الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التفسير الحرفي، والفوائد التي نلحقها به. ولنعد إلى السياق، فبعد أن استثنى الله ناسا من الأمر بالقتل والقتال، يذكر الله ناسا يأمر بقتلهم وقتالهم، يشبهون المستثنين في الصورة ويختلفون عنهم في الحقيقة والنية، هؤلاء الذين يأمر الله بقتلهم وقتالهم قوم منافقون يظهرون للنبي صلى الله عليه وسلم ولأصحابه الإسلام، ليأمنوا بذلك عندهم على دمائهم وأموالهم وذراريهم، ويصانعون الكفار بالباطن، ومتى وضعوا في أدنى وضع من الفتنة عن الإسلام، دخلوا فى الكفر والشرك وانهمكوا به، وأظهروا إخلاصهم له، بل أصبحوا في صف الكفر إيذاء وقتالا للمسلمين، هؤلاء أمر الله في شأنهم إذا لم يعتزلوا قتال المسلمين، ويعلنوا الإسلام، ويكفوا أيديهم عن إيذاء المسلمين، أن يقتلوا، ولأن هذا الموضوع قد يتحرج منه بعض الناس ختم الله الآية بقوله وَأُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً أي: بينا واضحا. وبعد أن أمر الله هذه الأمة بالقتل والقتال حذر هذه الأمة أن تستجرها جرأتها على قتل أعدائها إلى أن تتجرأ على أن يقتل بعضها بعضا، وكان التحذير شديدا، فقد بين الله- عز وجل في الآيات الأخيرة من هذا المقطع، أنه ليس لمؤمن أن يقتل أخاه المؤمن بوجه من الوجوه، وإذ كان هذا النهي جازما، والمؤمن في الأصل لا يخالفه، بين تعالى أنه تتصور حالة واحدة من الحالات، يمكن أن يقتل مؤمن مؤمنا، وهي حالة الخطأ. ثم بين أنه في حالة تلبس المؤمن بالقتل الخطأ فماذا يفعل؟ يختلف الحكم بين ما إذا كان هذا المؤمن المقتول خطا من قوم كافرين، بيننا وبينهم ميثاق، أو كان من قوم كافرين ليس بيننا وبينهم ميثاق، فإن كان مؤمنا من قوم بيننا وبينهم ميثاق، فعلى القاتل الدية والكفارة، وإلا فالكفارة دون دية، والكفارة إما عتق رقبة، أو صيام شهرين متتابعين، تلك توبة القاتل خطا.
أما الذي يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه الخلود في نار جهنم، واستحقاق غضب الله، ولعنته وعذابه الأليم الشديد، ثم يأتي مقطع جديد مرتبط بالمقطع السابق بشكل عام، وبدايته مرتبطة بما قبلها مباشرة وسنرى ذلك.
المعنى الحرفي
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ الحذر والحذر واحد، والحذر التحرز، وأخذ حذره إذا تيقظ واحترز من المخوف، كأنه جعل الحذر آلته التي يقي بها نفسه، ويعصم بها
روحه، والمعنى: كونوا دائما حذرين، متحرزين، متيقظين من عدوكم وعلى عدوكم. فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً الثبات: واحدها ثبة، وهي الجماعة،
وكلمة جميعا هنا حال، والمراد مجتمعين، فالأمر الثاني بالنفير العام، والنفر: الخروج للعدو. والمعني: فاخرجوا إلى قتال العدو، جماعات متفرقة سرية بعد سرية، وجماعة بعد جماعة، عصابة بعد عصابة أو اخرجوا مجتمعين، فهو أمر بالقتال، إما بالخروج المجزأ، وإما بالنفير العام، حسب مقتضيات الأحوال. ويدخل في الأمر بالقتال ثُباتٍ القتال على طريقة حرب العصابات، حتى إن ابن كثير فسر ثبات فقال:
أي عصبا. ففي الآية أمران، أمر بالحذر، وأمر بالقتال، والأمر بالقتال على حسب مقتضيات الأحوال. والمهم ألا يترك المسلمون القتال في سبيل الله على قدر ما يلزم، وبحسب ما يمكن. وسنرى في هذا المقطع أن بأس الكافرين لا ينكف عنا إلا بالقتال، ولو بقتال فردي، فما أكثر غفلة المسلمين حين تركوا القتال حتى تغلب الكافرون على أرضهم، وسيطر المرتدون على بلادهم، فذلوا ببلادهم لعدوهم، وطمع بهم كل طامع. وإذا لم يعودوا إلى دينهم بإحياء فريضة القتال على قدر المستطاع، فلن تكون كلمة الله هي العليا لا في أقطارهم، ولا في العالم، وهذا الذي ورد في الحديث «إذا تبايعتم بالعينة، ورضيتم بالزرع، وتركتم جهادكم، سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم» . فكأن ميزان الرجوع إلى الإسلام هو الجهاد
وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ، أي: وإن منكم أيها المسلمين لمن أقسم جازما ليتثاقلن، وليتخلفن عن الجهاد، وقد عرفنا القسم من وجود اللام في قوله تعالى:
لَيُبَطِّئَنَّ، وقوله تعالى مِنْكُمْ. أي: من المسلمين، أي في الظاهر دون الباطن وهم المنافقون، ويحتمل أن يكون من المسلمين أنفسهم، ولكن ممن اختلت تصوراتهم، وكثر جهلهم، وفسد تقديرهم للأمور، ونظروا للأمور كلها من خلال مصلحتهم الذاتية، ومنفعتهم الخاصة. ويحتمل أن يكون المراد أنه يتباطأ هو في نفسه، ويبطئ غيره عن الجهاد، كما كان عبد الله بن أبي بن سلول- قبحه الله- يفعل، يتأخر عن الجهاد، ويثبط الناس عن الخروج فيه، وهذا قول ابن جريج، وابن جرير، وقد يفعل هذا الذي يفعله المنافقون كثير من بسطاء المسلمين ممن لا يصدرون في أحكامهم عن شرع، أو فتوى، وإنما يصدرون أحكامهم بناء على ما يتصورونه مصلحة لأنفسهم، أو لناس من المسلمين، وهم بهذا يقتلون أنفسهم، ويقتلون المسلمين، وهم وإن لم يكونوا منافقين نفاق عقيدة، فإن عملهم هذا يستحقون به دخول النار، لجرأتهم على تعطيل فريضة الله، وعلى الفتوى بغير علم. والذي قلناه في كون من لا يتصف بنفاق العقيدة قد يقف نفس الموقف، بناء على أن كثيرين من الناس
قد يصابون بأمراض المنافقين أو الكافرين ويتخلقون بأخلاقهم، وإن لم يكن ثمة كفر أو نفاق، ولكنه الفسوق والمرض والانحراف فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ كقتل أو هزيمة أو كارثة قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً. أي: قال هذا المبطئ قد أنعم الله علي إذ لم أكن مع المسلمين الذين شهدوا القتال حاضرا، فيصيبني مثل ما أصابهم، يعد عدم حضوره مع المسلمين وقعة القتال، يعد ذلك من نعم الله عليه، ولم يدر ما فاته من الأجر في الصبر أو الشهادة إن قتل
وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ.
أي: من فتح أو نصر أو غنيمة لَيَقُولَنَّ. أي: هذا المبطئ متلهفا على ما فاته من الغنيمة، لا طلبا للمثوبة كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ. أي: كأنه لم يتقدم له معكم مودة، لأن المنافقين كانوا يوادون المؤمنين في الظاهر، وإن كانوا يبغون لهم الغوائل في الباطن. قال ابن كثير في تفسيرها: كأنه ليس من أهل دينكم. يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً. أي: يا ليتني كنت معهم فآخذ من الغنيمة حظا وافرا، فهذا أكبر قصده وغاية مراده، أن يضرب له بسهم مما ينال المسلمون من خير.
هذا هو منطق هؤلاء، وتصورهم، ينظرون إلى الأمور من خلال مصلحتهم ومنفعتهم لا من خلال أداء ما أوجب الله عليهم، ويقيسون الأمور بمقياس الربح والخسارة الدنيويين لا بمقياس طاعة الله، ومعرفتهم بالله قاصرة، إذ يتصورون أن تخلفهم عن الواجب مع نجاتهم من المصائب دليل رضى الله. وإذا أصاب المسلمين مصيبة وهم يقومون بواجبهم يعتبرون ذلك علامة خطأ ابتداء وانتهاء ناسين أن المسلمين الذين يصابون، على فرض أنهم أصيبوا نتيجة خطأ، فإن إصابتهم تكفر عنهم سيئاتهم، وفي قيامهم بالواجب أسقطوا فرض الله عنهم، وهؤلاء المثبطون والمتباطئون لم يفعلوا هذا وهذا. وإذ بين الله- عز وجل حقيقة هذه النوعية من الناس الذي موقفها ترك القتال، والتثبيط عنه، يصدر الله- عز وجل أمره التالي:
فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ يحتمل النص معنيين على حسب ما تفسر به كلمة الشراء، لأنها من كلمات الأضداد في اللغة العربية، تطلق على البيع والشراء بآن واحد، ويحدد ذلك السياق. فعلى أن المعنى المراد بها البيع يكون المعنى: فليقاتل المؤمنون الذين يستحبون الحياة الآجلة على العاجلة، ويستبدلونها بها.
فليقاتل هؤلاء في سبيل الله فلئن صد الذين مرضت قلوبهم وضعفت نياتهم عن القتال، فليقاتل الثابتون المخلصون. وأما معنى النص على أن المراد الشراء فيكون: فليقاتل هؤلاء
المنافقون الذين يشترون الحياة الدنيا بالآخرة. فعلى هذا فإن النص يكون وعظا لمن ذكروا في الآية السابقة من أجل أن يغيروا ما بهم من النفاق، ويخلصوا الإيمان بالله ورسوله، ويجاهدون في سبيل الله حق جهاده، فذلك هو الدواء لنفاقهم، والأول أقوى. ثم يبين الله- عز وجل ما أعد لمن قاتل في سبيله وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً. أي: كل من قاتل في سبيل الله، سواء قتل أو غلب، فله عند الله مثوبة عظيمة، وأجر جزيل، كما ثبت في الصحيحين:
«وتكفل الله للمجاهد في سبيله إن توفاه أن يدخله الجنة، أو يرجعه سالما مع أجر أو غنيمة» . قال النسفي: وعد الله المقاتل في سبيل الله ظافرا، أو مظفورا به إيتاء الأجر العظيم على اجتهاده في إعزاز دين الله.
وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. أي:
وأي شئ لكم تاركين القتال، وقد ظهرت دواعيه، وهذا الاستفهام فيه معنى التنبيه على الاستبطاء إن قاتلنا، والإنكار إن لم نقاتل. ثم قال: وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ. إذا اعتبرنا أن الواو في قوله تعالى وَالْمُسْتَضْعَفِينَ للعطف، يكون المعنى: وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله، وفي خلاص الْمُسْتَضْعَفِينَ ....
وإذا اعتبرناها للاستئناف كان المعنى: وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله، واختص من سبيل الله خلاص المستضعفين من المستضعفين، لأن سبيل الله عام في كل خير، وخلاص المسلمين من أيدي الكفار من أعظم الخير وأخصه، ولكل عصر مستضعفوه، وما أكثر المستضعفين في عصرنا، وما أقل قتالنا. والمستضعفون ساعة نزول الآية هم الذين أسلموا بمكة، وصدهم المشركون عن الهجرة، فبقوا بين أظهرهم مستذلين مستضعفين، يلقون من المشركين الأذى الشديد، وذكر الولدان تسجيل لإفراط ظلمهم، حيث بلغ أذاهم الولدان غير المكلفين، إرغاما لآبائهم وأمهاتهم، وفي عصرنا يفتن صغار المسلمين عن دينهم في مدارسهم، وفي غير ذلك بألوف الوسائل، فهل يعقل المسلمون، ويقاتلون لإسقاط الأنظمة الكافرة بالطرق التي تمكنهم منها وسائل عصرنا؟. ثم وصف الله حال هؤلاء المستضعفين الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها القرية الظالم أهلها يوم نزول الآية هي مكة، والوصف يصدق على كل حالة مشابهة. وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يتولى أمرنا ويستنقذنا من أعدائنا، وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً ينصرنا على أعدائنا، فهم يدعون الله بالخلاص ويستنصرونه، أقول: إذا توجه مثل هذا الخطاب وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ من أجل المستضعفين لرسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة وهم ما هم؟ في القيام بأمر الله، فماذا يقال لجيلنا الذي
ترك القتال فذل المسلمون في كل مكان. فهل من قتال لإنقاذ المستضعفين من جديد
ثم ذكر الله- عز وجل الفارق بين قتال المؤمنين وقتال الكافرين فقال: الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ. أي: المؤمنون يقاتلون طاعة لله تعالى، وفي الطريق التي شرعها، والكافرون يقاتلون طاعة للشيطان، وفي طريقه المعوجة التي يضل بها. وكل قتال غير قتال المسلمين هذا شأنه، وهذا ترغيب للمؤمنين في القتال، لأنه ما دام في سبيل الله فالله وليهم وناصرهم. ثم هيج الله المؤمنين على قتال أعدائه فقال فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ. أي: أنصاره وهم الكفار بأصنافهم ومنهم المرتدون. إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ. أي: وساوسه، والكيد: هو السعي في فساد الحال، على جهة الاحتيال. كانَ ضَعِيفاً لأنه غرور لا يؤول إلى محصول، ولأن كيده في مقابلة نصر الله ضعيف .. وفي هذا تجريء للمسلمين على القتال، إذ ما دام الشيطان هو ولي الكافرين، وهذا شأن كيده، وما دام الله هو ولي المؤمنين، وتعالى شأنه، فكيف لا يجرؤ المؤمنون على الكافرين. وفي كل زمان يوجد من يخشى القتال، حتى من المؤمنين، وفي جيلنا يوجد من يتصور أن الإسلام مجرد صلاة وزكاة، أما أن يكون الإسلام قتالا فلا، وفي جيلنا يوجد من يتصور أن التقوى في الصلاة والزكاة، وكلها تصورات فاسدة، يطهر الله عباده المسلمين المتقين منها بالآيات التالية:
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ كان ذلك في ابتداء الإسلام إذ كان المسلمون مأمورين بالصلاة ومواساة المحتاج منهم، والعفو والصفح وترك القتال، وكانوا وهم في مكة يتمنون أن يؤذن لهم بالقتال.
فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ. أي: فرض عليهم وأمروا به، وذلك بعد إذ كانوا في المدينة. إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ. أي: يخافون أن يقاتلهم الكفار كما يخافون أن ينزل الله عليهم بأسه، لا شكا في الدين ولا رغبة عنه، ولكن نفورا عن المخاطرة بالأرواح، وخوفا من الموت.
كانوا يودون القتال، فلما أمروا به جزع بعضهم منه، وخافوا من مواجهة الناس خوفا شديدا. قال الشيخ أبو منصور الماتريدي: هذه خشية طبع، لا أن ذلك منهم كراهة لحكم الله وأمره اعتقادا، فالمرء مجبول على كراهة ما فيه خوف هلاكه غالبا.
دلت الآية على أن هناك ناسا خشية الله عندهم لا يعدلها شئ بدليل تشبيه خشية هؤلاء من الناس بخشية من يخشى الله. ومن المعلوم أن المشبه به أقوى من المشبه، فالآية تعني أن هذا الفريق الذي خشي الناس إذ أمر بالقتال قد خشي الناس مثل أهل خشية الله، أي
مشبهين لأهل خشية الله. أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً. أي: أو أشد خشية من أهل خشية الله. وأو في الآية للتخيير، أي إن قلت خشيتهم الناس كخشية الله، فأنت مصيب، وإن قلت إنها أشد فأنت مصيب، لأنه حصل مثلها وزيادة. ولا يعني هذا أن خشية الله عند أهلها ليست على كمالها حتى يكون عليها مزيد، بل إن خشية الله عند أهلها يرافقها معرفة بجمال الله وفضله، ولذلك فإن الخشية يرافقها عادة رجاء، أما هؤلاء فإن خشيتهم من الناس أعمت قلوبهم حتى لم يبق معها محل لغيرها، ولذلك زادت على خشية الله. وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ.
سألوا عن وجه الحكمة في فرض القتال عليهم، لا اعتراضا لحكمه بدليل أنهم أجيبوا على سؤالهم بما يأتي. وبدليل أنهم اقترحوا أن يؤخر فرضه عليهم إلى مدة أخرى. لقد طلبوا التأجيل ولو إلى أمد قريب، رغبة في الحياة، وتجنبا لسفك الدماء، ويتم الأولاد وتئيم النساء. وهي حالة مرضية، عالجها الله تعالى، بلفت النظر إلى حقيقة الحياة الدنيا، وإلى حقيقة الموت. قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى. أي:
متاع الدنيا قليل زائل. ومتاع الآخرة دائم، والكثير إذا كان على شرف الزوال فهو قليل. فكيف بالقليل الزائل. وقيد كون الآخرة خيرا للمتقين لأنهم هم الذين في حقهم
الآخرة خير من الدنيا أما الكافرون، فإن الآخرة شر لهم من الأولى. وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا. هذا النص في سياقه يعني: أنكم لا تنقصون أدنى شئ من أجوركم على مشاق القتل، فلا ترغبوا عنه.
أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ. أي: أنتم صائرون إلى الموت.
والموت واصل إليكم. والحذر لا ينجي من القدر. وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ.
أي: الموت يصل إليكم، ولو كنتم في حصون أو قصور حصينة، منيعة، عالية، رفيعة.
وبهاتين القضيتين، تعالج كراهية القتال، وحب الحياة: معرفة حقيقة الدنيا بالنسبة للآخرة. ومعرفة أن الموت لا يتقدم، ولا يتأخر. ثم ذكر الله- عز وجل مرضا آخر، وقع فيه هؤلاء الطالبون لتأخير فريضة القتال وهو مرض يصيب الكثيرين خاصة في حالات الصراع مع أهل الكفر عند ما يصاب أهل الإيمان، وكل من المرضين يمكن أن يصاب به المسلمون في كل زمان ومكان. وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ. أي: نعمة من خصب ورخاء. يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وهي كذلك. ولا اعتراض على هذا. ولكن الاعتراض على ما بعده. وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ. أي: بلية من قحط
وشدة. يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ أي: أضافوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نزول الآية، وفي كل عصر يمكن أن ينسبها أمثالهم إلى وراثه صلى الله عليه وسلم والمعنى أن هؤلاء يعتبرون ما هم فيه من خير من الله، وهذا صحيح. وما يصيبهم من شدة، يعتبرون ذلك شؤما سببه رسول الله صلى الله عليه وسلم، والجواب: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. أي: كل ذلك من عند الله. فهو يبسط الأرزاق، ويقبضها. وكل شئ فعله. ثم أنكر الله- عز وجل عليهم اعتقادهم هذا بقوله: فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً. أي:
لا يكادون يفهمون حديثا، فيعلمون أن الله هو الباسط، القابض. وكل ذلك صادر عن حكمه.
ثم بين الله- عز وجل تفصيل هذا الموضوع، بما يجمع ما بين معرفة الواقع: أن كل شئ صادر عن الله وبفعله، وأن لنزول المصائب التي ينزلها بعباده أسبابا مع أن الكل فعله. ولكن فعله لا يكون إلا مقرونا بالحكمة. فقال تعالى: ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ. أي: من نعمة، وإحسان فَمِنَ اللَّهِ. تفضلا منه، وامتنانا. إذ لا أحد له عليه شئ. وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ. أي: من بلية ومصيبة، فَمِنْ نَفْسِكَ. أي: فمن عندك أي: فبما كسبت يداك أيها الإنسان. ومن هنا عرفنا خطأ أولئك. فبدلا من أن يرجعوا إلى الله رجوعا عاما، عن معاصيهم، ليرفع الله عنهم بأسه، أرجعوا سبب المصائب إلى وجود رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو المعصوم وهو الرحمة.
ولذلك ختمت هذه الآية بقوله تعالى: وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا: فأنت رحمة، وأنت معصوم، وأنت مبلغ، وعليهم أن يتركوا ما هم عليه مما يخالف رسالتك، لينالوا بر الله، وفضله، لا أن يعصوك، ثم يحملوك مسئولية ما ينزل عليهم. وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً. أي: على أنه أرسلك وهو شهيد أيضا، بينك، وبينهم. وعالم بما يكلفهم إياه. وبما يردون عليك من الحق؛ كفرا، وعنادا. وما أقل الفاهمين عن الله. وما أكثر المتقولين على الله. ولعلنا لا نحتاج إلى أي إيضاح إضافي حول ارتباط هذا المعنى الأخير بسياق مقطع القتال هذا. إذ من يقود المسلمين في صراعهم، وقتالهم، كثيرا ما ينسب إليه الذين في قلوبهم مرض مسئولية ما يصيبهم. وقد لا يكون هو السبب، وقد يكون أحيانا. ونحن نتكلم عن من يقود المسلمين قيادة راشدة، كوارث لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي هذا السياق- سياق القتال- يأتي الآن حديث عن الطاعة. ونحن نعلم أن كل من كتب في فن الحرب، من كافر، أو مسلم يجمع على أن أي جيش في العالم، لا يستطيع أن يربح معركة، ولا تستطيع أمة أن تربح في أي مجال من مجالات الحياة، إلا
بانضباط، وطاعة. ونحن المسلمين مكلفون بالطاعة بشرط أن تكون الطاعة مبصرة، ولأهلها. ومن ثم تأتي الآيات الثلاث القادمة مقررة ومعالجة ومبينة.
مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ
…
: وذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يأمر ولا ينهى إلا بما أمر الله به ونهى عنه، فكانت طاعته في أوامره ونواهيه طاعة لله، ومن أدرك هذه الحقيقة، أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم منتهى الطاعة، وكان في غاية الانضباط، وهذا ما كان، وهذا مظهر من مظاهر المعجزة التي خلقها الله على يد رسوله صلى الله عليه وسلم في أمة العرب، وقد أدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الطاعة التي تعني طاعة الله في النهاية، طاعة الأمراء كما ثبت في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم: «من أطاعني فقد أطاع الله. ومن عصاني، فقد عصى الله.
ومن أطاع الأمير، فقد أطاعني. ومن عصى الأمير وهناك- رواية يقول: ومن عصى أميري- فقد عصاني». والملاحظ في هذا الحديث على إحدى رواياته، أنه أطلق لفظ الأمير. والمراد به الأمير المسلم، المؤمر بالحق والسائر بالحق والقائم بالحق، وأول من يدخل في ذلك، أمراء رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأمراء الخلافة الراشدة. وَمَنْ تَوَلَّى.
أي: ومن أعرض عن الطاعة: فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً. أي: فما أرسلناك عليهم تحفظ أعمالهم؛ وتحاسبهم عليها وتعاقبهم. بل أمر ذلك إلى الله، وفي ذلك تهديد لمن أعرض عن الطاعة.
ثم أخبر تعالى عن حال المنافقين من كونهم يظهرون الموافقة والطاعة. ويبيتون الخلاف، والعصيان. وَيَقُولُونَ طاعَةٌ. أي: ويقول المنافقون إذا أمرتهم بشيء: أمرنا وشأننا طاعة. فَإِذا بَرَزُوا. أي: خرجوا.
مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ. بيت: بمعنى: زور وسوى من البيتوتة، لأنه قضاء الأمر وتدبيره بالليل. والمعنى: زور طائفة منهم في أنفسهم خلاف ما قلت
وما أمرت به، أو خلاف ما قالت، وما ضمنت من الطاعة، لأنهم أبطنوا الرد لا القبول، والعصيان لا الطاعة، وإنما ينافقون بما يقولون ويظهرون. وَاللَّهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ. أي: والله يثبت ما بيتوه في صحائف أعمالهم ويجازيهم عليه فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ. أي: فتول عنهم وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ في شأنهم، فإن الله يكفيك مضرتهم، وينتقم لك منهم، ويتولى أمرهم وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا كافيا لمن توكل عليه. أمره في مقابل عملهم أن يجمع بين التوكل عليه، والإعراض عنهم،
ثم بين علة مرضهم، وهو عدم التدبر لكتاب الله. وهذا يعني أنه بقدر ما تربى الأمة على التدبر لكتاب الله، ينمو الانضباط الصحيح، والطاعة المبصرة. أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ. أي: أفلا يتأملون معانيه ومبانيه. والتدبر: التأمل والنظر في أدبار الأمر