الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الآية والسياق أن في الآية إشارة نأخذها من السياق وهي: أنه إذا ظهرت بادرة أخلاقية من عدونا فينبغي أن نقابلها بمثلها، أو بأحسن منها، والله أعلم.
فوائد:
1 -
يستثنى من عموم الآية في الرد بالمثل أو بالأحسن غير المسلم. ففي صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام، وإذا لقيتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه» . وفي الصحيحين عنه عليه الصلاة والسلام «إذا سلم عليكم اليهود فإنما يقول أحدهم: السام عليكم، فقل: وعليكم» نفهم من هذا أن ابتداء غير المسلم بالسلام في الأصل لا يجوز، أما الرد فيجب ولكن ب (وعليكم) فقط. قال ابن عباس: من سلم عليك من خلق الله فاردد عليه وإن كان مجوسيا، ذلك بأن الله يقول: فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها. واستثنى الحنفية من حالة عدم الجواز في البداءة لغير المسلم في السلام، حالة ما إذا كان للمسلم حاجة، فيصح له البداءة بالسلام للذمي، (راجع الهدية العلائية ص 260). أقول: يبدو أن الأوزاعي يعتبر أن الأوامر بمنع الابتداء بالسلام للذمي والتضييق عليه في الطريق أوامر يومية يقتضيها ظرف معين، ولذلك يجيز الابتداء بالسلام للذمي.
2 -
روى ابن جرير عن سلمان الفارسي قال: «جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال:
السلام عليك يا رسول الله، فقال: «وعليك السلام ورحمة الله، ثم جاء آخر فقال:
السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم وعليك السلام ورحمة الله وبركاته، ثم جاء آخر فقال: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته. فقال له:
وعليك، فقال الرجل: يا نبي الله بأبي أنت وأمي، أتاك فلان وفلان فسلما عليك فرددت عليهما، أكثر مما رددت علي، فقال: إنك لم تدع لنا شيئا، قال الله تعالى:
وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها فرددناها عليك».
قال ابن كثير: وفي هذا الحديث دلالة على أنه لا زيادة في السلام على هذه الصفة، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، إذ لو شرع أكثر من ذلك لزاده رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال النسفي: ويقال: لكل شئ منتهى، ومنتهى السلام، وبركاته. وروي من طرق في أكثر من كتاب من كتب الحديث «أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
«السلام عليكم يا رسول الله، فرد عليه ثم جلس فقال: عشر، ثم جاء آخر فقال:
السلام عليكم ورحمة الله يا رسول الله، فرد عليه ثم جلس، فقال: عشرون. ثم جاء آخر فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فرد عليه ثم جلس، فقال: ثلاثون» رواه أبو داود والترمذي وغيره.
3 -
قال صاحب الهدية العلائية من الحنفية: «ويكره السلام على الفاسق لو معلنا وإلا لا يكره، كما يكره على عاجز على الرد حقيقة كآكل، أو شرعا كمصل، وقارئ، وذاكر، وخطيب، ومن يصغي إليهم، ومكرر فقه، ومن يفصل الأحكام بين الناس حالة الدعوى، وحالة مذاكرة العلم الشرعي، ومؤذن ومقيم، ومدرس، ومن جلس للصلاة والتسبيح، ومن يلبي، والأجنبيات الفتيات، وعلى من يلعب لعبا غير مباح، ومن يغتاب الناس، أو يطير الحمام، والشيخ الممازح، والكذاب، واللاغي، ومن يسب الناس، أو ينظر وجوه الأجنبيات، ما لم نعرف توبتهم، ومن يتمتع مع أهله، ومكشوف عورة، ومن هو في حال قضاء البول، أو التغوط أو ناعس، أو نائم، أو في الحمام، فلا يجب الرد في كل محل لا يشرع فيه السلام، إلا في الفاسق فينبغي وجوب الرد عليه ولا يجب رد سلام الطفل أو السكران، أو المجنون، ولا في قوله «سلام عليكم» «بسكون الميم في سلام» . وقوله سلام الله عليكم دعاء لا تحية
…
يكره إعطاء سائل المسجد إذا تخطى رقاب الناس، أو مر بين يدي المصلين لأنه إعانة على أذى الناس وإلا لا يكره
…
وإن سلم ثانيا في مجلس واحد لا يجب رد الثاني، وقال الحنفية: وينوي بالسلام تجديد عهد الإسلام وأن لا ينال المؤمن بأذى في عرضه وماله. وتتمة أحكام السلام نعرضها في كتابنا- الأساس في السنة وفقهها- ولنرجع إلى السياق:
اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فله الألوهية وحده. لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ هذا قسم منه سبحانه أنه سيجمع الأولين والآخرين في صعيد واحد، فيجازي كل عامل بعمله،
وأن هذا الجمع لا ريب فيه، ولا شك. وسمي يوم القيامة بذلك، لقيام الناس فيه من قبورهم، أو لقيام الناس للحساب وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً هذا استفهام بمعنى النفي، أي لا أحد أصدق منه في إخباره، ووعده، ووعيده، لاستحالة الكذب عليه، لأن الكذب: إخبار عن الشئ بخلاف ما هو عليه، وهو محال في حقه تعالى، وقد جاء هذا النفي بعد الإخبار عن وحدانيته، وبعد القسم على جمعه الناس يوم القيامة، فليلاحظ، فيا ويح من فاته التوحيد، وفاته الإيمان باليوم الآخر.
ومجئ هذه الآية في وسط المقطع الذي موضوعه القتال يذكرنا بالغاية من القتال ويحضنا ويهيجنا عليه.
فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ. أي: فما لكم اختلفتم في شأن قوم قد نافقوا ظاهرا، وتفرقتم فيهم فرقتين، وما لكم لم تقطعوا القول بكفرهم. هذا قول النسفي.
وروى الإمام أحمد عن زيد بن ثابت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى أحد، فرجع ناس، خرجوا معه. فكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم فرقتين. فرقة تقول:
نقتلهم. وفرقة تقول: لا، فأنزل الله: فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنها طيبة، وإنها تنفي الخبث كما تنفي النار خبث الفضة» . وأخرجاه في الصحيحين. فالحكم فيهم القتل والمرجع في ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإن شاء قتل، وإلا ترك إذا وجد مصلحة؛ معاملة لهم بظواهرهم. وإذ كان كذلك فما كان ينبغي، ولا ينبغي أن يفترق المسلمون في الموقف. ومن هذا النص، نفهم أن مواقف المسلمين ينبغي أن تكون واحدة. وكيف لا تكون، والكتاب والسنة موجودان، والشورى مقررة، والقيادة على ضوء ذلك كله تتخذ القرار الملزم. وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أركس هنا بمعنى: أوقع، ورد، وأهلك، وأضل. أي: والله ردهم إلى حكم الكفار بسبب كسبهم السيئ الظاهري والباطني. فعاقبهم الله على ذلك، بردهم إلى الكفر. ومن ثم كان حكمهم جواز القتل. أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ.
أي: أتريدون أن تجعلوا من جملة المهتدين من جعله الله ضالا، فأركسه، وحكم بكفره، وأجاز قتله. وذلك باللين معهم ومسايرتهم. أو المعنى: أتريدون أن تسموهم مهتدين، وقد أظهر الله ضلالهم. فيكون النص إنكارا على وصف المنافقين بالمهتدين والمؤمنين بعد إذ تبين أمرهم. وعلى المعنى الأول: فالنص إنكار على من يريد أن يلين مع المنافقين بعد إذ تبين له نفاقهم الكامل. وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا.
أي: ومن شاء الله إضلاله، بسبب عمله، فلا طريق له إلى الهدى، ولا مخلص له إليه، ويمكن أن يفهم النص فهما آخر. وهو: أن من شاء الله إضلاله، فلن تجد له طريقا ما. بل هو خابط في كل طريق، وعلى غير هدى، فليس له سبيل واضح.
ويكون هذا علامة على المنافق، فمن علاماته، تقلبه، وتناقضه. فهو اليوم على غير ما هو عليه بالأمس، وما يقوله الآن غير ما يقوله وما سيقوله.
وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا. أي: ود هؤلاء المنافقون، لو تكفرون، كفرا مثل كفرهم. فهم يودون الضلالة للمسلمين، ليستووا هم، وإياهم فيها. دل هذا على ما ذكرناه سابقا، أن الفئة
التي لم تر القتل هي الخاطئة المعاتبة في هذه الآيات. فَتَكُونُونَ سَواءً. أي: ودوا كفركم لتكونوا أنتم وهم مستوين في الكفر. فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ. أي: فلا توالوهم حتى يؤمنوا، لأن الهجرة في ابتداء الإسلام كانت هي الإعلان العملي عن الإسلام. لأنها دخول إلى دار الإسلام وموالاة عملية لأهله.
فكأن الله- عز وجل نهانا أن نتخذ منهم أولياء، إلا بعد إعطائهم الولاء الكامل للإسلام، وأهله، وداره قولا، وعملا، والقضية التي تلفت النظر هنا، هي ذكر عدم التولي حتى تكون الهجرة، مع أن السياق في المنافقين، وهم يخالطون المسلمين في المدينة. والجواب على هذا- والله أعلم- هو أن ذكر الهجرة في هذا المقام، أفاد شيئين، الأول: أن غير المهاجر ولو ادعى الإسلام، فإنه ما دام مكثرا لسواد الكافرين، عاملا في ظلهم، منفذا لأوامرهم، فهو منافق، ما لم يكن مستضعفا، مستكرها، وهذا حيث وجبت الهجرة وكانت مستطاعة. والثاني: أن من خالط المسلمين، وعاش في دارهم، فحكمه حكم من لم يهاجر، إذ إنه لم يعط لازم الهجرة، من الولاء والطاعة لأهل الإسلام وداره وقيادته، ولم يعاد أعداء الله ويقطع عنهم الولاء.
فَإِنْ تَوَلَّوْا. أي: فإن أعرضوا عن الإيمان. وقال ابن عباس: أي: تركوا الهجرة. وقال السدي: أي: أظهروا كفرهم. والمعاني الثلاثة، متكاملة في محلها. في النص والسياق، فالمنافق هو الموالي لأهل الكفر في دارهم، أو في دارنا، المعرض عن إعطاء الولاء لله ورسوله والمؤمنين. فهذا جزاؤه القتل. فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً. فههنا أمر، ونهي، في حق هؤلاء المنافقين، أمر بقتلهم حيثما وجدوا، ونهي عن اتخاذهم أولياء، ونصراء. فليفهم هذا الحكم من لم يفهم حتى الآن، أن من أعطى ولاءه للكافرين، والمنافقين، جزاؤه القتل، والإعراض، والرفض. أما أن يتخذ وليا، ونصيرا، وصديقا، وبطانة، ومستودع سر، وأحيانا قائدا فكيف يكون ذلك إلا من جاهل أحمق، أخرق، أو منافق ضال خداع. وإذن فحكم المنافقين في الأصل في وجوب قتلهم حيث كانوا، كحكم المشركين في وجوب قتلهم حيث كانوا ورفض ولايتهم ونصرتهم؛ لأنها كاذبة خادعة، لا تنبع عن صدق وإيمان. وإنما قلنا بوجوب قتل المنافقين في الأصل من حيث إنه كافر مرتد فيجب قتله ولكن لأن المنافق في دار الإسلام له وضعه الخاص فلا يقتل إلا إذا أظهر نفاقه أو أمر الإمام بقتله ببينة. ويحتمل قوله تعالى: وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً. أي: لا تعطوهم نصرتكم، ولا تقبلوا منهم نصرة. وبهذه الآية والتي
قبلها، بين الله- عز وجل الحكم الأصلي في المنافقين، وهو القتل، وعدم إعطائهم النصرة، وعدم قبولها منهم حتى يكونوا مؤمنين حقا، علما وعملا. وبعد أن ذكر الله-
عز وجل الحكم الأصلي في المنافقين، ذكر صورا تدخل تحت هذا الحكم.
وصورا مستثناة من هذا الحكم. فذكر من يستثنى من هذا الحكم في الآية اللاحقة وذكر من يدخل تحت هذا الحكم في الآية التي تليها.
إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ. هذه أول الصور المستثناة من حكم القتل. صورة من لجأ وتميز إلى قوم بينهم وبينكم مهادنة، أو عقد. فإن حكمهم، كحكمهم. كما حدث يوم الحديبية. إذ كان من جملة بنود الصلح، أن من أحب أن يدخل في صلح قريش، وعهدهم دخل ومن أحب أن يدخل في صلح محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه دخل. فيكون المعنى بعد فهم هذه الصورة المستثناة: فاقتلوهم، إلا من اتصل بقوم بينكم وبينهم ميثاق. أي: إلا الذين ينتهون إلى قوم بينكم وبينهم عهد، أو يتصلون بهم. وهناك مثال يذكره النسفي من السيرة على هذا: أن هلال بن عويمر الأسلمي، وادع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل خروجه إلى مكة، على ألا يعينه، ولا يعين عليه، وعلى أن من وصل إلى هلال، والتجأ إليه، فله من الجوار مثل الذي لهلال.» والصورة الثانية من الصور المستثناة من الأمر بالقتل:
أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ. الحصر:
الضيق، والانقباض. والمعنى: واقتلوهم إلا من كان ممسكا عن قتالكم، أو قتال قومه، بسبب ضيق نفسه عن هذا، وهذا. فهؤلاء قوم آخرون، مستثنون من الأمر بالقتال. وهم الذين تضيق صدورهم أن يقاتلوا المسلمين. ولا يستريحوا أن يقاتلوا قومهم معكم. بل هم لا لكم ولا عليكم، وضرب ابن كثير مثالا لهؤلاء فقال: وهؤلاء كالجماعة الذين خرجوا يوم بدر من بني هاشم مع المشركين. فحضروا القتال وهم كارهون، كالعباس، ونحوه. ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل العباس، وأمر بأسره.
وهناك مثال آخر ينطبق على هذه الحالة. وقد ذكره ابن كثير كنموذج للحالة الأولى.
ونراه لهذه الحالة. وهذا هو المثال: أخرج ابن أبي حاتم أن سراقة بن مالك المدلجي قال: لما ظهر النبي صلى الله عليه وسلم على أهل بدر، وأحد. وأسلم من حولهم. قال سراقة بلغني أنه يريد أن يبعث خالد بن الوليد إلى قومي، بني مدلج. فأتيته، فقلت: أنشدك النعمة، فقالوا: صه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم «دعوه. ما تريد؟». قال: بلغني أنك تريد أن تبعث إلى قومي، وأنا أريد أن توادعهم، فإن أسلم قومك أسلموا ودخلوا في
الإسلام، وإن لم يسلموا لم تخشن قلوب قومك عليهم، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيد خالد بن الوليد فقال:«اذهب معه، فافعل ما يريد» . فصالحهم خالد على أن لا يعينوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإن أسلمت قريش، أسلموا معهم
…
».
ونحب أن نشير هنا إلى أن هاتين الصورتين المستثنيتين هنا، إنما تتصوران في المنافقين الموجودين خارج دار الإسلام، أو خارج دولته، والله أعلم. ولنلاحظ أن من لم يربط مصيره بمواقف المسلمين فإن النص يعامله كمنافق.
ثم بين الله- عز وجل المنة، والحكمة في هذا الحكم، وفي وجود هذا الصنف من الناس، فقال: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ. أي: من لطف الله بكم أن كفهم عنكم، وإلا فلو شاء الله لقوى قلوبهم، وأزال عنها الحصر، فقاتلوكم.
ثم أكد الله- عز وجل استثناء الأمر بقتالهم بقوله: فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ. أي: فإن لم يتعرضوا لكم بقتال. وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ. أي:
وأعطوكم السلام والمسالمة. فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا. أي: طريقا إلى القتال. أي: فليس لكم أن تقاتلوهم ما دامت حالهم كذلك.
في هذه الآية ذكر الله- عز وجل حالتين، استثناهما من الأمر بالقتال. وتأتي الآن آية فيها صورة داخلة في الأمر بالقتال. هي من حيث الظاهر، تشبه الصورة الأخيرة الواردة في الآية السابقة. ولكنها تختلف عنها في الحقيقة.
سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ. هؤلاء في الظاهر كما قلنا، يشبهون المذكورين في الآية السابقة. ولكنهم في الواقع غيرهم. فإن هؤلاء قوم منافقون، يظهرون للنبي صلى الله عليه وسلم، ولأصحابه الإسلام، ليأمنوا بذلك عندهم على دمائهم، وأموالهم، وذراريهم.
ويصانعون الكفار في الباطن. فيعبدون معهم ما يعبدون ليأمنوا بذلك عندهم. وهم في الباطن مع الكافرين. فالأولون إذن، مخلصون في موقفهم المحايد. أما هؤلاء، فهم في الحقيقة مع الكافرين، ويتظاهرون أمام المؤمنين بغير ذلك، بدليل تتمة الآية: كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها. أي: إذا ردهم قومهم إلى الافتتان عن الإسلام، بإظهار الشرك، والكفر، يفعلون، وينهمكون، ويزيدون على ذلك أن يصانعوا قومهم، فيؤذوا المسلمين، ويقاتلوهم، ويقتلوهم، قال النسفي: أي كلما دعاهم قومهم إلى قتال المسلمين قلبوا فيها أقبح قلب وأشنعه، وكانوا شرا فيها من كل عدو.
هؤلاء أمر الله- عز وجل المسلمين أن يوقفوهم عند حدهم فقال: فَإِنْ لَمْ
يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ.
أي: حيث وجدتموهم فتمكنتم منهم، وظفرتم بهم فاقتلوهم. ألزمهم بثلاثة أشياء مجتمعة، فإن أدوها كان بها، وإلا فقد أمر بقتلهم. 1 - اعتزال قتال المسلمين 2 - إعطاء الإسلام الكامل، فالسلم هنا الإسلام، والإلقاء يفيد الإعطاء الكامل، وذلك أن هؤلاء أعلنوا الإسلام فهم مطالبون به، وإلا فهم مرتدون حكمهم حكم المرتد. 3 - كف الأيدي عن إيذاء المسلمين. فإذا لم يعطوا هذه الأشياء الثلاثة، فقد أمر الله- عز وجل بقتلهم وقتالهم. وَأُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً. أي: حجة واضحة، إن قاتلتموهم وقتلتموهم، أو تسليطا ظاهرا حيث أذنا لكم في قتلهم.
والسلطان المبين، إنما كان بسبب انكشاف حالهم في الكفر والغدر والإضرار بالمسلمين. قال مجاهد في سبب نزول هذه الآية «إنها نزلت في قوم من أهل مكة كانوا يأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيسلمون رياء، ثم يرجعون إلى قريش فيرتكسون في الأوثان يبتغون بذلك أن يأمنوا هاهنا، وهاهنا، فأمر بقتلهم إن لم يعتزلوا ويصلحوا» . والسبب وإن كان خاصا، فالعبرة لعموم اللفظ، وبهذه الآية يكون السياق قد وضح حيثيات في القتل والقتال، قتال الكافرين والمنافقين.
وإذ كان الأمر بالقتل والقتال هنا بمثل هذا الوضوح سواء في حق الكافرين أو المنافقين، وإذ كان أمر المنافقين ووضعهم دقيقا،
فقد بدأ السياق يحذر بشدة من قتل المؤمنين، ويذكر كفارة القتل الخطأ إن حدث. وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً. أي: ليس المؤمن كالكافر الذي تقدمت إباحة دمه، فلا يصح للمؤمن ولا يليق بحاله، ولا يستقيم أن يقتل مؤمنا إلا على وجه الخطأ. والمعنى: من شأن المؤمن أن ينتفي عنه وجود قتل المؤمن ابتداء البتة، إلا إذا وجد منه خطأ من غير قصد، بأن يرمي كافرا فيصيب مسلما، أو يرمي شخصا على أنه كافر، فإذا هو مسلم. وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ هذان واجبان في قتل الخطأ، أحدهما الكفارة لما ارتكبه من الذنب العظيم، وإن كان خطأ. ومن شرطها أن تكون رقبة مؤمنة، فلا تجزئ الكافرة؛ والحكمة في ذلك أنه لما أخرج نفسا مؤمنة من جملة الأحياء لزمه أن يدخل نفسا مثلها في جملة الأحرار، لأن إطلاقها من قيد الرق كإحيائها، من قبل أن الرقيق ملحق بالأموات، إذ الرق أثر من آثار الكفر، والكفر موت حكما. أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ.
الواجب الثاني هو الدية لأهل القتيل عوضا لهم عما فاتهم من قتيلهم؛ ومعنى التحرير: الإعتاق، والمراد بالرقبة هنا النسمة المسترقة. ومعنى قوله تعالى: وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ أي: ودية مؤداة إلى ورثته يقتسمونها كما يقتسمون الميراث. قال النسفي:
لا فرق بينها وبين سائر التركة في كل شئ، فيقضى منها الدين، وتنفذ الوصية، وإذا لم يبق وارث فهي لبيت المال وقد ورث رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة أشيم الضبابي من عقل زوجها أشيم. إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا. أي: إن هذه الدية واجبة لورثة القتيل إلا أن يتصدقوا بالدية، فالدية واجبة في كل حال، إلا في حال التصدق بها من الورثة.
فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ. أي: فإن كان المقتول خطأ من قوم كفار وَهُوَ مُؤْمِنٌ. أي: والمقتول مؤمن فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ. هذه هي الكفارة في هذه الحالة، وصورتها: لو أسلم إنسان في دار الحرب ولم يهاجر إلينا، فقتله مسلم خطأ، تجب الكفارة بقتله، للعصمة المؤثمة وهي الإسلام، ولا تجب الدية لأن العصمة المقومة بالدار لم توجد. قال ابن كثير في تفسيرها: أي إذا كان القتيل مؤمنا، ولكن أولياءه من الكفار أهل الحرب فلا دية له، وعلى القاتل تحرير رقبة مؤمنة لا غير.
وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ. أي: فإن كان أولياء القتيل أهل ذمة أو هدنة، فلهم دية قتيلهم المؤمن كاملة، ويجب على القاتل أيضا تحرير رقبة مؤمنة. فَمَنْ لَمْ يَجِدْ. أي: رقبة يعتقها إما لفقره وعجزه عن التملك. أو لعدم وجود الأرقاء كما في عصرنا. فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ. أي: فعليه بدل العتق صيام شهرين متتابعين، أي لا إفطار بينهما، بل يسرد صومهما إلى آخرهما، فإن أفطر من غير عذر من مرض أو حيض أو نفاس، استأنف. واختلفوا في السفر هل يقطع أم لا؟ على قولين. هذا كلام ابن كثير.
تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً. أي: هذه توبة القاتل خطأ، إذا لم يجد العتق صام شهرين متتابعين. واختلفوا فيمن لا يستطيع الصيام هل يجب عليه إطعام ستين مسكينا كما في كفارة الظهار؟ على قولين، أحدهما: نعم وإنما لم ينص عليه هنا لأن المقام مقام تهديد وتخويف وتحذير. والمعنى: شرعه الله ذلك توبة لكم، رحمة منه وقبولا وهو العليم إذ يأمر، الحكيم إذ يقدر ويشرع.
وبعد أن بين الله انتفاء القتل العمد عن المؤمن، وبين حكم القتل الخطأ، شرع في بيان حكم القتل العمد حال وقوعه فقال: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً. أي قاصدا قتله فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ أي: انتقم منه وطرده من رحمته. وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً