الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
انتهاكه؛ فإن الله سيصليه نارا، وأن إصلاءه هذه النار ليس صعبا على الله. وفي هذا تهديد شديد، ووعيد أكيد. فليحذر منه كل عاقل لبيب.
وفى الآية الثالثة، قعد الله- عز وجل قاعدة وهي: أننا إذا اجتنبنا الكبائر؛ غفر الله لنا الصغائر؛ وأدخلنا باجتناب الكبائر جنته، وقد فهم من ذلك من فهم- كما سنرى إن شاء الله- أن ما ذكر فى المحرمات فيما مضى من سورة النساء قبل هذه القاعدة كبائر يجب اجتنابها.
وفي الآية الرابعة نهى الله الرجال أن يتمنوا ما خص به النساء، ونهى النساء أن يتمنين ما خص به الرجال، ومن ذلك: ما خص به النساء في الإرث، وما خص به الرجال في الإرث، وأن كلا من الرجال والنساء، مجزي على عمله ونيته بما يستحقه، وأمر الله الجميع رجالا، ونساء أن يسألوه من فضله. فإنه كريم وهاب.
وختم الله الآية، بالإعلام أنه بكل شئ عليم. وهي في هذا المقام تفيد أنه إن خص الرجال بشيء فبعلم، وإن خص النساء فبعلم، وإن أعطى فبعلم، وإن جازى فبعلم، وإن سئل فإنه يعلم؛ وبعلم يعطي.
وبمناسبة الكلام عن عدم أكل أموال الناس بالباطل، وعدم تمني ما فضل الله به بعض الناس على بعض، وعدم تمني النساء ما للرجال، والعكس، تأتي القاعدة: أن لكل من الرجال، والنساء جعل الله ورثة، يرثون ما تركه الوالدان والأقربون، مما هو مقرر في وصية الإرث، ويذكر الله هنا صورة تسمى عند فقهاء الحنفية ومن وافقهم- والتي يعتبرها غيرهم منسوخة- بعقد مولى الموالاة: وهو الرجل من غير العرب إذا أسلم وليس له وارث معروف، فيتعاقد مع عربي أن يرثه العربي المسلم إذا لم يكن وارث أحق، ويعقل عنه العربي إذا جنى أي جناية تستوجب العقل، فهؤلاء الذين عقدوا هذا العقد يورثون من مواليهم إذا لم تكن قرابة أولى كما رأينا، فههنا وعلى هذا الفهم للآية يأمر الله- عز وجل في هذا السياق أن يعطى هؤلاء نصيبهم من التركة، ويذكرنا الله- عز وجل بأنه الشهيد على كل شئ. ويفيد هذا المعنى في هذا السياق: أن الله شاهد على عقودكم ففوا بها.
المعنى الحرفي:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ. أي: لا تأكلوا أموالكم
بينكم بما لم تبحه الشريعة من نحو السرقة، والخيانة، والغصب، والقمار، وعقود الربا. إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ. أي: إلا أن تكون التجارة تجارة صادرة عن تراض منكم، ومظهر التراضي: العقد. وهل التعاطي يدل على التراضي؟ قولان للفقهاء. أجازه الحنفية، ومنعه الشافعية، وفرق بعضهم في جوازه بين الخسيس والنفيس، وخصت التجارة بالذكر، لأن أسباب الرزق أكثرها متعلق بها، قال النسفي- من الحنفية-: والآية تدل على جواز البيع بالتعاطي، وعلى جواز البيع الموقوف إذا وجدت الإجازة لوجود الرضا، وعلى نفي خيار المجلس؛ لأن فيها إباحة الأكل بالتجارة عن تراض من غير تقييد بالتفرق عن مكان العقد. وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ. ذكر النسفي في تفسير هذا النهي خمسة معان كلها محرم. الأول:
ولا تقتلوا من كان من جنسكم من المؤمنين؛ لأن المؤمنين كنفس واحدة، الثاني، أي:
لا يقتلن أحدكم نفسه. أي: لا ينتحر. الثالث، أي: لا تقتلوا أنفسكم بظلم بعضكم بعضا في موضوع الأموال فظالم غيره كمهلك نفسه. الرابع: لا تتبعوا أهواءها فتقتلوها. الخامس، أي: لا ترتكبوا ما يوجب القتل إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً ولرحمته نبهكم على ما فيه صيانة أموالكم، وبقاء أبدانكم، ومن مظاهر رحمته بكم أيتها الأمة المسلمة: أن الله أمر بني إسرائيل بقتلهم أنفسهم؛ ليكون ذلك توبة لهم، وتمحيصا لخطاياهم، وكان بكم يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم رحيما حيث لم يكلفكم تلك التكاليف الصعبة. بل نهاكم عنها.
وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ. أي: القتل. عُدْواناً وَظُلْماً. أي: لا خطأ، ولا قصاصا. فصار المعنى: ومن يقدم على قتل الأنفس المؤمنة، لا خطأ، ولا قصاصا. فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً. أي: فسوف ندخله نارا مخصوصة، شديدة العذاب. وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً. أي: وكان إصلاؤه النار على الله سهلا. قال النسفي: وهذا الوعيد في حق المستحل للتخليد، وفي حق غيره لبيان استحقاقه دخول النار مع وعد الله بمغفرته.
إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ. أي: إذا اجتنبتم كبائر الآثام التي نهيتم عنها كفرنا عنكم صغائر الذنوب. وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيماً. أي: مدخلا حسنا. أي الجنة.
قال النسفي: «وتشبث المعتزلة بالآية على أن الصغائر واجبة المغفرة باجتناب الكبائر، وعلى أن الكبائر غير مغفورة، باطل؛ لأن الكبائر والصغائر في مشيئته تعالى سواء، إن شاء عذب عليهما، وإن شاء عفا عنهما لقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ* فقد وعد المغفرة لما دون الشرك وقرنها بمشيئته تعالى
وقوله تعالى: إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ فهذه الآية تدل على أن الصغائر والكبائر يجوز أن يذهبا بالحسنات لأن لفظ السيئات يطلق عليهما» وقد فهم ابن مسعود من السياق أن الكبائر هي ما ذكرت في سورة النساء سابقة لهذه الآية.
وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ. هذا نهي من الله- عز وجل أن يتمنى الرجال ما فضل به النساء، أو أن تتمنى النساء ما فضل به الرجال، ونهي من الله أن يتمنى الناس ما فضل الله به بعضهم على بعض. وقد جاء هذا في سياق النهي عن أكل أموال الناس بالباطل، والنهي عن قتل الأنفس. فإذا عرفنا أن تمني ما فضل الله به بعض الناس على بعض، وتمني ما فضل الله به الرجال على النساء هو مرض العصر، وأساس الكثير من مذاهبه، وعنه تصدر بعض المذاهب الضالة، إذا عرفنا ذلك أدركنا بعض مظاهر الإعجاز في هذا القرآن. والصلة بين هذه الآية وسياقها واضحة، فصلتها بما قبلها من حيث إن أخذ مال الغير بالباطل، وقتل النفس بغير حق، له صلة بتمني مال الغير وجاهه، فنهاهم الله عن تمني ما فضل الله به بعض الناس على بعض، من الجاه، والمال؛ لأن ذلك التفضيل قسمة من الله، صادرة عن حكمة، وتدبير، وعلم بأحوال العباد، وبما ينبغي لكل من بسط له في الرزق أو قبض، فعلى كل واحد أن يرضى بما قسم له، ولا يحسد أخاه على حظه، فالحسد: أن يتمنى كون ذلك الشئ له ويزول عن صاحبه، والغبطة: أن يتمنى مثل ما لغيره، وهو مرخص فيه والأول منهي عنه، وهذا كله مقيد بما إذا كان كل إنسان قائما بحق الله في ماله وعمله، أما إذا لم يقم بحق الله تعالى فالأمر عندئذ له أحكامه، وعلى الدولة، والإمام أن يتدخلا لإقامة أمر الله في موضوع الأموال وغيرها. وأما صلة هذه الآية بما بعدها فمن حيث إن الله سيذكر بعد آية قوله: الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ فكانت هذه الآية مقدمة لتلك، ومخالفة النهي الموجود في هذه الآية هو رأس الأسباب التي أوصلت كثيرا من نساء المسلمين، وبناتهم إلى الردة، والفجور، والفسوق. وبداية هذا الاتجاه كانت في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن ثم نزلت هذه الآية تعالج هذا الأمر كما سنرى في الفوائد إن شاء الله لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ. أي: كل له جزاء عمله بحسبه، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، أي لكل من الرجال والنساء كسبه الذي سيجزيه الله عليه فيما كلفه الله به، فعلام يتمنى أحد ما فضل به الآخر ما دام نجاح كل واحد في امتحانه عليه مدار جزائه ومكافأته، فليهتم الرجال بما كلفوا به، ولتهتم النساء بما كلفن به، وليهتم الجميع بما كلفوا به، وعوضا عن أن يتمنى أحد ما لأحد قال