الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الذين اجتمع لهم الفكر والذكر. وأنهم يعطون الله- كأثر عن فكرهم وذكرهم- ما يليق بجلاله، فيدعون الله بمجموعة دعوات تجمع قضايا الإيمان والخير كلها. ثم بين الله- عز وجل أنه استجاب لهم دعواتهم بسبب ما قدموه من عمل، وهجرة، وصبر، وقتال، مما يدل على أن من هذه أخلاقهم هم أولو الألباب، وهم وحدهم الذين يتذكرون، وأن جزاءهم جنات الله بما فيها. ثم صدر النهي لرسول الله صلى الله عليه وسلم ألا ينظر نظر إكبار إلى ما فيه الكافرون من نعمة، وغبطة وسرور، فالدنيا كلها لا تساوي شيئا بجانب الآخرة، وأن ما هم فيه أمام ما أعد الله لهم من عذاب جهنم لا يساوي شيئا. ثم أعاد الله البشارة بالجنات لأهل التقوى بعد النهي عن الاغترار بتقلب الذين كفروا في البلاد.
ثم بين الله- عز وجل أن هناك طائفة من أهل الكتاب يؤمنون بالله حق الإيمان، ويؤمنون بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم مع ما هم مؤمنون به من الكتب المتقدمة، وأنهم مطيعون لله، خاضعون، متذللون بين يديه، لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا، أي:
لا يكتمون ما بأيديهم من بشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم، وذكر صفته، ونعته، ومبعثه، وصفة أمته، هؤلاء أجرهم محفوظ عند الله، ثم ختمت السورة بنداء لأهل الإيمان بالصبر، والمصابرة، والمرابطة، والتقوى؛ من أجل فلاحهم. فدل ذلك على أنه ليكون الإنسان من المفلحين، لا بد له من اجتماع هذه الأربعة.
المعنى الحرفي للمقطع:
إذ أعطانا الله صورة ناس فيما مر، لا يقومون بحق الله في كتابه، فإنه الآن يعطينا صورة من يقوم بحق كتابه من خلال مجموعة آيات تصف أولي الألباب الذين هم وحدهم- كما نصت سورة آل عمران في أولها- الذين يتذكرون إذا ذكروا. وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ. وهذه الآيات- إلى نهاية السورة- لها شأن خاص، وقد وردت فيها آثار خاصة كما سنرى. إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. أي: في حدوثهما وتقديرهما وما في خلقهما من الحكمة. وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أي:
تعاقبهما، وتقارضهما الطول والقصر، فتارة يطول هذا ويقصر هذا، ثم يعتدلان، ثم يأخذ هذا من هذا، فيطول الذي كان قصيرا، ويقصر الذي كان طويلا. لَآياتٍ أي: لأدلة واضحة على صانع حكيم قادر حي لِأُولِي الْأَلْبابِ أي: لأصحاب العقول التامة الزكية التي تدرك الأشياء بحقائقها على جلياتها. وفي كتابنا «الله جل
جلاله» شرحنا كيف أن ظواهر هذا الكون تدل أصحاب العقول- بما لا يقبل شكا- على الله، وذلك أن كل قوانين العقل والعلم تشهد على أن لهذا الكون بداية، فهو حادث، وحدوثه يدل على محدثه، ومحدثه أزلي قديم، وإلا لاحتاج إلى محدث آخر، إلى ما لا يتناهى، وحسن صنعه يدل على علمه، وإتقانه يدل على حكمته ..
ثم وصف الله أولي الألباب أي: الذين خلصت عقولهم عن الهوى خلوص اللب عن القشر، فقال: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي: الذين اجتمع لهم دوام الذكر، وعبادة الفكر في ملكوت السموات والأرض. وفسر الذكر في الآية بالصلاة، كما ثبت في الصحيحين عن عمران ابن حصين، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
«صل قائما، فإن لم تستطع فقاعدا، فإن لم تستطع فعلى جنبك» كما فسر بالذكر الدائم في جميع الأحوال، بالسرائر والضمائر والألسنة. والتفسير الأول: هو تفسير للذكر بالذكر المفروض، والتفسير الثاني: هو تفسير للذكر بالذكر المسنون، فقد وصفت عائشة حال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت:«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه» والتفكير في خلق السموات والأرض يدخل فيه التفكير في الظواهر الدالة على عظمة الخالق، وقدرته، وعلمه، وحكمته، واختياره، ورحمته، وكبرياء سلطانه، بما يستجيش في النفس، وعلى اللسان ما يأتي: رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا. هذا الذي يستجيشه تفكيرهم أن يقولوا: ربنا ما خلقت هذا الخلق عبثا بغير حكمة، بل خلقته لحكمة عظيمة، لتكون أدلة للمكلفين على معرفتك. خلقته بالحق لتجزي الذين أساءوا بما عملوا، وتجزي الذين أحسنوا بالحسنى. سُبْحانَكَ أي: تنزيها لك عن العبث وخلق الباطل. فَقِنا عَذابَ النَّارِ جزاء ما عرفناك ونزهناك، أي: يا من خلق الخلق بالحق والعدل، يا من هو منزه عن النقائص، والعيب، والعبث، قنا من عذاب النار بحولك وقوتك، ووفقنا لعمل صالح تهدينا به إلى جنات النعيم، وتجيرنا به من عذابك الأليم.
رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ. أي: أهنته وأظهرت خزيه لأهل الجمع وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ أي: يوم القيامة لا مجير منك، ولا محيد لهم عما أردت بهم، ولا شفعاء لهم ولا أعوان.
رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أي: داعيا يدعو إلى الإيمان، وهو الرسول صلى الله عليه وسلم أو القرآن أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا أي: يقول: آمنوا بربكم فآمنا، أي: فاستجبنا له واتبعناه. رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا أي: استر كبائرنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا أي: وامح عنا خطايانا
من الصغائر. وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ أي: وألحقنا بالصالحين. والأبرار جمع بر:
وهو المتمسك بالكتاب والسنة. فصار معنى الآية: ربنا بإيماننا، واتباعنا نبيك، اغفر الذنب كله، واجعلنا من المعدودين في جملة الأبرار، بأن تختم لنا كما ختمت لهم.
رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ أي: على ألسنة رسلك، والموعود هو الثواب أو النصر على الأعداء، أو كلاهما. وإنما طلبوا إنجاز ما وعد الله، والله لا يخلف الميعاد، لأن معناه طلب التوفيق فيما يحفظ عليهم أسباب إنجاز الميعاد، أو المراد اجعلنا ممن لهم الوعد، إذ الوعد غير مبين لمن هو، أو المراد ثبتنا على ما يوصلنا إلى عدتك، أو المراد إظهار العبودية والافتقار، والضراعة والخضوع. وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ أي: لا تذلنا يوم القيامة على رءوس الخلائق. إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ أي: لا بد من الميعاد الذي أخبرت عنه رسلك، وهو القيام يوم القيامة بين يديك.
فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أي: إن المؤمنين ذوي الألباب لما سألوا ما سألوا مما تقدم ذكره، استجاب لهم. ثم فسر هذه الإجابة والاستجابة فقال: أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى والمعنى: أنه لا يضيع عمل عامل لديه، ذكرا كان أو أنثى، بل يوفي كل عامل عمله بالقسط. بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ أي: الذكر من الأنثى، والأنثى من الذكر. والجميع في ثوابي سواء، أو بعضكم من بعض في النصرة والدين. وإذا كان الأمر كذلك، فعمل العامل ذكرا كان أو أنثى واصل جزاؤه لصاحبه. وهذه الجملة معترضة بينت بها شركة النساء مع الرجال فيما وعد الله به عبادة العاملين، ثم فصل عمل العامل منهم على سبيل التعظيم لهذا النوع من العمل. فَالَّذِينَ هاجَرُوا من دار الكفر إلى دار الإسلام، ومن دار البدعة إلى دار السنة، ومن دار الجور إلى دار العدل، مفارقين الأحباب، والخلان، والإخوان، والجيران، والأوطان، فارين إلى الله بدينهم، إلى حيث يأمنون هم وذرياتهم عليه. قال النسفي: والهجرة كائنة في آخر الزمان كما كانت في أول الإسلام وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ التي ولدوا فيها ونشئوا، أي ضايقهم أعداء الله بالأذى حتى ألجئوهم إلى الخروج من بين أظهرهم وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي أي: وأوذوا بالشتم والضرب، ونهب المال في سبيل دين الله. وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا أي: وجاهدوا أعداء الله بأيديهم واستشهدوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ أي: هؤلاء الذين عملوا هذه الأعمال السنية الفائقة لأغفرن لهم ذنوبهم وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أي: تجري في خلالها الأنهار من أنواع المشارب من لبن، وعسل، وخمر، وماء غير آسن، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر
على قلب بشر، ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أي: إثابة من عند الله يختص به، ولا يقدر عليه غيره، وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ أي: عنده حسن الجزاء لمن عمل صالحا.
بينت هذه الآيات من هم أولو الألباب على الحقيقة، وما هو جزاؤهم. والصلة بين هذه الآيات وما قبلها واضحة، من حيث إن هؤلاء هم الذين يعطون كتاب الله حقه على عكس أولئك.
وبهذا انتهت الفقرة الأولى من هذا المقطع فلنر فقرة أخرى:
لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم تثبيتا له- إذ هو غير مغتر- وهو خطاب لكل فرد في أمته، أي: لا يغرنك ما هم فيه من النعمة، والغبطة، والسرور، والمتعة، واللذة، والسلطان، فيحرفك عن الحق الذي أنزله الله إليك، وما أكثر من يغتر بسلطان الكافرين، وعزتهم، وسيطرتهم على كثير من بلاد العالم، فيحرفه ذلك عن الحق.
مَتاعٌ قَلِيلٌ أي: تقلبهم في البلاد متاع قليل، قليل في جنب ما فاتهم من نعيم الآخرة، أو في جنب ما أعد الله للمؤمنين من الثواب، قليل في نفسه لانقضائه، وكل زائل قليل. ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ أي:
وساءت جهنم مهادا مهدوه لأنفسهم. ثم بين أن المتاع الحقيقي لأهل التقوى فقال:
لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ أي: لا بقاء لتمتع الكافرين، لكن ذلك للذين اتقوا، ثم بين هذا المتاع الحقيقي لأهل التقوى فقال. لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وهذا هو المتاع الحقيقي الذي لا انقضاء له، وفي هذا دعوة للمؤمنين لكي يثبتوا على التقوى في كل الظروف، ولو كانت الغلبة، والعز، والجاه، والسلطان لأهل الكفر. ثم بين أن ما أعطاه للمتقين من المتاع الحقيقي إنما هو رزق، وعطاء، وضيافة من عنده فقال: نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أي: ضيافة، وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ أي: وما عند الله من الخير الكثير الدائم، خير للأبرار، مما يتقلب فيه الفجار من القليل الزائل. فليثبت أهل البر على برهم، وليثبت أهل الإيمان والتقوى والحق على كتاب الله وشرعه.
ثم ذكر صنفا من أهل الكتاب هم غير من مر من الكاتمين والكافرين:
وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ أي: من القرآن وَما
أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ من التوراة، والإنجيل، والزبور خاشِعِينَ لِلَّهِ أي: مطيعين خاضعين متذللين لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا أي: لا يكتمون ما يعلمون من مثل صفة محمد صلى الله عليه وسلم في كتبهم، والتبشير ببعثته، ورسالته، كما يفعل من منعه الكبر من الأحبار، والرهبان، والمتكبرين، وهؤلاء الذين وصفهم الله هم خيرة أهل الكتاب، وصفوتهم، إذ جمع الله لهم الإيمان التفصيلي بما أنزل، ولذلك وعدهم هنا فقال:
أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ أي: أولئك لهم الأجر المختص بهم عند ربهم وهو ما وعدهم الله به في قوله: أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ (سورة القصص) إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ حسابه سريع لنفوذ علمه في كل شئ.
ثم ختم السورة بهذه الآية الجامعة: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أي: اصبروا على الدين وتكاليفه، وصابروا أعداء الله في الجهاد، أي: غالبوهم في الصبر على شدائد الحرب، ولا تكونوا أقل صبرا منهم وَرابِطُوا أي: أقيموا في الثغور مترصدين لقتال أعداء الله، أو رابطوا في المساجد مستعدين
لحرب الشيطان وَاتَّقُوا اللَّهَ فيما أمر ونهى. لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ بوراثة الجنة، ونيل رضوان الله. والفلاح: البقاء مع المحبوب بعد الخلاص عن المكروه، وإنما قال: لَعَلَّكُمْ لئلا يتكلوا على الآمال عن تقديم الأعمال. ولنعد ذكر التشابه بين قوله تعالى في مقدمة سورة البقرة: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ، أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وبين قوله تعالى هنا في آخر آل عمران: وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ*. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
ولنلاحظ ذكر الإيمان بما أنزل علينا، وما أنزل من قبل، وذكر الفلاح لندرك ما كررناه من أن سورة آل عمران تفصيل لمحورها من سورة البقرة، وهي مقدمتها وماله علاقة مباشرة بهذه المقدمة من بقية سورة البقرة، ولكن على نسق جديد.
وإذ انتهينا من هذا المقطع نحب أن نذكر أن فيه تصحيحا لمفاهيم، فهو من هذه الناحية استمرار لما قبله، ولأنه ختام القسم الثاني كله، وختام السورة فقد أدى أكثر من هدف.