الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بتبيان ما فيه الخسارة، وانتهى بتبيان ما فيه الفلاح، ودلنا فيما بين ذلك على ما يوضح قضية الخسران، وعلى ما به يتوصل إلى الفلاح. وقضية الفلاح والخسارة، واضحتان في مقدمة سورة البقرة، فالصلة بين القسم ومقدمة سورة البقرة واضحة.
مما حدث يوم أحد أن تكشفت نقاط الضعف عند المؤمنين، وخفايا ما في قلوب المنافقين، سواء في ذلك ما حدث قبل المعركة أو بعدها، ومن خلال الواقع هذا المحس حرر الله- عز وجل المسلمين من أخلاق الكافرين والمنافقين، ورفعهم إلى ما ينبغي لهم من كمالات إيمانية، مذكرا لهم بالنعم، مذكرا لهم بالرعاية، مذكرا لهم بسننه، كاشفا لهم عن خفايا قلوب الكافرين والمنافقين، من خلال ما يلمسونه، منبها لهم على ما سيواجهونه، معلما إياهم كيف يتعاملون مع آياته، وما يفعلون للوصول إلى جناته، محتقرين ما عليه الكافرون، عارفين لأهل الفضل فضلهم، وكل ذلك في سياق النهي عن طاعة الكافرين، ووجوب الصبر، والمصابرة، والمرابطة، والتقوى، أي: في بداية المقطع وخاتمته. وصلة ذلك كله بمحور سورة آل عمران من البقرة لا تخفى، فمقدمة سورة البقرة وصفت المتقين والكافرين والمنافقين، وهاهنا يأتي مزيد تفصيل وبيان من خلال الواقع والحدث، تعمق قضية المفاصلة بين المسلمين والكافرين والمنافقين، وتميز الصف الإسلامي.
كلمة أخيرة في سورة آل عمران:
مر معنا الحديث «اقرءوا الزهراوين البقرة وآل عمران، فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان، أو كأنهما غيايتان، أو كأنهما فرقان من طير صواف يحاجان عن أهلهما يوم القيامة» . وعرفنا عن سورة البقرة، وسنعرف عنها ما ندرك به مصداق قوله عليه الصلاة والسلام فيها «إن كادت لتستحصي الدين كله» .
فكل المعاني القرآنية تنبثق عن معان أجملت فيها، وسورة آل عمران تفصل في الأصل الذي تتفرع عنه الأشياء. فإذا كانت مقدمة سورة البقرة فصلت في التقوى والكفر والنفاق، فإن سورة آل عمران فصلت في مقدمة سورة البقرة. ومعرفة قضية الكفر والنفاق والتقوى هي التي عنها تتفرع كل الأمور الأخرى. ومقدمة الشئ تشير إلى مضمونه، ومن ثم فإن المعاني التي جاءت في سورة البقرة كلها مرتبطة بالمقدمة بشكل ما، فمثلا جاءت آيات الإنفاق في أواخر السورة وهي تفصيل لقوله تعالى في المقدمة: وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ. وجاء قوله تعالى: آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ
مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ في خاتمة السورة، وهي تفصيل لقوله تعالى: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ في المقدمة. وجاء حوار طويل مع أهل الكتاب، وذلك مرتبط بقوله تعالى في مقدمة البقرة. وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ. ولقد جاءت سورة آل عمران تفصل في مقدمة سورة البقرة، وامتدادات معانيها الأكثر لصوقا بمضمونها المباشر. فكان محلها بالنسبة لسورة البقرة أنها وإياها الزهراوان المضيئتان للإنسان الطريق، فمن لم يعرف سورة البقرة وآل عمران فإنه يفوته علم كثير، وفهم غزير.
- لقد اقتضى السياق الخاص لسورة البقرة أن يكون ترتيب معانيها على ما هو عليه، ولكن المقدمة تحتاج معانيها إلى بيان، وتفصيل خاص، ومن ثم جاءت سورة آل عمران لتشد المعاني المبثوثة في سورة البقرة، مما يحتاجه تفصيل مقدمتها إلى معاني المقدمة وتكون سورة آل عمران هي التفصيل والعرض لذلك كله.
- اقتضت حكمة الله أن يجعل الكلام عن حياة الله وقيوميته بين آيات الإنفاق في سورة البقرة. وجاء الكلام عن الاهتداء بالقرآن لحكمة في مقدمة سورة البقرة.
وجاءت سورة آل عمران لتبين أن مقتضى اتصاف الله- عز وجل بالقيومية، أن ينزل الكتاب. وهكذا فصلت المعاني المرتبطة بمقدمة سورة البقرة، وربطت ببعضها، وأعطيت مداها في سورة آل عمران ضمن سياق خاص فمثلا:
- قرر النسخ في سورة البقرة ولم يأتنا مثال عليه، وجاء عليه مثال في سورة آل عمران.
- بعد أن ذكر الله عز وجل آياته في الكون إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ
…
في سورة البقرة قال إن في ذلك لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وفي سورة آل عمران جاء التفصيل فيمن هم أصحاب العقول:
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ. الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ ....
- وفي الكلام عن بني إسرائيل في سورة البقرة عرفنا أن أهل الكتاب نسبوا لله
الولد، وجاءت سورة آل عمران لتحدثنا عن تفصيلات قصة عيسى عليه السلام، وهكذا قل في أمور كثيرة رأيناها أثناء عرض السورة.
- في قضية الاهتداء بالكتاب فصلت سورة آل عمران، فعرفنا أن الاهتداء الكامل بالكتاب هو لأولي الألباب، وعرفنا من هم أولو الألباب في السورة، وعرفنا أن الاهتداء بالكتاب يدخل فيه التسليم للمتشابه، والعمل بالمحكم.
وفي قضية الإيمان بالغيب عرفنا أن كل ما أخبرنا الله- عز وجل عنه من أمور الماضين يدخل في الإيمان بالغيب.
وفي قضية الإيمان بالكتاب كله، هذا الكتاب الذي أنزل علينا، والكتاب الذي أنزل من قبل عرفنا تفصيل ذلك: قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا.
وفي قضية الإيمان بالآخرة زادنا الله تفصيلا في سورة آل عمران، وفي موضوع الكفر والكافرين، والنفاق والمنافقين زادتنا سورة آل عمران تفصيلا.
وفي أن هذا كله دين الله، وأن دين الله هو الإسلام، وأن الله لا يقبل غيره، فصلت السورة. وفي طبيعة العلاقة التي ينبغي أن تكون بين المسلمين وغيرهم، فصلت السورة، وفيما تتحقق به التقوى، ويتم به الفلاح فصلت السورة، وكل ذلك له صلة بمقدمة سورة البقرة. ولئن فصلت سورة آل عمران في مقدمة سورة البقرة، وامتدادات معانيها، فإن سورة النساء ستفصل في الآيات الأولى من المقطع الأول الذي يأتي بعد مقدمة سورة البقرة.
وكما أنه بعد مقدمة سورة البقرة يأتي نداء لكل الناس.
يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ.
فإن سورة النساء تبدأ بقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً
…
فلننتقل إلى سورة النساء.