الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وجل- شبهة أثارها المتكبرون- وهي دعواهم إذ أمرنا ربنا بالإنفاق- أنه فقير، وهم الأغنياء، وهذا معناه في زعمهم احتياجه لهم، فهددهم الله على مقالتهم وعلى قتلهم الأنبياء من قبل. ومن هنا نفهم أن قائلي هذا الكلام هم اليهود، وبين أن جزاءهم على ذلك عذاب جهنم بسبب أفعالهم، لا بظلم من الله لأن ربنا ليس بظلام لخلقه، ثم بين أن من أخلاق هؤلاء، وأقوالهم دعواهم أن الله لم يأذن لهم أن يؤمنوا برسول إلا إذا قدم قربانا أكلته نار من السماء، فرد عليهم هذه الدعوى، وبين لهم أنهم كاذبون فيما يطلبون، فإن رسلا آخرين جاءوا بمعجزات، وبقربان أكلته النار فقتلوهم، فهذا دليل على أن كلامهم هذا من باب التعنت لا من باب الإنصاف، ثم عزى الله رسوله بأنه إن كذبه هؤلاء، فإن غيره من الرسل قد كذبوا مع مجيئهم بالمعجزات والوحي، ثم وعظ الله الناس وعظا عاما بالموت، وذكرهم بالنار والجنة، وأن الفوز هو في الزحزحة عن النار، ودخول الجنة، وأن هذه الدنيا فانية، والتذكير بهذا في سياق النهي عن البخل واضح الدلالة. ثم ذكر الله- عز وجل المؤمنين بأن من سنته أن
يبتليهم في الأموال والأنفس، وذكرهم بأن أهل الكتاب والمشركين سيؤذونهم كثيرا، وندبهم إلى الصبر والتقوى، وأثنى على من يتحقق بهذا.
ثم إن الفقرة تتجه للتذكير بما أخذ من عهود على أهل الكتاب على ألسنة أنبيائهم أن يبينوا كتاب الله ولا يكتموه، ومن ذلك ما ورد فيه من أمر محمد صلى الله عليه وسلم، وأن ينوهوا بذكره في الناس، فيكون الناس على أهبة من أمره، فإذا أرسله الله تابعوه. فكتموا ذلك، وتعوضوا عما وعدوا عليه من الخير في الدنيا والآخرة بالدون الطفيف، والحظ الدنيوي السخيف، فبئست الصفقة صفقتهم، وبئست البيعة بيعتهم، وفي هذا تحذير للعلماء أن يسلكوا مسلكهم، فيصيبهم ما أصابهم، ويسلك بهم مسلكهم. فعلى العلماء أن يبذلوا ما بأيديهم من العلم النافع الدال على العمل الصالح، ولا يكتموا منه شيئا.
المعنى الحرفي للآيات:
وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ وفي قراءة:
ولا تحسبن، وهذا يؤكد الصلة بين الفقرات التي تؤلف هذا المقطع.
والمعنى: لا يظنن البخلاء بحقوق الله التي جعلها فيما رزقهم، أن بخلهم خير لهم.
بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ. أي: بل بخلهم شر لهم، لأن أموالهم ستزول عنهم، ويبقى
عليهم وبال البخل، والشرية لهم في الآخرة متحققة، وقد يكون بخلهم شرا عليهم في الدنيا كذلك بما يصيبهم بسبب هذا البخل من كراهية، وثورات عليهم، وعقوبات دنيوية وربانية. سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ هذا تفسير للشر الذي يصيبهم بسبب بخلهم في الآخرة. ومعناه أن الله سيجعل مالهم الذي منعوه عن الحق طوقا في أعناقهم يوم القيامة، كما شرحته السنة. وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ.
أي: وله ما فيهما مما يتوارثه أهلها من مال وغيره، فما لهم يبخلون عليه بملكه، ولا ينفقونه في سبيله. وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ لا يغيب عنه ظاهر العمل ولا باطنه، فاعملوا خيرا، وأخلصوا نياتكم وضمائركم لله فيه، لتنقذوا أنفسكم من عذابه، وتنالوا رضوانه.
لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ قال ذلك اليهود عليهم اللعنة عتوا على الله في تحريفهم لمراد الله من أوامره، ومعنى سماع الله له: أنه لم يخف عليه، وأنه أعد له كفاء من العقاب. سَنَكْتُبُ ما قالُوا هذا تهديد ووعيد لهم، ومعناه: سنحفظه عليهم، ونحاسبهم عليه، أو سنأمر الحفظة بكتابة ما قالوا في الصحائف؛ لنجزيهم عليه. وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ. أي: سنكتب قولهم هذا، وقتلهم الأنبياء، فجعل قتلهم الأنبياء قرينا لهذا القول إيذانا بأنهما في العظم أخوان، وأن من قتل الأنبياء لم يستبعد منه الاجتراء على هذا القول، فهؤلاء جرآء على رسله، وسيجزيهم الله على ذلك شر الجزاء، ولذلك قال: وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ. أي: ونقول لهم يوم القيامة ذوقوا عذاب النار، قال الضحاك: يقول لهم ذلك خزنة جهنم،
ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ. أي: ذلك العذاب بما قدمتم من الكفر، والمعاصي، والجرأة على الله ورسله. وذكر الأيدي لأن أكثر الأعمال يكون بها، فجعل كل عمل كالواقع بالأيدي على سبيل التغليب. وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ. أي: إن الله لا يظلم عباده، فلا يعاقبهم بغير جرم. ويقال لهم هذا تقريعا وتوبيخا، وتحقيرا وتصغيرا،
ثم بين الله عتو هؤلاء وجرأتهم وكذبهم: الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ. أي: إنهم ادعوا أن الله أمرهم بالتوراة، بألا يؤمنوا برسول، فيصدقوه، ويتابعوه، إلا إذا قرب قربانا لله، فتنزل نار من السماء فتأكله، والقربان: ما يتقرب به إلى الله. والمعنى:
افعل هذا يا محمد نصدقك!! وقد أمر الله رسوله أن يرد عليهم، قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ. أي: بالحجج، والبراهين، والمعجزات، سوى القربان،
وَبِالَّذِي قُلْتُمْ أي: بالقربان الذي أكلته النار، فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ. أي: فلم قابلتموهم بالتكذيب والمعاندة والقتل، إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. أي: في دعواكم أنكم تتبعون الحق، وتنقادون للرسل إن فعلوا ما طلبتم. فإذا كان هذا فعلكم بمن هو منكم، فكيف يكون فعلكم بمن ليس منكم إن قدرتم عليه، ولا شك أن كلامهم محض افتراء وتعنت، فالمعجزة معجزة أيا كانت، والله- عز وجل هو الذي يختار المعجزة التي تشهد على صدق رسله، وعلى الخلق أن يؤمنوا.
ثم قال تعالى مسليا نبيه صلى الله عليه وسلم: فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ. أي: فإن كذبك اليهود فلا يهولنك ذلك، فقد فعلت أقوام برسلها وأنبيائها كذلك مع كونهم جاؤُ بِالْبَيِّناتِ. أي:
بالمعجزات الظاهرات وَالزُّبُرِ. أي: الكتب المتلقاة من السماء وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ. أي: الواضح الجلي المضئ. والملاحظ أن الزبر، والكتاب، بمعنى واحد، فما الفارق بينهما؟. قال النسفي: قيل هما واحد في الأصل، وإنما ذكرا لاختلاف الوصفين فالزبور كتاب فيه حكم زاجرة، والكتاب المنير هو الكتاب الهادي.
كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ. أي: ما من نفس إلا وستموت، وستعطون ثواب أعمالكم على الكمال يوم القيامة، فإن الدنيا ليست بدار جزاء. قال النسفي رابطا بين هذه الآية وما قبلها: والمعنى: لا يحزنك تكذيبهم إياك، فمرجع الخلق إلي فأجازيهم على التكذيب، وأجازيك على الصبر. فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ. أي: أبعد، إذ الزحزحة: الإبعاد وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ. أي: ظفر بالخير. فمن جنب النار ونجا منها، وأدخل الجنة فقد فاز كل الفوز. وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ. أي: صغير شأنها، حقير أمرها، دنيئة فانية، قليلة زائلة.
شبه الدنيا بالمتاع الذي يدلس به على المستام، ويغرر حتى يشتريه، ثم يتبين له فساده، ورداءته، والشيطان هو المدلس الغرور.
وعن سعيد بن جبير: إن هذا لمن آثرها على الآخرة، فأما من طلب الآخرة بها فإنها متاع بلاغ. لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ. أي: لتختبرن في الأموال والأنفس، أما في الأموال فبما يقع بها من آفات، أو بما يصادر منها في سبيل الله، أو بما ينفق منها في سبيل الله، وأما في الأنفس، فبالقتل والأسر والجراح، وما يرد عليها من أنواع المخاوف والمصائب. قال ابن كثير: أي لا بد أن يبتلى المؤمن في شئ من ماله، أو نفسه، أو ولده، أو أهله، ويبتلى الرجل على قدر دينه، فإن كان في دينه صلابة زيد في البلاء. وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ. أي: اليهود