الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب العاشر في ذكر حال الموحدين في النار، وخروجهم منها برحمة أرحم الراحمين، وشفاعة الشافعين وفي أكثر أهل النار، وأصنافهم
أما حال الموحدين في النار ودخولهم دار البوار فقد تقدم في الأحاديث الصحيحة، والأخبار الصريحة أنَّ الموحدين يمرون على الصراط فينجو منهم من ينجو، ويقع مَن يقع، فإذا دخل أهل الجنّةِ الجنّةَ فقدوا من وقع في النار من إخوانهم فابتهلوا يسألون الحق جل جلاله، ويتشفعون إليه فيهم، ويحاجون عنهم.
واعلم أن ذلك لأمرٍ أراده الله سبحانه وارتضاه وإلا فمن ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه.
إذا علمت ذلك فأخرج البخاري، ومسلم واللفظ له عن أبي سعيد رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال في حديث تقدم في المحشر وفيه: "حتى إذا خلص المؤمنون من النار، فوالذي نفسي بيده ما من أحد منكم بأشد مَنَا شَدةً لله تعالى في استيفاء الحق من المؤمنين لله تعالى يوم القيامة لإخوانهم الذين في النار يقولون: ربنا كانوا يصومون، ويصلون معنا، ويحجون فيقال لهم: اخرجوا مَن عرفتم فتحرم صورهم على النار، فُيخرِجون خلقًا كثيرًا قد أخذت النار إلى أنصاف ساقيه،
وإلى ركبتيه فيقولون: ربنا ما بقي فيها أحد ممن أمرتنا به. فيقول: أرجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من خير فأخرجوه فُيخْرِجون خلقًا كثيرًا، ثم يقولون: ربنا لم نذر ممن أمرتنا به أحدًا فيقول: ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينار من خير فأخرجوه فيخرجون خلقًا كثيرًا، ثم يقولون: ربنا لم نذر فيها ممن أمرتنا أحدًا ثم يقول: ارجعوا فمَن وجدتم في قلبهِ مثقال ذرّةٍ من خير فأخرجوه فيخرجون خلقًا كثيرًا، ثم يقولون: ربنا لم نذر فيها خيرًا" وكان أبو سعيد يقول: إن لم تصدقوني بهذا الحديث فاقرأوا إن شئتم {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40)} [النساء: 40] فيقول الله عز وجل: شفعت الملائكة، وشفع النبيون، وشفع المؤمنون ولم يبق إلا أرحم الراحمين فيقبض قبضةً من النَّارِ، فيخرج بها قومًا لم يعملوا خيرًا قط قد عادوا أي: صاروا حَمُمًا أي: فحمًا فيلقيهم في نهر في أفواه الجنة يُقال له: نهر الحياة فيخرجون كما تخرج الحبَّة في حميل السيل"(1) الحديث.
قال الحافظ ابن رجب (2): والمراد بقوله صلى الله عليه وسلم: "لم يعملوا خيرًا قط" من أعمال الجوارح وإن كان أصل التوحيد معهم، ولهذا جاء في حديث الذي أمر أهله أن يحرقوه بعد موته بالنار، أنه لم يعمل خيرًا قط
(1) رواه أحمد في "مسنده" 3/ 16، والبخاري (4581)، ومسلم 1/ 167 (183)، والآجري في "الشريعة" ص 260، وابن حبان 16/ 377 (7377).
(2)
"التخويف من النار" ص 255 انظر (288).
غير التوحيد. خرجه الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا، وعن ابن مسعود موقوفًا ويشهد له ما جاء في حديث أنس رضي الله عنه مرفوعًا:"فأقول يا رب إئذن لي فيمن قال: لا إله إلا الله فيقول: وعزتي وجلالي وعظمتي وكبريائي لأخرجن مِن النار مَن قال: لا إله إلا الله" متفق عليه.
وعند مسلم: "فيقول: ليس ذلك لك أو ليس ذلك إليك"(1) وهذا يدل على أنَّ الذين يخرجهم الله سبحانه برحمته من غير شفاعة مخلوق هم أهل كلمة التوحيد الذين لم يعملوا مَعَهَا خيرًا قط بجوارحهم.
وخرج الحاكم بسند صحيح عن أبي سعيد رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيه: "فإذا فرغَ الله سبحانه من القضاء بين العباد وتفقد المؤمنون رجالاً في الدنيا كانوا يصلون بصلاتهم، ويزكون زكاتهم، ويصومون صيامهم، ويحجون حجهم، ويغزون غزوهم فيقولون: أي رب عباد من عبادك كانوا في الدنيا يصلون بصلاتنا، ويزكون زكاتنا، ويصومون صيامنا، ويحجون حجنا، ويغزون غزونا لا نراهم، قال الله عز وجل: اذهبوا إلى النار فمَن وجدتموه فيها فأخرجوه قال: فيخرجونهم وقد أخذتهم النار على قدر أعمالهم فمنهم من أخذته إلى قدميه، ومنهم من أخذته إلى ركبتيه، ومنهم من أخذته إلى إزرته،
(1) رواه البخاري (7510)، ومسلم 1/ 182 (326).
ومنهم من أخذته إلى ثدييه، ومنهم من أخذته إلى عنقه ولم تغش الوجوه قال: فيستخرجونهم فيطرحون في ماء الحياة" قيل: يا نبي الله وما ماء الحياة؟ قال: "غسل (1) أهل الجنة فينبتون فيها كما تنبت الزرعة في غثاء السيل ثم يشفع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في كل من كان يشهد أن لا إله إلا الله مخلصًا فيستخرجونهم منها، ثم يتحنن الله سبحانه برحمته على مَن فيها فما يترك فيها عَبْدًا في قلبه مثقال ذرة من الإيمان إلا أخرجه منها" (2).
وخرجاه في الصحيحين عنه مرفوعًا بلفظ: "يدخل أهلُ الجنةِ الجنةَ، وأهل النارِ النار، ثم يقول الله عز وجل: أخرجوا مَن كان في قلبه مثقال حبة مِن خردل مِن إيمان فيخرجون منها قد اسودّوا فيلقون في نهر الحيا أو الحياة -بالشك من مالك- فينبتون كما تنبت الحبة في جانب السيل ألم تر أنها تخرج صفراء (3) متلونة" هذا لفظ البخاري، وعند مسلم:"فيخرجون منها حَمُما قد امْتَحشُوا"(4) قال في النهاية:
(1) ورد بهامش الأصل: قوله: "غسل أهل الجنة" لعله [
…
] أي: ما غسل به الرأس، ولم أقف عَلَى أصل الرواية في صحيحه. قُلْتُ: هو في "المستدرك" كما في الهامش التالي.
(2)
أخرجه الحاكم في "المستدرك" 4/ 585، 4/ 586، وقال صحيح عَلَى شرط مسلم ولم يخرجاه.
(3)
ورد بهامش الأصل قوله: صفراء متلونة أي لضعفها وهذا كناية عن سرعة نباتهم وضعف حالهم ثمَّ قواهم ويصيرون إلى منازلهم. أهـ مناوي.
(4)
رواه البخاري (22)، ومسلم 1/ 172 (184).
أي: احترقوا والمحش: احتراق الجلد، وظهور العظم (1) ويروي "امتُحِشوا": لما لم يسمَّ فاعله وقد محشته النار تمحشه محشا (2). انتهى.
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يجمع الله الناس يوم القيامة" الحديث وفيه "حتى إذا فرغ الله تعالى من القضاء بين العباد وأراد أن يخرج برحمته من أراد من أهل النار، أمر الملائكة أن يخرجوا من النار من كان لا يشرك بالله شيئًا ممن دخل النار يعرفونهم بأثر السجود تأكل النار من ابن آدم إلا أثر السجود حرم الله على النار أن تأكل أثر السجود فيخرجون من النار قد امتحشوا فيصب عليهم ماء الحياة فينبتون فيه كما تنبت الحبة"(3) أي بكسر الحاء بذر البقول والرياحين وقيل غير ذلك وأما ما تفتح حاؤه فهو ما يبذر ذكره الحافظ المنذري في حميل السيل: أي بفتح الحاء المهملة وكسر الميم هو الزبد وما يقلبه على شاطئه ومثله الغثاء (4).
قال في النهاية: الغثاء بالضم والمد ما يجيء فوق السيل مما يحمله من الزبد والوسخ وغيره (5).
(1)"النهاية في غريب الحديث" 4/ 302.
(2)
النهاية في غريب الحديث 4/ 302.
(3)
رواه البخاري (7437)، ومسلم 1/ 163 (182)، والبيهقي في "البعث والنشور" ص 76 (102).
(4)
"الترغيب والترهيب" 4/ 222/ (5465).
(5)
"النهاية في غريب الحديث" 3/ 343.
قَالَ: وفي كتاب مسلم: "كما تنبت الغثاءة" يريد ما احتمله السيل من البزروات.
ومنه حديث الحسن هذا الغثاء الذي كنا نحدث عنه يريد أراذل الناس وسقطتهم.
وخرج مسلم عن أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أما أهل النار الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحييون ولكن (1) ناس أصابتهم النار بذنوبهم أو قال بخطاياهم فأماتهم الله إماتة حتَّى إذا كانوا فحمًا أذن في الشفاعة فجيء بهم ضبائر ضبائر"(2) أي: جماعات في تفرقة ضبائر واحدتها: ضبارة مثل عمارة وعمائر وكل مجتمع ضبارة.
وفي رواية أخرى: "فيخرجون ضبارات ضبارات" هو جمع صحة للضبارة والأول جمع تكسير ومنه الحديث: "أتته الملائكة بحريرة فيها مسك ومن ضبائر الريحان" قاله في النهاية (3): "فبثوا على أنهار الجنة ثم قيل يا أهل الجنة أفيضوا عليهم من الماء فينبتون نبات الحبة في حميل السيل".
وظاهر هذا كما قال الحافظ ابن رجب يدل على أن هؤلاء
(1) ورد بهامش الأصل قوله: ولكن إلخ استدارك من توهم نفي العذاب عنهم، وقوله: فجيء بهم ضبائر أي يحملون كالأمتعة. أهـ.
(2)
رواه مسلم 1/ 172 (185).
(3)
النهاية لابن الأثير 3/ 71 - 72.
يموتون حقيقة وتفارق أرواحهم أجسادهم ويدل له ما خرَّجه البزار عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: "إن أدنى أهل الجنة حظًا أو نصيبًا قوم يخرجهم الله تعالى من النار، فيرتاح لهم الرب تبارك وتعالى وذلك أنهم كانوا لا يشركون بالله شيئًا فينبذون بالعراء فينبتون كما ينبت البقل حتَّى إذا دخلت الأرواح أجسادهم فيقولون: ربنا كما أخرجتنا من النار ورجعت الأرواح إلى أجسادنا فاصرف وجوههنا عن النار فيصرف وجوههم عن النار"(1).
قال الإمام القرطبي في "تذكرته"(2) في قوله صلى الله عليه وسلم: "فأماتهم الله إماتة": هذه الموتة للعصاة موتة حقيقة؛ لأنه أكدها بالمصدر وذلك تكريمًا لهم حتَّى لا يحسوا ألم العذاب.
قال: فإن قال قائل: فأي فائدة حينئذ في إدخالهم النار وهم لا يحسون بالعذاب فالجواب: يجوز أن يدخلهم تأديبًا لهم وإن لم يذوقوا فيها العذاب ويكون صرف نعيم الجنة عنهم مدة كونهم بها عقوبة لهم كالمحبوسين في السجن، فإن السجن عقوبة لهم وإن لم يكن معه غلٌّ ولا قيدٌ قال: ويحتمل أنهم يعذبون أوّلاً وبعد ذلك يموتون يختلف حالهم في طول التعذيب بحسب جرائمهم وآثامهم ويجوز أن يكونوا متألمين حالة موتهم غير أنَّ آلامهم أخف من آلام الكفار؛ لأن آلام الكفار المعذبين وهم موتى أخفُّ من عذابهم وهم أحياء دليلُه قوله تعالى: {وَحَاقَ بِآلِ
(1) ذكره في مجمع الزوائد 10/ 400.
(2)
"التذكرة" 1/ 412.
فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ} [غافر: 45] إلى قوله: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر: 46] فأخبر أنّ عذابهم إذا بعثوا أشد من عذابهم وهم موتى.
وقال في "مطامح الأفهام": يجوز أن يريد بالإماتة المذكورة أنه أنامهم وقد سمى الله سبحانه النوم وفاة؛ لأن فيه نوعًا من إعدام الحس.
وفي الحديث المرفوع: "إذا أدخل الله الموحدين النار أماتهم فيها فإذا أرادوا أن يخرجوا منها أمسهم العذاب تلك الساعة"(1).
وأنت خبير بأن كلام القرطبي مخالف لكلام صاحب "مطامح الأفهام" وأن الإماتة حقيقية على الصواب سيما بما صرح به في الحديث الذي قدمناه من رجوع الروح إلى الأجساد.
واعلم أنَّ كلام الإمام القرطبي فيه الغث والسمين والحاصل الذي نعتمده مما ذكرنا أن الإماتة حقيقية وإنا نقول قد عذبوا عذابًا أليما قبل الإماتة حتَّى ماتوا وهل ماتوا إلا من شدة ما ذاقوا من العذاب والآلام والأوصاب.
ولله في ذلك حِكَمٌ أُخَر يَدِقُّ فهمها عن كثير من الناس ولطائف لا يدركها عقل ولا قياس فنسأله سبحانه التوفيق والهداية لأقوم طريق.
(1) أخرجه الديلمي في مسند الفردوس 1/ 252، قال الألباني في السلسلة الضعيفة (2028) موضوع.