الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ونحن نتعمد في هذا التفسير ألا نذكر شيئا حتى يأتي محله، حتى لا يكون للإنكار علينا سبيل إن شاء الله.
وكثير من الأمور ستتضح كلما سرنا في هذا التفسير.
وإنما ذكرنا هنا ما ذكرناه لتأكيد على أن سورة آل عمران تفصل في مقدمة سورة البقرة، وامتدادات معانيها في سورة البقرة نفسها. وإن مما يحدد امتدادات معاني مقدمة سورة البقرة في سورتها، سورة آل عمران، وإنما نؤكد على هذا لأننا سنرى أن سورا كثيرة ستفصل في آيات من سورة البقرة، بينما سنجد آيات في سورة البقرة لا تفصلها سور، وما ذلك إلا لمثل هذا الذي ذكرناه.
هذه الكلية التي نذكرها هنا، والتي ستأتي الأدلة عليها كثيرا كلما سرنا في هذا التفسير تجعلنا نؤكد: أن ما أجمل في مقدمة سورة البقرة، قد فصل بعضه في سورة آل عمران، وستأتي سور أخرى تفصل بعضه الآخر، كما أن هناك سورا، ستفصل في آيات أخرى من سورة البقرة على نسق وترتيب خاصين.
كل ذلك نقوله لنلفت النظر إلى أن المسلم لا ينبغي أن يخرج من سورة آل عمران، إلا وقد خرج بمزيد من وضوح الرؤية في قضية التقوى والكفر والنفاق.
لقد عرفنا في مقدمة سورة البقرة، أن الكافرين لا يؤثر فيهم الإنذار. وعرفنا- مثلا- من المقطع الذي مر معنا، أن الكافرين يربطون بين الموت وعالم الأسباب فقط، وعرفنا في مقدمة سورة البقرة بعضا من أقوال المنافقين ومواقفهم، وهاهنا عرفنا بعضها الآخر من أنهم لا يشاركون في قتال، ومن كونهم مثبطين عنه، داعين للقعود،
إلى غير ذلك. وعرفنا من مقدمة سورة البقرة، أن الإيمان يستلزم صلاة، وإنفاقا، واتباع كتاب، ومن سورة آل عمران عرفنا، أن الإيمان يستلزم عدم طاعة الكافرين والمنافقين، وعدم اتخاذ بطانة من غير المؤمنين.
ولننتقل إلى المقطع الثالث والرابع من القسم الخامس من سورة آل عمران، وسنبدأ الكلام عن المقطعين معا لشئ له صلة بما مر معنا آنفا:
المقطعان الثالث والرابع من القسم الخامس من سورة آل عمران
يمتد المقطع الثالث من الآية (169) إلى نهاية الآية (189)، ويمتد المقطع الرابع حتى نهاية السورة، وهو خاتمة السورة.
والمقطع الثالث يصحح مفاهيم وتصورات، ولذلك فإن كل فقرة من فقراته تبدأ إما بقوله تعالى: وَلا تَحْسَبَنَّ أو وَلا يَحْسَبَنَّ والمقطع الرابع يوجد في سياقه الرئيسي تقريران: تقرير في حق أهل الإيمان، وتقرير في حق من آمن من أهل الكتاب.
وتنتهي السورة بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ.
رأينا في هذا القسم صلة المقطع الثاني بالأول، والمقطع الثالث امتداد للأول، فالآيات الأولى منه امتداد لما قبلها مباشرة، والمقطع كله امتداد للمقطع السابق عليه، فقد سبق مباشرة بقوله تعالى: الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا
…
وجاء المقطع الثالث مبدوءا بقوله تعالى: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً
…
ثم إن المقطع الثاني بدأ بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا ....
وهذا المقطع يبدأ بنفس المضمون، ويستمر بتصحيح تصورات يتبناها الكافرون أو يقولون بها. ويأتي المقطع الرابع ليعرض علينا صفحة من حال أهل الإيمان، سواء سبق لهم أن كانوا مؤمنين بكتاب أو لا، وتنتهي السورة بالأمر بالصبر والمصابرة، والمرابطة والتقوى. وكل ذلك قد جاء في سياق القسم المبدوء بقوله تعالى:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ* بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ* سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ.
فالمقاطع كلها تخدم فكرة عدم الطاعة للكافرين، وتؤكد ولاية الله للمؤمنين، وتعمق الصفات والخصائص التي ينبغي أن يكون عليها أهل الإيمان، ليستأهلوا وعد الله، ومن ذلك الصبر والمصابرة والمرابطة.
إن المقطع الثالث من حيث إنه تصحيح للتصورات التي يطرحها أهل الكفر، فإن صلته بمقدمة سورة البقرة- التي هي حديث عن المتقين والكافرين والمنافقين- لا
تخفى. وإن المقطع الرابع- الذي يتحدث عن حال المؤمنين عامة، وحال المؤمنين من أهل الكتاب خاصة لا تخفى صلته بمقدمة سورة البقرة. الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ، وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ. على أنه يمكن أن يقول قائل: إن أي آية في القرآن يمكن أن يقال إن لها صلة بمقدمة سورة البقرة بشكل من الأشكال، وهذا صحيح لأن القرآن كله موضوع واحد. ولكنا نقول: إنه زيادة على هذه الوحدة الموضوعية، فهناك سور ألصق بموضوع بعينه، وسنرى كيف أن سورتي الأنفال وبراءة ألصق بموضوع القتال، وقل ذلك في كل سورة. فمن هذه الحيثية نقول: إن لكل سورة محورها من سورة البقرة، ومحور سورة آل عمران، هو مقدمة سورة البقرة وامتدادات معاني هذه المقدمة في السورة. ونظن أنه في النموذج التالي سيكتشف المنصف صدق ما نقول:
جاء في سورة البقرة قصة آدم عليه السلام، ثم مقطع بني إسرائيل، ثم قصة إبراهيم عليه السلام، ثم مقطع القبلة؛ ومن خلال الحوار مع بني إسرائيل وغيرهم، عرفنا وضع الكافرين ومواقفهم وقد انتهى مقطع القبلة في سورة البقرة بقوله تعالى: كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ* فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ. ثم جاء أمر بالاستعانة بالصبر والصلاة، ونهي عن القول بأن الشهداء أموات، وإخبار بأن الابتلاءات، وأن علينا أن نعترف لله بالمالكية إذا ابتلينا وذلك في مقطع الصبر يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وفي هذا السياق جاء كلام عن كتمان ما أنزل الله إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى. ثم في هذا السياق جاء قوله تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها، وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ هذا كله جاء على تسلسل في مقطعين من سورة البقرة.
وفي سورة آل عمران نجد تفصيلا لهذا كله.
فلقد رأينا أن المقطع الثاني جاء في آخره قوله تعالى: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ.