الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لذكر الله. فلا يشغل لسانه بغيره.
تفسير الفقرة الثانية:
وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ هذا معطوف على بداية الفقرة الأولى إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ
…
وهذا يؤكد أن الفقرة هذه قد جاءت في سياق التبيان لحكمة الله في الاصطفاء؛ بدليل العطف هنا، وذكر الاصطفاء صراحة. وفي الآية إخبار عما خاطبت به الملائكة مريم عليها السلام عن أمر الله لهم بذلك، أن الله قد اختارها
لكثرة عبادتها وزهادتها وشرفها وَطَهَّرَكِ مما يستقذر من الأفعال والأحوال والأقوال، والأكدار، والهواجس، والوساوس وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ بما سيكرمها الله- عز وجل به من رزقها عيسى من غير أب، ولم يكن ذلك لأحد من النساء. ثم إن الملائكة أمروها بكثرة العبادة، والخشوع والركوع والسجود، والدأب في العمل؛ لما يريد الله بها من الأمر الذي قدره لها وقضاه، مما فيه محنة لها، ورفعة في الدارين؛ بما أظهره الله فيها من قدرته العظيمة حيث خلق منها ولدا من غير أب
يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ القنوت: هو الطاعة في خشوع وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ أي: كوني منهم بفعل فعلهم.
ذلِكَ إشارة إلى ما سبق من قصة أم مريم، ومريم، وزكريا وزوجته مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ أي:
من أخبار الغيوب التي لم تعرفها إلا بالوحي، وذلك دليل على ما ذكرنا أن هذه الفقرات إنما هي صفحات من الغيوب التي يجب الإيمان بها، فهي تفصيل لما أجمل في مقدمة سورة البقرة، في قوله تعالى الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ. وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ. نفهم من ذلك ما أجمل من قبل، فنعلم أن مريم لم تدخل في كفالة زكريا إلا بعد قرعة وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ. نفهم من ذلك أنه كان هناك نزاع حول كفالة مريم، والأقلام: هي الأقداح التي تمت فيها القرعة.
فوائد:
1 -
نلاحظ أن هذه الفقرة مترابطة مع ما قبلها بأكثر من رباط، ومن جملة ما نلاحظه، أن الفقرة الأولى أسست لهذه الفقرة، إذ إن هذه الفقرة ستقص علينا قصة الحمل بعيسى من غير أب، فمهدت الفقرة السابقة لذلك بقصها علينا قصة حمل أم
يحيى بيحيى، وهي عاقر، مع ذكرها قصة ولادة مريم، وابتهال أمها، ثم قصة صلاحها وطهارتها، وما أكرمها الله به. وكل ذلك يجعل الاستعداد كاملا لتلقي نبأ الحمل بعيسى من غير أب.
فالأولى من الفقرات تقص علينا قصة حمل عاقر، والثانية تقص علينا قصة حمل من غير أب، والفقرة الثالثة تذكرنا بخلق بلا أب ولا أم، وتأتي قصة عيسى في الوسط.
2 -
لاحظنا في هذه الفقرة خطاب الملائكة لمريم، ومريم- بنص القرآن- صديقة، فهي ليست نبية، ولا تكون النبوة إلا في الرجال كما سنرى، فدل ذلك على أنه يمكن لغير الأنبياء أن يخاطبوا من قبل الملائكة، أو يكشف لهم شئ من عالم الغيب من باب الكرامات، ويشهد لهذا كثير من النصوص الصحيحة، مما نتعرض له إذا جاءت مناسبته. وفي هذا النص دليل أيما دليل على صحة هذا. ومن أقبل على الله بالسنة، فتح الله عليه إن شاء. وقد قال عليه الصلاة والسلام لأبي بكر وحنظلة في الحديث الذى رواه مسلم:«لو تدومون على ما أنتم عليه عندي وفي الذكر؛ لصافحتكم الملائكة» .
3 -
في الصحيحين عن علي بن أبي طالب قال: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «خير نسائها مريم بنت عمران، وخير نسائها خديجة بنت خويلد» المعنى:
خير نساء بني إسرائيل مريم، وخير نساء هذه الأمة خديجة. وروى الترمذي وصححه عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«حسبك من نساء العالمين مريم بنت عمران، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، وآسية امرأة فرعون» وأخرج الجماعة إلا أبا داود، عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران، وآسية امرأة فرعون» . أي: من الأمم السابقة والله أعلم. ولفظ البخاري: «ويكمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون، ومريم بنت عمران، وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام» .
4 -
في قوله تعالى ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ أي نقصه عليك وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ أي: ما كنت عندهم يا محمد، فتخبرهم عن معاينة عما جرى، بل أطلعك الله على ذلك؛ كأنك حاضر وشاهد لما كان من أمرهم حين اقترعوا
في شأن مريم، أيهم يكفلها، وذلك لرغبتهم في الأجر.
في هذا الموضوع مظهر من مظاهر الإعجاز في القرآن، إذ حدثنا القرآن عن كثير من الأمور الماضية، مما لا يعرفها العرب إطلاقا، وعلى غاية من الدقة، بما لا يمكن أن يكون لو لم يكن هذا القرآن من عند الله المحيط علما بكل شئ.
إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ مبشرة مريم يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ أي بولد يكون وجوده بكلمة من الله، أي يقول له: كن فيكون اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ هذا اسمه الذي يعرفه به المؤمنون. وفي قوله ابن مريم إعلام لها بإنه يولد من غير أب، فلا ينسب إلا إلى أمه، وفي ذلك شرف لها وبشارة. واختلفوا لماذا سمي المسيح؟ فقيل: لأنه إذا مسح ذا عاهة برأ، وقيل: لكثرة سياحته فلا يستوطن مكانا، وقيل: معناه في العبرانية المبارك وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ أي: ذا جاه وقدر في الدنيا بالنبوة والطاعة، وفي الآخرة بعلو الدرجة والشفاعة. وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ عند الله.
وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا أي: يدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له. في حال صغره معجزة وآية، وفي حال كهولته حين يوحي الله إليه، فهو يكلم الناس في هاتين الحالتين كلام الأنبياء من غير تفاوت بين حال الطفولة وحال الكهولة التي يكمل فيها العقل، وينبأ فيها الأنبياء وَمِنَ الصَّالِحِينَ أي: في قوله وعمله، له علم صحيح، وعمل صحيح.
فلما سمعت بشارة الملائكة لها بذلك عن الله قالَتْ مناجية ربها: رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ تقول متعجبة متهيبة:
كيف يوجد هذا الولد مني وأنا لست بذات زوج، ولا من عزمي أن أتزوج، ولست بغيا؟؟ فقال لها الملك عن الله- عز وجل في جواب ذلك السؤال قالَ كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ أي: هكذا أمر الله عظيم لا يعجزه شئ، وصرح هاهنا بقوله يَخْلُقُ ما يَشاءُ وفي قصة زكريا يَفْعَلُ ما يَشاءُ صرح بلفظ الخلق لئلا يبقى لمبطل شبهة، وأكد ذلك
بقوله إِذا قَضى أَمْراً أي إذا قدره فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ أي: فلا يتأخر شئ أراد خلقه. والتعبير بلفظة كن، إخبار عن سرعة تكون الأشياء بتكوينه،
ثم أخبر عن تمام بشارة الملائكة لمريم بابنها عيسى عليهما السلام وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ يحتمل هنا الكتابة، أو كتب الله أو ما افترضه الله من المكتوبات على الخلق وَالْحِكْمَةَ أي: وضع الأمور في مواضعها على ضوء الحلال والحرام وَالتَّوْراةَ التي
أنزلت على موسى عليه السلام وَالْإِنْجِيلَ الذي سينزله الله عليه
وَرَسُولًا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أي: ونجعله رسولا إلى بني إسرائيل فهو مرسل إليهم خاصة قائلا لهم: أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أي: بعلامة خارقة، ودلالة تدل على صدقي فيما أدعيه من النبوة وهي:
أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وكذلك يفعل، يصور من الطين شكل طير ثم ينفخ فيه فيطير عيانا بإذن الله- عز وجل الذي جعل هذا معجزة له تدل على أنه أرسله. وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ أي: الذي ولد أعمى، يجعله بصيرا وَالْأَبْرَصَ أي: ويبرئ الأبرص وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ كررت الكلمة بإذن الله على لسان عيسى لتعلم عبوديته، ولدفع أي توهم بربوبيته وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ أي: وأخبركم بما أكل أحدكم الآن وما ادخر في بيته لغده. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ أي: على صدقي فيما جئتكم به إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بالله وأفعاله وآياته
وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ أي مقررا لها ومثبتا. أي قد جئتكم بآية، وجئتكم مصدقا للتوراة وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ في شريعة موسى، وفيه دلالة على أن عيسى عليه السلام نسخ بعض شريعة التوراة. وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أي: بحجة ودلالة على صدقي فيما أقوله لكم، وكرر للتأكيد. فَاتَّقُوا اللَّهَ في تكذيبي وخلافي وَأَطِيعُونِ في أمري.
إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أي: أنا وأنتم سواء في العبودية لله، والخضوع والاستكانة إليه. وهذا إعلان للعبودية، ونفي للربوبية عن نفسه، بخلاف ما يزعم النصارى. هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ أي: إعلان العبودية لله، وإعطاؤه الربوبية، وحسن عبادته، هذا هو الصراط المستقيم الذي يؤدي بصاحبه إلى النعيم المقيم. جاء هذا كله في معرض البشارة لمريم بعيسى،
ثم نقلنا الله- عز وجل إلى موقف قوم عيسى منه، وموقفه بسبب ذلك. فكأنه قال: هذا الذي بشرت به مريم، في شأن ابنها كان، فماذا حدث إذ كان؟ حدث أن قابل اليهود هذا كله بالكفر. فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ فلما علم من اليهود كفرا، علما لا شبهة فيه، كعلم ما يدرك بالحواس، أو فلما استشعر منهم التصميم على الكفر، والاستمرار على الضلال، قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ الأنصار جمع نصير وناصر، أي من ينصرني في الدعوة إلى الله؟ قالَ الْحَوارِيُّونَ: نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ الحواري هو صفوة الرجل وخاصته، أي قال له صفوة أصحابه: نحن أعوان دين الله آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ أي: صدقنا بالله ونطلب شهادتك على إسلامنا، وإنما طلبوا
شهادته بإسلامهم تأكيدا لإيمانهم؛ لأن الرسل يشهدون يوم القيامة لقومهم، وعليهم.
والملاحظ أنهم أعلنوا الإيمان، وطلبوا الشهادة على الإسلام، فدل على أن الإيمان الكامل، والإسلام الكامل شئ واحد.
وبعد أن قالوا هذا لعيسى، قالوا لله مقرين وداعين رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ أي بالإنجيل وما قبله وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ أي عيسى فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ أي: مع الأنبياء الذين يشهدون لأممهم، أو مع الذين يشهدون لك بالوحدانية، أو مع أمة محمد صلى الله عليه وسلم الذي بشر به عيسى فعرفوا منه أنهم (أي أمة محمد) شهداء الله على الناس، فطلبوا أن يشاركوهم في هذا الشرف.
والتفسير الأخير مروي بسند جيد عن ابن عباس.
وَمَكَرُوا أي: كفار بني إسرائيل الذين أحس عيسى منهم الكفر حتى أرادوا قتله وصلبه وَمَكَرَ اللَّهُ أي: جازاهم على مكرهم؛ بأن رفع عيسى إلى السماء، وألقى شبهه على من أراد اغتياله حتى قتل. ولا يجوز إضافة المكر إلى الله تعالى إلا على معنى الجزاء، لأنه مذموم عند الخلق، وعلى هذا الخداع والاستهزاء وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ أي: أقوى المجازين، وأقدرهم على العقاب من حيث لا يشعر المعاقب.