الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
في الصدور، ويعرف ما في القلوب على الحقيقة في لحظات المحن، فهي محك الإيمان.
وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أي بخفياتها وما يختلج فيها من السرائر والضمائر. ثم بين الله- عز وجل علة ما حدث، وهو المعاصي التي كان يواقعها من يواقعها منهم.
مما يدل على أن الطاعة قبل المعركة والتوبة قبل المعركة، عاملان من عوامل الثبات فيها فقال:
إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ أي: إن الذين انهزموا منكم- دل ذلك على أن محمدا والصفوة لم ينهزموا- يوم التقى جمع المسلمين بجمع المشركين يوم أحد.
إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا أي: إنما دعاهم الشيطان إلى الزلة، وحملهم عليها ببعض ذنوبهم السالفة، وهل المراد بذلك ذنب من عصى يوم المعركة بتركه مركزه في القتال، أو المراد ذنوب قبل ذلك،
قولان للمفسرين: قال بعض السلف: «إن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها، وإن من جزاء السيئة السيئة بعدها» والإضافة إلى الشيطان لطف وتقريب، والتعليل بكسبهم وعظ وتأديب، ثم بشرهم الله- عز وجل بالعفو فقال: وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ أي ولقد تجاوز عنهم عما كان منهم من الفرار فهو يغفر الذنوب، حليم لا يعاجل بالعقوبة، حليم بخلقه، ويتجاوز عنهم.
كلمة حول السياق:
رأينا أن سورة آل عمران فيها تفصيل لما أجمل في مقدمة سورة البقرة، وتحديد للعلاقة بين أهل الإيمان والتقوى، وبين غيرهم. وفي هذا المقطع حدد الله- عز وجل أنه لا يصح أن يعطي أهل الإيمان الطاعة لأهل الكفر، ووعد فيه أهل الإيمان بالنصر، ومن خلال ما حصل يوم أحد علم أن الوعد مشروط، وبين المقطع من خلال ما حدث يوم أحد، كيف يستقبل أهل الإيمان؛ وأهل النفاق ما يمتحن الله به عباده.
فالمقطع إذن أعطانا تفصيلات عن حال أهل الإيمان في المحن، وحال أهل النفاق فيها، وأعطى أهل الإيمان دروسا فيما ينبغي أن يكونوا عليه، وأدبهم على ألا يعطوا
الطاعة لأهل الكفر، وهدم المقطع كل سبب يمكن أن يتوهمه مسلم لإعطاء هذه الطاعة.
فوائد:
لقد حدثت هزيمة يوم أحد، ومنع المسلمون النصر والغلبة، ولكن الصفحات التي
سجلوها يوم أحد تعتبر أروع صفحات في تاريخ البطولات الإسلامية على الإطلاق، وفي السيرة والسنة بيان ذلك. وننقل هنا بعض النقول في الحدود التي تلقي أضواء على المقطع الذي ذكرناه.
1 -
روى البخاري عن البراء قال: لقينا المشركين يومئذ- يوم أحد- وأجلس النبي صلى الله عليه وسلم جيشا من الرماة، وأمر عليهم عبد الله بن جبير وقال: لا تبرحوا، إن رأيتمونا ظهرنا عليهم فلا تبرحوا، وإن رأيتموهم ظهروا علينا فلا تعينونا، فلما لقيناهم هربوا حتى رأيت النساء يشتددن في الجبل، رفعن عن سوقهن قد بدت خلاخلهن، فأخذوا يقولون الغنيمة الغنيمة، فقال عبد الله بن جبير: عهد إلي النبي صلى الله عليه وسلم أن لا تبرحوا، فأبوا، فلما أبوا صرف وجوههم، فأصيب سبعون قتيلا، فأشرف أبو سفيان فقال: أفي القوم محمد؟ فقال: لا تجيبوه، فقال: أفي القوم ابن أبي قحافة؟
قال: لا تجيبوه. فقال: أفي القوم ابن الخطاب؟ فقال: إن هؤلاء قتلوا، فلو كانوا أحياء لأجابوا، فلم يملك عمر رضى الله عنه- نفسه فقال له: كذبت يا عدو الله، أبقى الله لك ما يحزنك. قال أبو سفيان: اعل هبل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أجيبوه، قالوا: ما نقول؟ قال: قولوا الله أعلى وأجل، قال أبو سفيان: لنا العزى ولا عزى لكم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أجيبوه، قالوا: ما نقول؟ قال: قولوا الله مولانا ولا مولى لكم. قال أبو سفيان: يوم بيوم بدر والحرب سجال. وستجدون مثلة لم آمر بها ولم تسؤني.
وروى الإمام أحمد عن البراء قوله: فلم يبق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا اثنا عشر رجلا، فأصابوا منا سبعين.
2 -
ثبت في الصحيحين عن أبي عثمان النهدي قال: لم يبق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض تلك الأيام التي قاتل فيهن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا طلحة بن عبيد الله وسعد
وفي الصحيحين عن سعد قال: رأيت يوم أحد عن يمين النبي صلى الله عليه وسلم وعن يساره رجلين عليهما ثياب بيض يقاتلان عنه أشد القتال ما رأيتهما من قبل ذلك اليوم ولا بعده، يعني جبريل وميكائيل.
وروى مسلم عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد يوم أحد في سبعة من الأنصار، واثنين من قريش، فلما أرهقوه قال: من يردهم عنا وله الجنة- أو وهو رفيقي في الجنة-؟. فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل، ثم أرهقوه أيضا فقال: من
يردهم عنا وله الجنة؟ فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل، فلم يزل كذلك حتى قتل السبعة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أنصفنا أصحابنا» وروى أبو داود الطيالسي عن عائشة قالت: كان أبو بكر إذا ذكر يوم أحد قال: ذاك يوم كله لطلحة ثم أنشأ يحدث قال: كنت أول من فاء يوم أحد، فرأيت رجلا يقاتل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم دونه، وأراه قال: حمية، فقلت: كن طلحة حيث فاتني ما فاتني، فقلت يكون رجلا من قومي أحب إلي، وبيني وبين المشركين رجل لا أعرفه، وأنا أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منه، وهو يخطف المشي خطفا لا أعرفه، فإذا هو أبو عبيدة بن الجراح، فانتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد كسرت رباعيته، وشج في وجهه، وقد دخل في وجنته حلقتان من حلق المغفر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عليكما صاحبكما، يريد طلحة. وقد نزف فلم نلتفت إلى قوله: وذهبت لأنزع ذلك من وجهه، فقال أبو عبيدة: أقسمت عليك بحقي لما تركتني، فتركته، فكره أن يتناولها بيده فيؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأزم عليها بفيه، فاستخرج إحدى الحلقتين، ووقعت ثنيته مع الحلقة، وذهبت لأصنع ما صنع فقال:
أقسمت عليك بحقي لما تركتني قال: ففعل مثل ما فعل في المرة الأولى، ووقعت ثنيته الأخرى مع الحلقة، فكان أبو عبيدة من أحسن الناس هتما، فأصلحنا من شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أتينا طلحة في بعض تلك الحفار، فإذا به بضع وسبعون، أو أقل، أو أكثر، من طعنة، ورمية، وضربة، وإذا قد قطعت إصبعه، فأصلحنا من شأنه.
3 -
أخرج البخاري عن أنس بن مالك «أن عمه يعني أنس بن النضر- غاب عن بدر فقال: غبت عن أول قتال النبي صلى الله عليه وسلم. لئن أشهدني الله مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليرين الله ما أجد. فلقي يوم أحد فهزم الناس، فقال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء- يعني المسلمين- وأبرأ إليك مما جاء به المشركون، فتقدم بسيفه فلقي سعد بن معاذ فقال: أين يا سعد إني أجد ريح الجنة دون أحد، فمضى فقتل، فما عرف حتى عرفته أخته بشامته أو ببنانه وبه بضع وثمانون، من طعنة، وضربة، ورمية سهم.
4 -
وما دامت السورة تعطينا دروس أحد، فقد يكون من المناسب أن نذكر هذه الرواية:
روى ابن إسحاق. وجماعة عن ابن شهاب. ومحمد بن يحيى. والحصين بن عبد الرحمن. وغيرهم، وكل قد حدث بعض الحديث: «أنه لما أصيب يوم بدر من كفار قريش أصحاب القليب، ورجع فلهم إلى مكة، ورجع أبو سفيان بن حرب بعيره،
مشى عبد الله بن أبي ربيعة، وعكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أمية في رجال من قريش ممن أصيبت آباؤهم، وأبناؤهم، وإخوانهم يوم بدر، فكلموا أبا سفيان، ومن كانت له في تلك العير من قريش تجارة، فقالوا: يا معشر قريش إن محمدا قد وتركم وقتل خياركم، فأعينونا بهذا المال على حربه لعلنا ندرك به ثأرنا بمن أصاب منا، ففعلوا، فاجتمعت قريش لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرجت بحدها وحديدها، وأحابيشها ومن تابعها من بني كنانة وأهل تهامة، وخرجوا معهم بالظعن
التماس الحفيظة، وأن لا يفروا، وخرج أبو سفيان وهو قائد الناس بهند بنت عتبة، وخرج آخرون بنساء أيضا، فأقبلوا حتى نزلوا بعينين بجبل ببطن السبخة من قناة على شفير الوادي مقابل المدينة، فلما سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون قد نزلوا حيث نزلوا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني رأيت بقرا تنحر، ورأيت في ذباب سيفي ثلما، ورأيت أني أدخلت يدي في درع حصينة، فأولتها المدينة فإن رأيتم أن تقيموا بالمدينة، وندعوهم حيث نزلوا فإن أقاموا أقاموا بشر مقام، وإن هم دخلوا علينا قاتلناهم فيها، وكان رأي عبد الله بن أبي بن سلول مع رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى رأيه في ذلك أن لا يخرج إليهم، وكان صلى الله عليه وسلم يكره الخروج فقال رجال من المسلمين ممن أكرمه الله تعالى بالشهادة يوم أحد، وغيرهم ممن كان فاته يوم بدر: اخرج بنا يا رسول الله إلى أعدائنا لا يرون أنا جبنا عنهم وضعفنا، فقال عبد الله بن أبي بن سلول: يا رسول الله أقم بالمدينة، لا تخرج إليهم؛ فو الله ما خرجنا منها إلى عدو لنا قط إلا أصاب منا، ولا دخل علينا إلا أصبنا منه، فدعهم يا رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن أقاموا أقاموا بشر محبس، وإن دخلوا قاتلهم الرجال في وجوههم، ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من فوقهم، وإن رجعوا رجعوا خائبين كما جاءوا، فلم يزل الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم الذين كان من أمرهم حب لقاء القوم حتى دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فلبس لأمة حربه وذلك يوم الجمعة حين فرغ من الصلاة، ثم خرج عليهم، وتلاوم الناس وقالوا: استكرهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكن لنا ذلك، فإن شئت فاقعد صلى الله تعالى عليك وسلم فقال: «ما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل، فخرج صلى الله عليه وسلم بألف من أصحابه وقد وعدهم الفتح إن يصبروا، واستعمل ابن أم مكتوم على الصلاة بالناس، حتى إذا كان بالشوط بين المدينة وأحد، انخذل عنه عبد الله بن أبي بثلث الناس، وقال: أطاعهم وعصاني، وما ندري علام نقتل أنفسنا هاهنا أيها الناس، فرجع بمن تبعه من قومه من أهل النفاق والريب، واتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام أخو بني سلمة يقول: يا قوم أذكركم الله تعالى أن
تخذلوا قومكم ونبيكم عند ما حضر من عدوهم قال: لو نعلم أنكم تقاتلون لما أسلمناكم، ولكنا لا نرى أنه يكون قتال، فلما استعصوا عليه وأبوا إلا الانصراف قال: أبعدكم الله تعالى أعداء الله، فسيغني الله تعالى عنكم نبيه صلى الله عليه وسلم، ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سلك في حرة بني حارثة، فذب فرس بذنبه فأصاب كلاب سيف فاستله، فقال صلى الله عليه وسلم وكان يحب الفأل لصاحب السيف: شم سيفك فإني أرى السيوف تسل اليوم، ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل الشعب من أحد من عدوة الوادي إلى الجبل، فجعل ظهره وعسكره إلى أحد، وقال: لا يقاتل أحد حتى نأمره بالقتال وتعبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم للقتال ومشى على رجليه، وجعل يصف أصحابه فكأنما يقوم بهم القدح إن رأي صدرا خارجا قال: تأخر وهو في سبعمائة رجل وأمر على الرماة عبد الله بن جبير، وهو معلم يومئذ بثياب بيض، وكانوا خمسين رجلا وقال:
انضح الخيل عنا بالنبل، ولا يأتونا من خلفنا، إن كان علينا أو لنا فاثبت مكانك لا نؤتين من قبلك، وظاهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين درعين، ودفع اللواء إلى مصعب بن عمير، وتعبأت قريش وهم ثلاثة آلاف، فيهم مائتا فرس قد جنبوها، ووقع القتال وكان ذلك يوم السبت للنصف من شوال سنة- ثلاث من الهجرة- وكان ما كان».
5 -
بمناسبة قوله تعالى وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ يقول صاحب الظلال:
والتمحيص درجة بعد الفرز والتمييز، التمحيص عملية تتم في داخل النفس، وفي مكنون الضمير .. إنها عملية كشف لمكنونات الشخصية، وتسليط الضوء على هذه المكنونات. تمهيدا لإخراج الدخل والدغل والأوشاب، وتركها نقية واضحة مستقرة على الحق، بلا غبش ولا ضباب .. وكثيرا ما يجهل الإنسان نفسه، ومخابئها ودروبها ومنحنياتها. وكثيرا ما يجهل حقيقة ضعفها وقوتها، وحقيقة ما استكن فيها من رواسب، لا تظهر إلا بمثير!.
وفي هذا التمحيص الذي يتولاه الله- سبحانه- بمداولة الأيام بين الناس بين الشدة والرخاء، يعلم المؤمنون من أنفسهم ما لم يكونوا يعلمونه قبل هذا المحك المرير: محك الأحداث والتجارب والمواقف العملية الواقعية.
ولقد يظن الإنسان في نفسه القدرة، والشجاعة، والتجرد، والخلاص من الشح، والحرص .. ثم إذا هو يكشف- على ضوء التجربة العملية وفي مواجهة الأحداث الواقعية- أن في نفسه عقابيل لم تمحص. وأنه لم يتهيأ لمثل هذا المستوى من الضغوط!