الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وما يدخل فيها وما يخرج منها. كما تفصل في طريقها الذي هو العبادة، والتوحيد، والإيمان، والعمل الصالح.
المعنى العام للمقطعين:
يأمر تعالى عباده المؤمنين بالدخول في شرائع الإيمان، وشعبه، وأركانه، ودعائمه، من باب تكميل الكامل، وتقريره، وتثبيته، والاستمرار عليه. ثم بين تعالى أن الذي يكفر بركن من أركان الإيمان، فقد خرج عن طريق الهدى، وبعد عن القصد كل البعد. ثم أخبر تعالى عمن دخل في الإيمان، ثم رجع عنه ثم عاد فيه، ثم رجع، واستمر على ضلاله وازداد حتى مات. فإنه لا توبة له بعد موت، ولا يغفر الله له، ولا يجعل له مما هو فيه فرجا، ولا مخرجا، ولا طريقا إلى الهدى. وبعد أن ذكر أهل الإيمان، وذكر أهل الكفر بنوعيهم، من كان ابتداء كافرا، ومن كفر بعد إيمان، عقب بوصف المنافقين. ويذكرنا هذا بمقدمة سورة البقرة إذ تتكلم عن المتقين، ثم الكافرين، ثم المنافقين، فسورة النساء وهي التي تفصل في ماهية التقوى، ترسم الطريق ليكون الإنسان من أهل التقوى متطهرا من الكفر والنفاق. بدأ الكلام هنا عن المنافقين، بالأمر بأن يبشرهم رسوله والمؤمنون بالعذاب الأليم. ثم وصفهم بأنهم يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين. بمعنى أنهم معهم في الحقيقة. يوالونهم، ويسرون إليهم بالمودة. ثم بين تعالى سبب موالاتهم للكافرين: طلبهم بهذه الموالاة العزة، والجاه في الدنيا. ثم أخبر تعالى بأن العزة كلها له وحده، لا شريك له، ولمن جعلها له من أجل أن يهيج القلوب فتطلب العزة من جنابه وحده؛ فتقبل على العبودية له. فينتظم أصحابها في جملة عباده المؤمنين الذين لهم النصرة في الحياة الدنيا، ويوم يقوم الأشهاد.
ثم حرم الله الجلوس في المكان الذي يكفر فيه بآيات الله، ويستهزأ بها فيه. وبين أننا إذا ارتكبنا النهي بعد أن وصل إلينا، ورضينا بالجلوس مع الكافرين والمنافقين في المكان الذي يكفر فيه بآيات الله، ويستهزأ بها وينتقص منها، وأقررناهم على ذلك، فقد شاركناهم في الذي هم فيه، ومن شارك الكافرين في كفرهم، فقد استحق أن يشركه الله معهم في نار جهنم أبدا. ويجمع بينهم في دار العقوبة، والنكال، والقيود، والأغلال، وشراب الحميم، والغسلين. نفهم من ذلك أن مجالسة الكافرين مع إعلانهم الكفر، واستهزائهم بدين الله مع الإقرار، نفاق. ثم زاد الله المؤمنين بصيرة بالمنافقين، فوصفهم بعد أن وصفهم بمجالسة الكافرين على الحال التي مرت بنا، بأنهم يتربصون
بالمؤمنين دوائر السوء، بمعنى: أنهم ينتظرون زوال دولتهم، وظهور الكفرة عليهم، وذهاب ملتهم. ولكنهم لنفاقهم، إن رأوا نصرا، وتأييدا للمسلمين، يتوددون إليهم بالتظاهر بأنهم معهم. وإن كان للكافرين إدالة على المؤمنين، كما قد يقع في بعض الأحيان، يقولون للكافرين: لقد ساعدناكم في الباطن. وما ألونا المؤمنين خبالا، وتخذيلا حتى انتصرتم عليهم. يصانعون المؤمنين إن كانت لهم غلبة. ويصانعون الكافرين إن كانت لهم غلبة، ليحظوا عند الجميع، ويأمنوا الجميع. وما ذاك إلا لضعف إيمانهم وقلة يقينهم. ثم هددهم الله- عز وجل بأن لا يغتروا بجريان الأحكام الشرعية عليهم ظاهرا في الحياة الدنيا؛ لما لله في ذلك من الحكمة. فيوم القيامة لا تنفع الظواهر. ويوم القيامة تظهر العزة كلها للمؤمنين. ولا يكون للكافرين على المؤمنين أدنى طريق. فلا يغتر من يغتر بما قد يكون للكافرين من غلبة على المؤمنين في الحياة الدنيا. ثم زادنا الله بصيرة في شأن المنافقين، وأنهم من جهلهم بالله، وقلة علمهم وعقلهم، يعتقدون أن أمرهم كما راج على الناس- حتى جرت عليهم أحكام الشريعة ظاهرا، فكذلك يكون حكمهم يوم القيامة. وأن أمرهم يروج عند الله. ولكن أنى يروج خداعهم على الله، وكيف يمر. فالله الحكم العدل، البصير، الخبير، يستدرجهم حتى في الدنيا- في طغيانهم، وضلالهم. ويخذلهم عن الحق، والوصول إليه فكذلك يوم القيامة هم مجزيون على كفرهم.
ثم بين الله- عز وجل صفة أخرى من صفات المنافقين. وكيف أنهم إذا عملوا أشرف الأعمال وأفضلها وخيرها، وهي الصلاة، كان عملهم محاطا بالكسل.
فإذا قاموا إلى الصلاة، قاموا كسالى؛ لأنهم لا نية لهم فيها، ولا إيمان لهم بها، ولا خشية في شأنها ولا يعقلون معناها. ومن ثم يقومون إليها كسالى. وهذه صفة ظاهرهم في أدائها، وأما صفة بواطنهم الفاسدة، فهي أنهم لا إخلاص لهم فيها. وإنما يؤدونها مراءاة للناس، ومصانعة لهم. ثم هم في صلاتهم لا يخشعون ولا يدرون ما يقولون، بل هم في صلاتهم ساهون لاهون، وعما يراد بهم من الخير معرضون. ثم زادنا الله بصيرة في شأن المنافقين، فوصفهم بالحيرة، والتردد بين الإيمان، والكفر، والمؤمنين، والكافرين. فلا هم مع المؤمنين ظاهرا، وباطنا. ولا هم مع الكافرين ظاهرا، وباطنا. بل ظواهرهم مع المؤمنين، وخاصة عند ما تكون الغلبة للمؤمنين. وبواطنهم مع الكافرين. ومنهم من يعتريه الشك. فتارة يميل إلى هؤلاء، وتارة يميل إلى أولئك.
وذلك علامة من أراد الله إضلاله: أن لا تجد له طريقا واضحا. وبعد أن اتضحت
حال المنافقين، وأن أساس نفاقهم هو موالاة الكافرين، نهى الله عباده المؤمنين عن اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين. أي: نهى عن مصاحبتهم، ومصادقتهم، ومناصحتهم، وإسرار المودة إليهم، وإفشاء أحوال المؤمنين الباطنة إليهم. ثم حذر أنه إن فعلنا ذلك، فإننا نكون قد جعلنا الحجة قائمة علينا في استحقاقنا عقوبة الله.
ثم بين الله- عز وجل ما أعده من عقوبة للمنافقين، جزاء على كفرهم الغليظ.
وهو استحقاقهم العذاب في أسفل النار، في توابيت من نار، مغلقة عليهم، مقفلة.
وأنهم لا ناصر لهم من الله ينقذهم مما هم فيه. ويخرجهم من أليم العذاب. ثم أخبر تعالى أنه من تاب منهم في الدنيا، تاب الله عليه، وقبل ندمه إذا أخلص في توبته، وأصلح عمله، واعتصم بربه في جميع أمره، وبدل الرياء بالإخلاص. فعندئذ يكونون في زمرة المؤمنين. ينالهم ما ينالهم من الأجر العظيم. ثم أخبر تعالى عن غناه عما سواه وأنه
إنما يعذب العباد بذنوبهم، وأنه منزه- تعالى- أن يعذب من أصلح العمل وآمن. إذ إنه تعالى يشكر من شكر له. ومن آمن علم ذلك منه وجازاه على ذلك أوفر الجزاء.
في هذا السياق الذي علمنا فيه الله- عز وجل أنه منزه عن مقابلة الشكر والإيمان بالعذاب، وأنه يعذب من يستحق العذاب، أدبنا على ألا ندعوا على أحد إلا إذا ظلمنا، وألا نتكلم على أحد إلا إذا ظلمنا. وندبنا إلى العفو حتى في مثل هذا؛ لأن من صفاته هو، العفو مع كمال القدرة. ثم بين لنا أنه إن عاقب، لا يعاقب إلا بعد استحقاق العذاب. فليحذر أحد عقوبته العادلة، إن كفر أو نافق.
ثم يعود السياق إلى الكلام عن الكفر- الذي ينقض الإيمان- وعن أهله. إذ المقطع كله في قضية الإيمان، وما ينقضها من كفر، أو نفاق. فتوعد الله الكافرين به- تعالى- وبرسله. وخاصة الذين يفرقون بين الله ورسله في الإيمان. فيؤمنون ببعض، ويكفرون ببعض بمحض التشهي والعادة وما ألفوا عليه آباءهم، لا عن دليل قادهم إلى ذلك، فإنه لا سبيل لهم إلى ذلك، بل بمجرد الهوى والعصبية، كحال اليهود. إذ كفروا بعيسى، وكحالهم وحال النصارى إذ كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم، فمن كفر بنبي من الأنبياء، فقد كفر بسائر الأنبياء. فإن الإيمان واجب بكل نبي بعثه الله إلى الأرض.
فمن رد نبوة واحد منهم، فقد رد نبوة الكل. لذلك وصف الله- عز وجل أمثال هؤلاء بأن كفرهم محقق لا شك فيه، وأنهم كما استهانوا بمن كفروا به، إما لعدم نظرهم
فيما جاءهم به من الله، وإعراضهم عنه، وإقبالهم على جمع حطام الدنيا مما لا ضرورة بهم إليه. وإما بكفرهم به بعد علمهم بنبوته. فإنهم في مقابل هذه الاستهانة، يعاقبهم الله بالعذاب المهين في الآخرة. أما المؤمنون الذين آمنوا بالله، وبكل الرسل، فقد أعد الله لهم الجزاء الجزيل، والثواب الجليل، والعطاء الجميل على ما آمنوا بالله ورسله، ووعدهم المغفرة، والرحمة.
ولنلاحظ في هذا المقطع كيف أنه بدأ بالدعوة إلى تحقيق الإيمان وبين الكفر وجزاءه. وهدد المنافقين، وبين صفاتهم ثم بدأ يناقش نوعا من الكافرين. وهم الذين يكفرون ببعض الرسل دون بعض. وأول من ينطبق عليهم هذا الوصف هم اليهود والنصارى. ومن ثم يبدأ المقطع يناقش هؤلاء، ويسفه ما هم عليه كما سنرى إن شاء الله- والمهم هنا أن نلاحظ كيف أن هذين المقطعين اللذين هما في حكم المقطع الواحد، منصبان على قضية الإيمان التي محلها في التقوى ما عرفناه في أول سورة البقرة. فلنتذكر أن محور النساء هو تبيان ماهية التقوى. لكي يكون إدراكنا للسياق الجزئي، والعام، صحيحا.
ولنرجع إلى استعراض المعاني العامة:
سأل اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينزل عليهم كتابا مكتوبا من السماء مباشرة. وإنما سألوه هذا على سبيل التعنت والكفر، لا رغبة بالآية من أجل الإيمان، لأن نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وآياته ظاهرة واضحة. فبين الله لرسوله أن سؤالهم هذا من باب التعنت، لا من باب طلب الدليل. وأن هذه طبيعتهم المتوارثة. فها هم مع كل ما رأوا من الآيات مع موسى عليه السلام، طالبوه أن يريهم الله جهرة، فعوقبوا. وعبدوا العجل بعد كل البينات، فعوقبوا، وعفي عنهم. وأخذت عليهم مواثيق غليظة في أوضاع معجزة.
فنقضوا المواثيق، وكفروا بآيات الله، وقتلوا الأنبياء، ووصفوا أنفسهم بقسوة القلب وتغليفه، فرارا من الموعظة والطاعة. وادعوا أنهم قتلوا المسيح ابن مريم.
ورموا أمه الطاهرة بالزنا. هذه هي طبيعتهم الظالمة. فهل يستغرب موقفهم من رسالة محمد صلى الله عليه وسلم بعد هذه الطبيعة، وبسبب من ظلمهم هذا، وبسبب صدهم عن سبيل الله، وبسبب أكلهم الربا، وبسبب أكلهم أموال الناس بالباطل، شدد الله عليهم في الحياة الدنيا، وسيعاقب الكافرين منهم في الآخرة عقابا أليما. وحتى لا يظن ظان أنهم ليس فيهم إلا من هذا شأنه، استثنى الله من هذه الأوصاف، الراسخين في العلم منهم،