الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
اليوم التالي لأحد، إذ استنفرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم للحاق العدو فنفروا على ما بهم من جراح وضعف، مستجيبين لله ورسوله، إذ بلغهم جمع المشركين لهم، بغية أن يستأصلوهم، فلم يكن منهم إلا أن قالوا: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، فأكرمهم الله بأن كف أيدي الناس عنهم. ثم بين الله- عز وجل أن الشيطان يخوف المؤمنين من أوليائه، بأن يوهمهم بأسهم، وحذرنا الله أن نطيع الشيطان، وأمرنا أن نخافه وحده، ثم نهى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يحزن على من يسارع في الكفر؛ محقرا له كيدهم، مبينا أنهم هم الخاسرون، ثم ختم هذه الفقرة بتبيان أن الذين يبيعون الإيمان بالكفر لا يضرون الله بل يضرون أنفسهم باستحقاقهم عذاب الله.
أعطتنا هذه الفقرة التصور الصحيح عن وضع الشهداء، وبينت لنا خلقا من أخلاق الإيمان، من حيث متابعة أهله للجهاد في كل الظروف، ومن حيث استعصاء أهله على الحرب النفسية، ثم بينت لنا قاعدة: وهي أن الشيطان يحاول تخويفنا من أعداء الله، وحذرتنا من الوقوع في شباكه، ثم جاء نهي، وقاعدة لها علاقة بالمنافقين والمرتدين.
كلمة حول السياق:
يلاحظ أن في هذه الفقرة نهيين موجهين لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهما للأمة كلها. النهي الأول: نهي عن تصور أن الشهداء أموات، والنهي الثاني: نهي عن الحزن على من كفر بعد إيمان، والصلة بين هذا وبداية المقطع السابق عليه واضحة، إذ في بداية المقطع السابق نهي عن أن نكون كالذين كفروا في تصوراتهم حول موضوع الموت والقتل، وهو موضوع يكفر بسببه من يكفر بعد إيمان، ومن ثم كان النهي الأخير له علاقة بهذا الموضوع. والفقرة كما هي مرتبطة بقسمها في سياقه الخاص، فهي مرتبطة بالسياق القرآني العام إذ هي توضيح لقضايا إيمانية وكفرية ونفاقية، وهو السياق العام لسورة آل عمران المرتبطة بمقدمة سورة البقرة وامتداداتها.
المعنى الحرفي:
وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً الخطاب مباشرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو خطاب لكل أحد بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ. أي: بل هم أحياء عند ربهم، مقربون عنده، ذوو زلفى، يرزقون مثل ما يرزق سائر الأحياء، يأكلون ويشربون. وذكر الرزق بعد ذكر الحياة تأكيد لكونهم أحياء، ووصف لحالهم التي هم
عليها من التنعم برزق الله. وشرط هذه الحال: أن يكون القتل في سبيل الله، أي: من أجل أن تكون كلمة الله هي العليا كما قال عليه السلام: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله» .
ثم وصف الله- عز وجل حالهم في حياتهم ورزقهم:
فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ من توفيقه لهم للشهادة، وما ساق إليهم من الكرامة والتفضيل على غيرهم من كونهم أحياء مقربين، معجلا لهم رزق الجنة ونعيمها، وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ. أي: ويستبشرون بإخوانهم المجاهدين الذين لم يقتلوا بعد فيلحقوا بهم. بل بقوا خلفهم يتابعون جهادهم.
أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. أي: لا يخافون مما أمامهم، ولا يحزنون على ما تركوه وراءهم. فهم فرحون لأنفسهم، فرحون لإخوانهم الذين من ورائهم، وإنما استبشروا لإخوانهم بتبشير الله لهم. وفي ذكر الشهداء واستبشارهم بمن خلفهم بعث للباقين بعدهم على الجد في الجهاد، والرغبة في نيل منازل الشهداء.
فكأنها قالت للباقين: إن إخوانكم الذين سبقوكم وجدوا خيرا، فلم يحزنوا على فائت ورأوا ما سرهم فالحقوهم يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ. أي: يسرون بثلاثة أمور: بما أنعم الله عليهم، وبما تفضل الله عليهم من زيادة الكرامة، وبسرورهم بإعطاء الله المؤمنين أجورهم كاملة موفرة. هذا حال من قتل يوم أحد. ويأتي الآن وصف من بقي: فإذا نقلنا الآيات إلى العموم المعتاد، إذ القاعدة أن خصوص السبب لا يمنع عموم اللفظ، نعرف أن ما ذكر لكل شهيد، وأن ما يأتي هو حال المؤمنين في كل زمان. وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هم النماذج العليا في هذا الباب. ولنذكر سبب النزول مقدمة لتفسير الآيات اللاحقة ليعين ذلك على الفهم.
لما أصاب المشركون ما أصابوا يوم أحد، كروا راجعين إلى بلادهم، فلما استمروا في سيرهم ندموا لم لم يستأصلوا المسلمين. فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ندب المسلمين إلى الذهاب وراءهم ليرعبهم، ويريهم أن بهم قوة وجلدا، ولم يأذن لأحد إلا لمن حضر الوقعة يوم أحد سوى جابر بن عبد الله لما سنذكره، فنهض المسلمون على ما بهم من الجراح والإثخان؛ طاعة لله- عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم. وكان يوم أحد يوم السبت النصف من شوال، وكان انتداب المسلمين للخروج يوم الأحد لست عشرة ليلة من شوال. فكانت استجابتهم الرائعة بعد كل ما أصابهم هو الموقف الأروع الذي
سجله الله لهم. ومجموع ما له علاقة بهذا هو الذي يذكر في السيرة تحت عنوان غزوة حمراء الأسد. فلنذكر الآيات مع ذكر النص المباشر قبلها.
وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ.
الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ. أي: من بعد ما أصابهم الجراح، فالقرح: هو الجرح. لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ في الآخرة. وقوله تعالى (منهم): للتبيين لا للتبعيض، لأن كل من استجابوا لله والرسول محسنون متقون رضي الله عنهم.
هذه صفة أولى من صفات الإيمان، الاستجابة لداعي الجهاد في كل الظروف والأحوال.
ثم تأتي الصفة الثانية. الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ: هم ركب من عبد القيس، كلفهم أبو سفيان أن يقولوا للمسلمين في حمراء الأسد، أنهم قد أجمعوا المسير إلى المسلمين لاستئصالهم، ووعدهم أن يجعل لهم في مقابل ذلك شيئا عينه لهم، وهذا ما سجلته الآية. إِنَّ النَّاسَ أي: أبا سفيان ومن معه، قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ. أي: فخافوهم. فَزادَهُمْ إِيماناً. أي: فزادهم هذا القول بصيرة ويقينا. وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. أي: يكفينا أن الله ولينا وحده فنتكل عليه، ونعم الموكل هو. هذه صفة ثانية من صفات أهل الإيمان؛ أنهم إذا ادلهمت الأمور عليهم ازدادوا توكلا على الله، وإيمانا به. والله عند حسن ظن عباده به، فكان من أمر المشركين يومها، أن قذف الله في قلوبهم الرعب، وفروا بعد أن كانوا يفكرون في الهجوم، واستئصال المسلمين كما سنرى في قسم الفوائد، وكفى الله المؤمنين شرهم، وسجل ربنا ذلك؛ ليمن به على المسلمين مريا إياهم أنه عند حسن ظن عباده به.
فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ أما النعمة: فهي السلامة، وأما الفضل: فهو فرار الكافرين، وعودة الهيبة للمؤمنين، ورجوع الروح المعنوية للمسلمين وغير ذلك. لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ. أي: لم يلقوا ما يسوءهم من كيد العدو. وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ باستجابتهم لله والرسول، وجرأتهم، وخروجهم، وحسن توكلهم، واستعصائهم على ما يسمى في اصطلاحنا الحديث الحرب النفسية. وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ على عباده وأوليائه في الدنيا وفي الآخرة. والآن يأتي دور أخذ الدروس مما حدث.
إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ. أي: إنما ذلكم الشيطان يخوفكم أولياءه، ويوهمكم أنهم ذوو بأس وشدة، فلننتبه إلى هذا التفسير، وهو الوجه الوحيد الذي ذكره ابن كثير؛ إذ قدر