما ثلاثة، وخاتمة. وكان هناك كثير من المعاني التي وردت في الأقسام الثلاثة، والخاتمة تفصل في معان موجودة في مقدمة سورة البقرة، فجاءت سورة آل عمران لتفصل في مقدمة سورة البقرة، ولتشد المعاني المرتبطة بهذه المقدمة من سورة البقرة نفسها، لتربطها بالمقدمة، ولتفصل في ذلك كله على نمط لا يعرفه الإنسان، ولا يخطر على بال إنسان، ولا يستطيعه إنسان، والأمر بالنسبة للقرآن كله أوسع، وسيتضح الأمر معنا شيئا فشيئا، ولننتقل إلى الفقرة الرابعة في المقطع الثالث.
الفقرة الرابعة من المقطع الثالث
وهي آيتان:
[سورة آل عمران (3): الآيات 188 الى 189]
لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (188) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189)
سبقت هاتين الآيتين، آية تحدثت عن نبذ أهل الكتاب لكتاب الله وراء ظهورهم، وشرائهم به ثمنا قليلا، ثم جاءت هاتان الآيتان، فكأنهما تقولان: إن هناك ناسا يكتمون،
ويريدون أن يحمدوا على أنهم يجهرون بالحق، فهؤلاء نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يظن أنهم بمنجاة من عذاب الله، والنهي لرسوله صلى الله عليه وسلم نهي لأمته، ثم بين الله عز وجل أنه مالك كل شئ، والقادر على كل شئ فلا يعجزه شئ.
ولنذكر سبب نزول الآية الأولى، والفهوم غير المرادة منها، وتصحيح الصحابة
لها، ونعرض مع ذلك المعنى الحرفي لها ولما بعدها.
روى الإمام أحمد أن مروان قال لبوابه: اذهب يا رافع إلى ابن عباس فقل: لئن كان كل امرئ منا فرح بما أتى، وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذبا، لنعذبن أجمعين؟ فقال ابن عباس: وما لكم وهذه؟ إنما نزلت هذه في أهل الكتاب، ثم تلا ابن عباس:
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ .. إلى قوله تعالى فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ وهذه الآية:
لا تَحْسَبَنَّ
…
وقال ابن عباس سألهم النبي صلى الله عليه وسلم عن شئ فكتموه إياه وأخبروه بغيره، فخرجوا قد أروه أن قد أخبروه بما سألهم عنه، واستحمدوا بذلك إليه، وفرحوا بما أتوا من كتمانهم ما سألهم عنه.
فالآية إذن أول ما يدخل فيها- إذا نظرنا إلى معناها من خلال السياق- هذا الذي ذكره ابن عباس. ومن ثم لاحظنا أن ابن عباس ربط بين هذه الآية وما قبلها، وعلى هذا فمعنى الآية: لا تظنن الذين يفرحون بما أتوه من كتمان الحق الذي أنزله الله، ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوه من إظهار الحق، لا تحسب أنهم ناجون من العذاب، بل لهم عذاب أليم.
على أنه إذا فهمنا الآية هذا الفهم من خلال سياقها، فإننا يمكن أن نفهمها فهما آخر من خلال نصها. وقد روى البخاري وغيره سببا لنزول الآية غير ما ذكرنا، ومنه نفهم أن الآية تفهم من خلال نصها مما يدخل فيها غير الحالة الأولى.
روى البخاري عن أبي سعيد الخدري أن رجالا من المنافقين في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا إذا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغزو وتخلفوا عنه، وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغزو، اعتذروا، وأحبوا أن يحمدوا على ما لم يفعلوا فنزلت: لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ .. الآية.
وفي رواية ابن مردويه عن أبي سعيد: إنما ذاك أن ناسا من المنافقين يتخلفون إذا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثا، فإن كان فيهم نكبة فرحوا بتخلفهم، وإن كان لهم نصر من الله وفتح، حلفوا لهم ليرضوهم، ويحمدوهم على سرورهم بالنصر والفتح. وعلى هذا يصبح معنى الآية: لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوه من تخلف عن أمر الله، وأمر رسوله، ويحبون مع هذا أن يحمدوا بأنهم من أهل الإيمان والجهاد، وهم لم يفعلوا ما يدل على ذلك، فلا تحسب أن هؤلاء بمنجاة من العذاب.
وسبب ذلك أن المسلم إذا تخلف عن الجهاد حزن، كما سيمر معنا في سورة براءة، وإذا جاهد رغب أن يكون جهاده خالصا لوجه الله تعالى، فهو يخجل من إظهار العمل، وهؤلاء عكس ذلك، فهم في الطرف المقابل من أهل الإيمان في أخلاقهم.
وعلى هذا الاتجاه فما الصلة بين هذه الآية وما قبلها؟ الصلة- والله أعلم- أن الجهاد طريق إظهار الحق. وهؤلاء لا يشاركون فيه، ويحبون أن يحمدوا بأنهم من أهله، وإذا نظرنا إلى لفظ الآية ونصها، فإننا نرى فيها وعيدا لمن يأتي بحسنة فيفرح بها فرح إعجاب. ويحب أن يحمده الناس بما ليس فيه، وقوله تعالى: فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ أي: لا تحسبنهم فائزين، أي لا تحسبنهم بمنجاة من عذاب الله. وبعد هذا نقول: إن نقطة الخطأ في الفهم هي: أن يفهم فاهم أن مجرد فرحه بفعله يستحق به عذاب الله، وذلك أن الفرح إذا كان بفضل الله، فذلك شئ مشروع، وإنما تدخل في الآية ثلاث حالات (والله أعلم): الحالة الأولى: أن يكتم إنسان ما أنزل الله، ويحب أن يحمد على أنه من المجاهرين به. والحالة الثانية: أن يتخلف إنسان عن طاعة الله، وهو فرح بهذا التخلف، ويحب أن يحمد على أنه من القائمين بأمر الله. والحالة الثالثة: أن يفرح الإنسان بعمله فرح إعجاب- إذ العجب يحبط العمل- ويحب أن يتظاهر بغير ما هو له، وأن يحمد به، وقد قال ابن كثير في شرح الآية: يعني بذلك المرائين المتكثرين بما لم يعطوا، كما جاء في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم «من ادعى دعوى كاذبة ليتكثر بها، لم يزده الله إلا قلة» وفي الصحيحين أيضا «المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور .. » .
ونذكر بما قلناه من قبل بهذه المناسبة كيف أن هذا القرآن لا تنتهي عجائبه ومعانيه.
فمن خلال السياق الجزئي نفهم شيئا، ومن خلال السياق العام نفهم شيئا، ومن خلال المعنى الحرفي نفهم شيئا، ولا يتناقض هذا مع هذا، بل يكمله ويتممه.
ثم قال تعالى: وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. أي:
هو المالك لكل شئ، وهو القادر على كل شئ، ومجئ هذه الآية في السياق مرتبط بما قبله من ناحية أن الذين يكتمون، إنما يشترون بكتمانهم ثمنا قليلا. فذكرهم الله بأنه هو مالك كل شئ، وبيده العطاء. ومن ناحية أن الذين يفرحون بما أتوا يستحقون العذاب. وقدرة الله محيطة بهم تنالهم لتعذبهم. إن التذكير بمالكية الله للأشياء كلها، وقدرته على الأشياء كلها، وتذكر ذلك، هو المصفي لكل أمراض النفوس.