الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الدنيا من حطامها الفاني.
وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ أي: المصير والمرجع إلى الله، في حال موتكم أو قتلكم، فلتعملوا، ولتحسنوا، وكلوا أمركم في الحياة وغيرها إلى الله.
كذب الكافرين أولا في زعمهم أن السفر أو الغزو يقصران الآجال، ونهى المسلمين عن اعتقاد ذلك وقوله؛ لأنه، سبب التقاعد عن الجهاد، ثم بين لهم أنه إن تم عليكم ما تخافونه من الهلاك بالموت أو القتل في سبيل الله، فإن ما تنالونه من المغفرة والرحمة بالموت في سبيل الله، خير مما يجمعونه من الدنيا، فإن الدنيا زاد المعاد للعاقلين. فإذا وصل العبد إلى المراد لم يحتج إلى الزاد.
فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ أي: فبرحمة من الله كان لينك للمؤمنين، ومعنى الرحمة: ربطه على جأشه، وتوفيقه للرفق، والتلطف بهم. دل على أن لينه لهم ما كان ليكون إلا برحمة من الله تعالى، وامتنان الله على المؤمنين بهذا في السياق يدل على أن كل مبررات مطاوعة الكافرين، ومسايرتهم، لا يجوز وجودها، بل يجب انتفاؤها لوجود الكمال في القائد وسلوكه، وتعامله، ولوجود الكمال في الدعوة كما سيمر. وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ الفظ: هو الجافي الغليظ الكلام، وغليظ القلب: قاسيه، والانفضاض:
التفرق أي: لو كنت سيئ الكلام، قاسي القلب لتفرقوا عنك حتى لا يبقى حولك أحد، فإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الشأن معه لو كان كذلك لتفرق عنه الناس، وهو المفروض على الناس اتباعه، فما بال غيره. فليتق الله أحد أعطاه الله قيادة، أو إمامة للمسلمين ألا يرفق. بهم ثم أمر الله رسوله فَاعْفُ عَنْهُمْ بدوام إحسانك للمسيئ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ الله فيما يختص بحقه إتماما للشفقة عليهم، وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ أي: في كل ما يختص من أمورهم من حرب لسلم لغير ذلك، مما لم ينزل عليك فيه وحي تطييبا لنفوسهم، وترويحا لقلوبهم، ورفعا لأقدارهم، وتوعية لهم على قضاياهم، وتسييرا لهم من حيث يقتنعون أنه المصلحة، واستخراجا لطاقات عقولهم فيما هو خير لمجموعهم.
فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ. أي: فإذا قطعت الرأي على شئ بعد الشورى، فتوكل على الله في إمضائه إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ. أي: المعتمدين عليه والمفوضين أمورهم إليه، يأخذون بالأسباب، ويقومون بحق الله، وتنفيذ أمره باستنفاد الوسع، وبذل الطاقة، ولا يعتمدون إلا على الله.
فوائد حول الآية:
1 -
قال الحسن البصري في هذه الآية: «هذا خلق محمد صلى الله عليه وسلم بعثه الله به»
ونضيف: وعلى وراثه أن يتخلقوا به، وعلى قيادات المسلمين أن يكونوا كذلك.
2 -
يقول صاحب الظلال في قوله تعالى وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ. «وبهذا النص الجازم: «وشاورهم في الأمر» .. يقرر الإسلام هذا المبدأ في نظام الحكم- أن الشورى مبدأ أساسي، لا يقوم نظام الإسلام على أساس سواه .. أما شكل الشورى، والوسيلة التي تتحقق بها، فهذه أمور قابلة للتحوير والتطوير وفق أوضاع الأمة وملابسات حياتها. وكل شكل وكل وسيلة. تتم بها حقيقة الشورى- لا مظهرها- فهي من الإسلام.
لقد جاء هذا النص عقب وقوع نتائج للشورى تبدو في ظاهرها خطيرة مريرة، فقد كان من جرائها ظاهريا وقوع خلل في وحدة الصف المسلم! اختلفت الآراء. فرأت مجموعة أن يبقى المسلمون في المدينة محتمين بها، حتى إذا هاجمهم العدو قاتلوه على أفواه الأزقة. وتحمست مجموعة أخرى فرأت الخروج للقاء المشركين. وكان من جراء هذا الاختلاف ذلك الخلل في وحدة الصف. إذ عاد عبد الله بن أبي بن سلول بثلث الجيش، والعدو على الأبواب- وهو حدث ضخم وخلل مخيف- كذلك بدا أن الخطة التي نفذت لم تكن- في ظاهرها- أسلم الخطط من الناحية العسكرية. إذ إنها كانت مخالفة «للسوابق» في الدفاع عن المدينة- كما قال عبد الله بن أبي- وقد اتبع المسلمون عكسها في غزوة الأحزاب التالية، فبقوا فعلا في المدينة، وأقاموا الخندق، ولم يخرجوا للقاء العدو. منتفعين بالدرس الذي تلقوه في أحد.
ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يجهل النتائج الخطيرة التي تنتظر الصف المسلم من جراء الخروج. فقد كان لديه الإرهاص من رؤياه الصادقة التي رآها، والتي يعرف مدى صدقها، فقد تأولها قتيلا من أهل بيته، وقتلى من صحابته، وتأول المدينة درعا حصينة .. وكان من حقه أن يلغي ما استقر عليه الأمر نتيجة للشورى .. ولكنه أمضاها وهو يدرك ما وراءها من الآلام والخسائر والتضحيات. لأن إقرار المبدأ وتعليم الجماعة، وتربية الأمة، أكبر من الخسائر الوقتية.
ولقد كان من حق القيادة النبوية أن تنبذ مبدأ الشورى كله بعد المعركة، أمام ما أحدثته من انقسام في الصفوف في أحرج الظروف؛ وأمام النتائج المريرة التي انتهت إليها المعركة! ولكن الإسلام كان ينشئ أمة، ويربيها، ويعدها لقيادة البشرية. وكان الله يعلم أن خير وسيلة لتربية الأمم وإعدادها للقيادة الرشيدة، أن تربي بالشورى؛ وأن
تدرب على حمل التبعة، وأن تخطئ- مهما يكن الخطأ جسيما وذا نتائج مريرة- لتعرف كيف تصحح خطأها، وكيف تحتمل تبعات رأيها وتصرفها. فهي لا تتعلم الصواب إلا إذا زاولت الخطأ .. والخسائر لا تهم، إذا كانت الحصيلة هي إنشاء الأمة المدربة المقدرة للتبعة. واختصار الأخطاء، والعثرات، والخسائر، في حياة الأمة ليس
فيه شئ من الكسب لها، إذا كانت نتيجته أن تظل هذه الأمة قاصرة كالطفل تحت الوصاية. إنها في هذه الحالة تتقي خسائر مادية وتحقق مكاسب مادية. ولكنها تخسر نفسها وتخسر وجودها، وتخسر تربيتها، وتخسر تدريبها على الحياة الواقعية. كالطفل الذي يمنع من مزاولة المشي- مثلا- لتوفير العثرات والخبطات. أو توفير الحذاء!
كان الإسلام ينشئ أمة ويربيها، ويعدها للقيادة الراشدة. فلم يكن بد أن يحقق لهذه الأمة رشدها، ويرفع عنها الوصاية في حركات حياتها العملية الواقعية، كي تدرب عليها في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وبإشرافه. ولو كان وجود القيادة الراشدة يمنع الشورى، ويمنع تدريب الأمة عليها تدريبا عمليا واقعيا في أخطر الشئون- كمعركة أحد التي قد تقرر مصير الأمة المسلمة نهائيا، وهي أمة ناشئة تحيط بها العداوات والأخطار من كل جانب- ويحل للقيادة أن تستقل بالأمر وله كل هذه الخطورة- لو كان وجود القيادة الراشدة في الأمة يكفي ويسد مسد مزاولة الشورى في أخطر الشئون، لكان وجود محمد صلى الله عليه وسلم ومعه الوحي من الله سبحانه وتعالى كافيا لحرمان الجماعة المسلمة يومها من حق الشورى- وبخاصة على ضوء النتائج المريرة التي صاحبتها في ظل الملابسات الخطيرة لنشأة الأمة المسلمة. ولكن وجود محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه الوحي الإلهي ووقوع تلك الأحداث، ووجود تلك الملابسات، لم يلغ هذا الحق. لأن الله- سبحانه- يعلم أن لا بد من مزاولته في أخطر الشئون، ومهما تكن النتائج، ومهما تكن الخسائر، ومهما يكن انقسام الصف، ومهما تكن التضحيات المريرة، ومهما تكن الأخطار المحيطة .. لأن هذه كلها جزئيات لا تقوم أمام إنشاء الأمة الراشدة، المدربة بالفعل على الحياة؛ المدركة لتبعات الرأي والعمل، والواعية لنتائج الرأي والعمل .. ومن هنا جاء هذا الأمر الإلهي، وفي هذا الوقت بالذات:
فَاعْفُ عَنْهُمْ، وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ، وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ .. ليقرر المبدأ في مواجهة أخطر الأخطار التي صاحبت استعماله؛ وليثبت هذا القرار في حياة الأمة المسلمة أيا كانت الأخطار التي تقع في أثناء التطبيق وليسقط الحجة الواهية التي تثار لإبطال هذا المبدأ في حياة الأمة المسلمة، كلما نشأ عن استعماله بعض العواقب التي تبدو سيئة،
ولو كان هو انقسام الصف، كما وقع في «أحد» والعدو على الأبواب .. لأن وجود الأمة الراشدة مرهون بهذا المبدأ. ووجود الأمة الراشدة أكبر من كل خسارة أخرى في الطريق!.
على أن الصورة الحقيقة للنظام الإسلامي لا تكمل حتى نمضي مع بقية الآية؛ فنرى أن الشورى لا تنتهي أبدا إلى الأرجحة والتعويق، ولا تغني كذلك عن التوكل على الله في نهاية المطاف: فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ. إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ..
إن مهمة الشورى هي تقليب أوجه الرأي، واختيار اتجاه من الاتجاهات المعروضة.
فإذا انتهى الأمر إلى هذا الحد، انتهى دور الشورى وجاء دور التنفيذ .. التنفيذ في عزم وحسم، وفي توكل على الله، يصل الأمر بقدر الله، ويدعه لمشيئته تصوغ العواقب كما تشاء ..
وكما ألقى النبي صلى الله عليه وسلم درسه النبوي الرباني، وهو يعلم الأمة الشورى، ويعلمها إبداء الرأي، واحتمال تبعته بتنفيذه في أخطر الشئون وأكبرها .. كذلك ألقى عليها درسه الثاني في المضاء بعد الشورى، وفي التوكل على الله، وإسلام النفس لقدره- على علم بمجراه واتجاهه- فأمضى الأمر في الخروج، ودخل بيته فلبس درعه ولأمته- وهو يعلم إلى أين هو ماض، وما الذي ينتظره وينتظر الصحابة معه من آلام وتضحيات .. وحتى حين أتيحت فرصة أخرى بتردد المتحمسين، وخوفهم من أن يكونوا استكرهوه صلى الله عليه وسلم على ما لا يريد، وتركهم الأمر له ليخرج أو يبقى .. حتى حين أتيحت هذه الفرصة لم ينتهزها ليرجع؛ لأنه أراد أن يعلمهم الدرس كله. درس الشورى. ثم العزم والمضي.
مع التوكل على الله والاستسلام لقدره. وأن يعلمهم أن للشورى وقتها، ولا مجال بعدها للتردد، والتأرجح، ومعاودة تقليب الرأي من جديد. فهذا مآله الشلل والسلبية، والتأرجح الذي لا ينتهي .. إنما هو رأي وشورى. وعزم ومضاء. وتوكل على الله، يحبه الله» اهـ.
3 -
ذكر ابن كثير أمثلة كثيرة عن استشارة الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه كاستشارته لهم يوم بدر، ويوم الخندق، ويوم الحديبية، وحالات أخرى ثم قال:
فكان صلى الله عليه وسلم يشاورهم في الحروب، ونحوها. وقد اختلف الفقهاء هل كان ذلك واجبا عليه أم من باب الندب تطييبا لقلوبهم؟ على قولين. ونقول: إن الأصل في الأمر أن يكون للوجوب، إلا إذا وجد صارف، ولا صارف هنا، خاصة وأن قوله تعالى في