الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل
وقال تعالى: {إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87]
وأخرج الشيخان أنه صلى الله عليه وسلم قال مخبرًا عن ذي العزة والجلال: "أنا عند ظّن عَبْدِي بي وأنا معه إذا ذكرني فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي (1) وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأٍ خير منه"(2).
وفي الحديث: "إن لله مائة رحمة كل رحمة منها تملأ طباق ما بين السماء والأرض أنزل منها رحمة واحدة بين الجن والإنس والبهائم فبها يتعاطفون وبها يتراحمون وبها تعطف الطير والوحش على أولادها، وأخَّر تسعة وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة" رواه مسلم وغيره (3).
(1) ورد في هامش الأصل قوله: في نفسي: ذكر النفس للمشاكلة، والمعنى: أن العبد إذا ذكر الله خالياً أو سراً تولّى الله بنفسه إثابته، ولم يكله إلى أحدٍ من خلقه، وإن ذكره جهراً بين الملأ ذكره الله بثوابٍ أطلع عليه الملأ الأعلى. أهـ مختصراً من المناوي. اهـ.
أقول: إثبات صفة النفس لله عز وجل جاء القرآن بإثباتها قال عز وجل: {عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة: 116] فهذا القرآن قد نطق بذلك وهو أعلم بنفسه من خلقه وجاء في الحديث القدسي عن الله عز وجل فيما يرويه النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه عز وجل فنثبت ما أثبته الله لنفسه وننفي ما نفى الله عن نفسه إثباتاً ونفياً يليقان بجلاله. والله أعلم.
(2)
رواه البخاري (7405) و (7505) و (7537)، ومسلم (2675) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(3)
رواه أحمد 2/ 434، ومسلم (2752)، وابن ماجه (4293)، والترمذي (3541)
وفي الحديث: "حسن الظن من العبادة"(1).
وقال صلى الله عليه وسلم قبل موته بثلاثة أيام: "لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله"(2).
وتقدم أيضًا قوله صلى الله عليه وسلم: "إن شئتم أنبأتكم أوّل ما يقول الله عز وجل للمؤمنين" قالوا: نعم، قال:"إن الله يقول للمؤمنين هل أحببتم لقائي؟ " فيقولون: نعم يا ربنا، فيقول:"لم؟ " فيقولون: رجونا عفوك ومغفرتك، فيقول:"قد وجبت لكم مغفرتي ورحمتي"(3).
وخرج البيهقي: "إن الله عز وجل أمر بعبد إلى النار فلما وقف على شفتها التفت فقال: أما والله يا رب إن كان ظني بك لحسن فقال الله عز وجل: ردوه أنا عند ظن عبدي بي"(4).
وفي الصحيح: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل الله تعالى أمته فبكى فقال الله عز وجل: "يا جبريل اْذهب إلى محمد فقل له سنرضيك في أمتك
(1) رواه من حديث أبي هريرة أحمد 2/ 297 و 304 و 359 و 407 و 491، وعبد بن حميد (1425)، وأبو داود (4993)، والترمذي (3604)، والحاكم 4/ 256 وفي إسناده ضعف لكن لَهُ شواهد سيوردها المصنف.
(2)
صحيح، رواه أحمد 3/ 293 و 315 و 325 و 330، ومسلم (2877)، وأبو داود (3113)، وابن ماجه (4167)، وأبو يعلى (1907)، وابن حبان (637) و (638) من حديث جابر.
(3)
رواه أحمد 5/ 238.
(4)
رواه البيهقي في "الشعب"(1015)، والخطيب 9/ 125 من طريق رجل من ولد عبادة بن الصامت عن أبي هريرة مرفوعًا، وفي إسناده جهالة.
ولا نسوؤك" (1).
وقال صلى الله عليه وسلم: "إذا كان يوم القيامة وفرغ الله من قضاء الخلق فيبقى رجلان فيؤمر بهما إلى النار فيلتفت أحدهما فيقول الجبار تبارك اْسمه: ردوُّه فيقال له: لم تلتفت؟ فقال: كنت أرجو أن تدخلني الجنة، قال: فيقول لقد أعطاني ربي حتَّى لو أطعمت أهل الجنة ما نقص ذلك مما عندي شيئا"(2).
خرجه ابن المبارك عن فضالة بن عبيد وعبادة بن الصامت قالا: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذكره يُرى السرورُ في وجهه (3).
وروي عن مسلم بن يسار نحوه لكنه لم يرفعه، كذا رأيته في الأصل الذي نقلت منه وفيه طي إن لم يكن سقط من قلم النساخ. وفي ذكري أني رأيت في بعض الكتب:"أنه لما التفت وأمر برده وقال له ما قال قال له: اْذهبوا به إلى الجنة قال: وما أصنع وقد أخذ الناس منازلهم فأعطاه الله ما أعطاه على ما تقدم فى صفة (4) الجنة. وإن الله أمر الملائكة برد الذي بادر إلى النار فقال له تعالى: علام هذا البدار أتدري أين أنت ذاهب قال: نعم إلى النار وبادرت امتثالاً لأمرك يا رب فغفر له سبحانه".
(1) روي ذَلِكَ في حديث الشفاعة الطويل، انظر البخاري (4712)، ومسلم (202).
(2)
روى بعضه البيهقي في "الشعب"(1016)، وفي إسناده جهالة.
(3)
"الزهد والرقائق" 123/ (409).
(4)
انظر ص 1444.
أو كلام هذا معناه فنسأله سبحانه العفو والعافية وأن يعاملنا بألطافه وكرمه وحلمه.
وفي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال: "والذي نفسي بيده ليغفرن الله يوم القيامة مغفرة ما خطرت على قلب بشر والذي نفس محمد بيده ليغفرن الله مغفرة يتطاول لها إبليس رجاء أن تصيبه"(1).
وقال إبراهيم بن أدهم رحمه الله: خلا لي الطواف ليلة فَصِرْتُ أطوف بالبيت وأقول: اللهم اْعصمني فهتف بي هاتف فقال: يا إبراهيم كلكم تسألون الله العصمة فإذا عصمَكم فعلى من يتكرم.
وقال يعقوب القاري: رأيت في المنام أويس القرني فقلت: أوصني، قال: اْبتغ رحمة الله عند محبّته واحذر نقمته عند معْصيته ولا تقطع رجاءك في خلال ذلك.
وقال مالك بن دينار رأيتُ مسلم بن يسار بعد موته في المنام، فقلت له: ما لقيت بعد الموت؟ قال: لقيت والله أهوالاً عظامًا شدادا قلت: فما كان بعد ذلك، قال: وما تراه أن يكون من الكريم إلا الكرم؛ قبل منا الحسنات وعفا لنا عن السيئات وضمن عنا التبعات ثم شهق مالك بن دينار شهقة وسقط مغشيًا عليه ثم مات بعد أيام وكانوا يرون أن قلبه اْنصدع (2).
ونظر أعرابي إلى الناس وهم وقوف بعرفة المشرفة فأنشد يقول:
(1) أخرجه الطبراني في "الكبير"(3022)، والديلمي في "الفردوس" 4/ 366.
(2)
"حلية الأولياء" 2/ 295.
برزوا لوجهك يا كريم بدعوة
…
ألفاظها شتي بمعنى مفرد
فاسمح بمغفرة تكون لجمعنا
…
زادًا إليك غداة يوم المشهد
تنبيه: وَثَمّ نكتة لا بدّ من التّنبيه عليها وهي أن كثيرًا من الجهّال اْعتمدوا على سعة رحمة الله الكبير المتعال وعطلوا أمره ونهيه وتركوا الأعمال وارتكبوا المحارم وقالوا: الله هو الراحم ونسوا المساكين قوله {إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [المائدة: 2]{وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام: 147 {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} [إبراهيم: 47].
قال الإمام المحقق ابن القيم في كتابه "الداء والدواء": من اْعتمد على العفو مع الإصرار فهو كالمعاند. قَالَ معروف: رجاؤك لرحمة مَنْ لا تطيعه من الخذلان والحمق (1).
وقال بعض العلماء: من قطع عُضْوًا منك في الدّنيا بسرقة ثلاثة دراهم لا تأمن أن تكون عقوبته في الآخرة على نحو هذا. وكثير من الناس لم يفرقوا بين الرجاء والتمني.
والفرق أن الرجاء يكون مع بذل الجهد واستفراغ الطاقة في الإتيان بأسباب الظَّفَرِ والفوز، والتمني حديث النفس بحصول ذلك مع تعطيل الأسباب الموصلة إليه.
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ} [البقرة: 218] فطوى سبحانه بساط الرجاء إلا عن هؤلاء.
(1)"الداء والدواء" ص 38، فصل: بين عفو الله وأمره.
وقال المغْتَرُّون الذين ضيعوا أوامره وارتكبوا نواهيه واتبعوا ما أسخطه وتجنبوا ما يرضيه أولئك [يئسوا من] رحمته وليس هذا ببدع من غرور النفس والشيطان لهم.
قال الإمام ابن القيم في كتابه" الروح الكبرى": الرجاء لعبد قد اْمتلأ قلبه من الإيمان بالله واليوم الآخر فمثل بين عينيه ما وعده الله من كرامته وجنته فامتد القلب مائلا إلى ذلك شوقًا إليه وحرصًا عليه فهو شبيه بالمادّ عنقه إلى مطلوب قد صار نصب عينيه (1).
قال: وعلامة الرجاء الصحيح أن الراجي لخوف فوت الجنة وذهاب حظه منها يترك ما يخاف أن يحول بينه وبين دخولها.
أما الأماني فإنها رؤوس أموال المفاليس أخرجوها في قالب الرجاء وتلك أمانيهم وهي تصدر من قلب تزاحمت عليه وساوس النفس فأظلم من دخانها فهو يستعمل قلبه في شهواتها، وكلما فعل ذلك منَّته حسن العاقبة والنجاة وأحالته على العفو المغفرة والفضل، وإن الكريم لا يستوفي حقه ولا تضره الذنوب ولا تنقصه المغفرة، وتسمي ذلك رجاء وإنما هو وساوس وأماني باطلة تقذف بها النفس إلى القلب الجاهل فيستروح لها.
قال تعالى: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123)} [النساء: 123].
(1)"الروح" ص 365.
فإذا قالت لك النفس أنا في مقام الرجاء فطالبها بالبرهان وقل هذه أمنيّة فهاتوا برهانكم إن كنتم صادقين فالكيس يعمل أعمال البرّ على الطمع والرّجاء والأحمق العاجز يعطل أعمال البر ويتكل عَلىَ الأماني التي يسميها رجاء.
والحاصل أنَّ حسن الظَّنَّ إن حُمِل على العمل وحثَّ عليه وساق إليه فهو صحيح ونافع، وإن دعا إلى البطالة والانهماك في المعاصي والانكباب على الضلالة فهو غرور ضارّ مهلك لصاحبه وقاطع.
وحسن الظن هو الرجاء فن كان رجاؤه حاديًا له على الطاعة زاجرًا له عن المعصية فهو رجاء صحيح، ومن كانت بطالته رجاءً ورجاؤه بطالة وتفريطًا فهو المغرور ذكره في الدّاء والدَّواء.
وقال: لو أنّ رجلاً له أرض يؤمّل أن يعود عليه من مغلها ما ينفعه فأهملها ولم يبذرها ولم يحرثها، وحسن ظنه بأنه يأتي من مغلها ما يأتي ممن حرث وبذر وسقى وتعاهد الأرض لعدّه الناس من أسفه السّفهاء، وكذلك لو حسن ظنه وقوي رجاؤه بأنه يجيئه ولد من غير جماع أو يصير أعلم أهل زمانه من غير طلب للعلم وحرص عليه تام وأمثال ذلك فكذلك من حسن ظنه وقوى رجاؤه في الفوز بالدرجات العُلى والنعيم المقيم من غير طاعة ولا تقرب إلى الله تعالى بامتثال أوامره واجتناب نواهيه وبالله التوفيق.
وقال: ومما ينبغي أن يعلم أن من رجا شيئًا استلزم رجاؤه أمورًا:
أحدها: محبة ما يرجوه.
الثاني: خوفه من فواته.
الثالث: سعيه في تحصيله بحسب الإمكان.
وأما رجاء لا يقارنه شيء من ذلك فهو من باب الأماني، والرجاء شيء والأماني شيء، فكل راجٍ خائف والسائر على الطريق إذا خاف أسرع مخافة الفوات.
وأخرج الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: "من خاف أدلج (1) ومن أدلج بلغ المنزل ألا إنَّ سلعة الله غالية ألا إنَّ سلعة الله الجنة"(2).
وهو سبحانه إنما جعل الرجاء لأهل الأعمال فعلم أن الرجاء والخوف إنما ينفع إذا حث صاحبه على طاعة مولاه.
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ
(1) ورد في هامش الأصل: قوله: أدلج أي: سار من أول الليل، والمعنى: من خاف الله أي: بكل خير، ومَن أمِن منه اجترأ عَلىَ كل شر. أهـ.
(2)
رواه الترمذي (2450)، وعبد بن حميد (1460)، والبيهقي في "الشعب"(881) و (10576)، وفي إسناده ضعف، قَالَ الترمذي: هَذَا حديث حسن غريب.
وله شاهد من حديث أبي بن كعب أخرجه أبو نعيم في الحلية 8/ 377، والحاكم 4/ 308، والبيهقي في "الشعب"(10577)، وصححه الألباني في "الصحيحة"(954)
يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون: 57 - 61].
وأخرج الترمذي عن عائشة رضي الله عنها قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية فقلت: أهم الذين يشربون الخمر ويزنون ويسرقون فقال: "لا يا بنت الصديق ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون ويخافون أن لا يقبل منهم أولئك يسارعون في الخيرات"(1).
ولا جرم أَنَّ من تأمل أحوال السلف الصالح وتتبع سيرهم علم أن أكثر الناس أعمالاً وقربًا منه سبحانه أكثرهم خوفًا وهذا لا ينازع فيه إلا مكابر.
فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: "أنه أشد الناس خوفاً".
وهذا الصديق رضي الله عنه يقول: وددتُ أني شعرة في جنب عبد مؤمن، ذكره عنه الإمام أحمد (2).
وذكر عنه أيضًا: أنه كان يمسك لسانه ويقول هذا أوردني الموارد (3). ولعمري إنه أورده الموارد المحمودة والمواطن المشهودة.
فيا مغتر ألا تتأمل من قطع له بالجنة ومَدْحُه في الكتاب العزيز
(1) رواه الحميدي (275)، وأحمد 6/ 159 و 205، وابن ماجه (4198)، والترمذي (3175)، وأبو يعلى (4917) وفي إسناده انقطاع. وانظر تفسير الطبري 18/ 33، وابن كثير 5/ 25.
(2)
الزهد للإمام أحمد ص 135.
(3)
الزهد ص 135 - 136، وأخرجه ابن أبي الدنيا في الصمت (13)، وأبو يعلى في "مسنده"(5).
من الجبار حيث يقول: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} [التوبة: 40] ومع هذا كان يبكي كثيرًا ويقول: اْبكوا فإن لم تبكوا فتباكوا. وكان إذا قام إلى الصلاة كأنه عود من خشية الله.
وهذا الفاروق قرأ يومًا: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7) مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ {(8)} [الطور: 7، 8] فبكى حتَّى مرض وعادوه وقال لولده في مرض موته: ويحك ضع خدي على الأرض عساه يرحمني، ثم قال: ويل أمي إن لم يغفر لي ثلاثًا ثم قضى رضي الله عنه مع ما فتح الله على يده من الفتوحات العظيمة وما كان عليه من الخيرات الجسيمة.
وهذا عثمان كان إذا وقف على قبر بكى حتى يبل لحيته، وقال: لو أنني بين الجنة والنار لا أدري إلى أيتهما يؤمر بي لاخترت أن أكون رمادًا قبل أن أعلم إلى أيتهما أصير.
وهذا على بن أبي طالب رضي الله عنه وكرم الله وجهه كان شديد الخوف وكان يخاف كثيرًا من طول الأمل واتباع الهوى وحشاه (1) ثم حشاه من ذلك.
وجميع أكابر الصحابة على هذا المنوال يخافون بلا قنوط.
والمقصود أن من زعم أنه حسن الظن بالله مع اْنهماكه في اللذات وانكبابه على المعاصي والشبهات وإعراضه عن الأوامر
(1) ورد في هامش الأصل: قوله: وحشاه ثمَّ حشاه، ولعله حاشاه بألفٍ بين الحاء والشين إذ ليس معناهما واحد فتأمل.
والطاعات فهو من الحمق على جانب عظيم وليس الذي هو عليه إلا غرورًا وأمانيّ وسفهًا وبالله التوفيق.
وينبغي لذي اللب الحازم إذا عرض له أمر وزنه بميزان الشرع، فإنه لا يخلو من أن يكون مأمورًا به فليتبعه، أو منهيًا عنه فليتجنبه، فإن حدثته نفسه بعكس ذلك فليجاهدها، فإن غلبت عليه حتَّى وقع في المحذور فليستدرك التوبة، وليرجع إلى مولاه، فإن أبت إلا الثبوت على ذلك فليذكرها هاذم اللذات ومفرق الجماعات، وليتفكر فيما يؤل إليه، وليستحضر نظر مولاه إليه، والوقوف بين يديه، وليتصور العرض عليه، وليعرض لذة المعصية على خزيها، ويتصور انفضاحه على رؤوس الأشهاد في يوم التناد، وكيف حاله إذا قرب المولي أقرانه وأبعد مكانه ما حاله في تلك الساعة وما سقط في يده من فوات تلك البضاعة وما آل إليه من الفضيحة والفضاعة.
قال الإمام ابن الجوزي في كتابه "صيد الخاطر": تأملتُ شهواتَ الدنيا فرأيتها مصائد هلاك، وفخوخ تلف، فمن قوي عقله على طبعه وحكم عليه سلم ومن غلب طبعه فيا سرعة هلكته.
فنسأل الله سبحانه العافية والتوفيق والهداية لأقوم طريق.
وهذا الفصل ذكرناه اْستطرادًا لما ذكرنا حال الموحدين إذا دخلوا دار البوار، وحلوا في الباب الأول من النار، ولنرجع إلى المقصود مستمدين العون من المعبود.