الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الثامن في ذكر أنهار الجنَّة وعيونها، وطعام أهلها، وشرابهم، ومصرف ذلك وآنيتهم
قال تعالى: {جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [البقرة: 25] وقال تعالى: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ} [يونس: 9].
فدل على أنَّ الأنهار موجودة حقيقة، وأنها جارية، وأنها تحت غرفهم وقصورهم وبساتينهم كما هو المعهود في أنهار الدنيا وقد ظن بعض المفسرين أنَّ معنى جريانها: أنها تجري بأمرهم وتصرفهم لها كيف شاءوا قال في "حادي الأرواح"(1): وكأن الذي حمله على ذلك أنه لمَّا سمع أنَّ أنهارها تجري في غير أخدود حمل قوله: "تجري من تحتها" أي: بأمرهم إذ لا يكون فوق المكان تحته، وهذا من ضعف الفهم فإنَّ أنهار الجنَّة وإنْ جرت في غير أخدود فهي تحت القصور، والمنازل، والغرف، وتحت الأشجار وهو سبحانه لم يقل: من تحت أرضها وقد أخبر عن جريان الأنهار تحت الناس في الدنيا قال تعالى: {وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ} [الأنعام: 6] وحكى سبحانه عن فرعون قوله: {وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} [الزخرف: 51].
نكتة: ذكر الإمامُ العلامة ناصر السنة ابن الجوزي في مجلس وعظه يومًا هذه الآية فقال طيب الله ثراه: انظروا يا إخواني هذا
(1)"حادي الأرواح" ص 255.
الأحمق (يعني: فرعون) افتخر بنهر ماء أجراه ما أجرأه فانظر هذه البلاغة التي كادت تثلب الفؤاد والله تعالى يفعل ما يشاء ويختار سبحانه من منح من شاء ما شاء.
وقال سبحانه وتعالى: {فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ (66)} [الرحمن: 66] أي: فوارتان. وأخرج ابن أبي شيبة عن سعيد قال: نضاختان بالماء، والفاكهة (1) وعن أنس رضي الله عنه: نضاختان بالمسك، والعنبر فينضخان على دور أهل الجنَّةِ كما ينضخ المطرُ على دور أهل الدنيا (2)، وعن البراء: اللتان تجريان أفضل من النضاختين.
وقال تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ} [محمد: 15]. وذكر سبحانه هذه الأجناس الأربع ونفى عن كلّ واحد منها الآفة التي تعرض له في الدنيا، فآفة الماء أنْ يأسن، ويأجن يعني: يتغير، وينتن من طول مكثه، فإن قيل: قد وصف سبحانه الأنهارَ بأنها تجري، ومعلوم أن الماء الجاري لا يأسن فما فائدة قوله: غير آسن؟
فالجواب: الماء الجاري وإنْ كان لا يأسن فإنه إذا [أخذ](3) منه شيء، وطال مكثه، أسن، وماء الجنَّة لا يعرض له ذلك، ولو طال مكثه مهما طال، واعلم أنَّ في خمر الدُّنيا آفات كثيرة، ولا كذلك خمر
(1) ابن أبي شيبة 7/ 65 (34044) كتاب: الجنة.
(2)
ابن أبي شيبة (4/ 518).
(3)
لعل العبارة: لم يؤخذ.
الجنَّة ففي خمر الدنيا الصداع، والغول والإنزاف، واللغو، وعدم اللذة فهذه خمسة آفات تغتالُ العقل، وتكثير اللغو. على شرابها، بل لا يطيب لشرابها ذلك إلا باللغو، وتنزف في نفسها وينزف المال، وتصاع الرأس، وهي كريهة المذاق، وهي رجس من عمل الشَّيطان توقع العداوة والبغضاء بين الناس، وتصدّ عن ذكر الله وعن الصلاة، وتدعوا إلى الزنا، وربما دعت إلى الوقوع على البنت وعلى الأخت وذوات المحارم، وتذهب الغيرة، وتورث الخزي والندامة والفضيحة، وتلحق شرابها بانقص نوع الإنسان، يعني: المجانين، وتسلبه أحسن الأسماء والصفات يعني: العقل، وتكسوه أقبحهما، وتسهل قتل النفس، وإفشاء السر الذي في إفشائه مضرة، ومؤاخاة الشياطين في تبذير المالِ، ويكفي في ذمها أنها أمّ الخبائث فهي جامعة لجميع المفاسد والمحرمات ومانعة من جميع المصالح والخيرات، على أنَّها لا تجتمع هي وخمرة الجنَّة في جوف كما ثبت ذلك عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:"من شرب الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة"(1).
وجمع سبحانه وتعالى بين هذه الأنهار الأربع؛ لأنَّ أنهار الماء فيها ريهم ونضافتهم، وأنهار اللبن فيها قوتهم وغذاؤهم، وأنهار الخمر فيها لذتهم وسرورهم، وأنهار العسل فيها شْفاؤهم ومنفعتهم،
(1) البخاري (5575) مسلم (2003) رواه ابن ماجه (3374) في كتاب: الأشربة، باب: من شرب خمر الدنيا لم يشربها في الآخرة.
والنسائي في "السنن الكبرى" 3/ 230 (5181)، 3/ 231 (5183)، (5184) في كتاب: الأشربة، باب: توبة شارب الخمر وكلهم عن ابن عمر انظر ص 1124 ت (3).
فجمع بينها لهذه، فإنها جمعت أفضل الأشربة والله أعلم.
واعلم أنَّ أنهار الجنَّة تتفجر من أعلاها ثُمَّ تنخر نازلة إلى أقصى درجاتها كما أخرج البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:"إنَّ في الحنَّة مائة درجة أعدها الله عز وجل للمجاهدين في سبيله بين كلّ درجتين كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه وسط الجنَّة، وأعلى الحنَّة، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنَّة"(1).
وأخرج الترمذي عن معاذ، وعبادة بن الصامت نحوه، ولفظ عبادة:"والفردوس أعلاها درجة، ومنها الأنهار الأربعة، والعرش فوقها، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس الأعلى"(2).
وفي البخاري عن أنس رضي الله عنه أنَّ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "رفعت لي سدرة المنتهى في السماء السابعةِ نبقها مثل قلال هجر، وورقها مثل آذان الفيلة، يخرج من ساقها نهران ظاهران، ونهران باطنان فقلت: يا جبريل ما هذا؟ فقال: النهران الباطنان ففي الجنَّة، وأمَّا النهران
(1) رواه البخاري (2790) في كتاب الجهاد والسير، باب: درجات المجاهدين في سبيل الله. و (7423) في التوحيد، باب: قوله تعالى: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} .
(2)
رواه الترمذي (2529) في كتاب صفة الجنة، باب: ما جاء في صفة درجات الجنة من حديث معاذ. و (2531) في كتاب صفة الجنة، باب: في صفة نساء أهل الجنة عن عبادة بن الصامت وقال: هذا حديث حسن غريب.
الظاهران فالنيل والفرات" (1).
وفيه أيضًا أنَّ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "بينا أنا أسير في الجنَّة إذا أنا بنهر حافتاه قباب اللؤلؤ المجوف فقلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر الذي أعطاك رنك فضرب الملك يده فإذا طينه مسك أذفر"(2) أي: شديد الرائحة، وهو بالذال المعجمة.
وقال مجاهد في قوله تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1)} [الكوثر: 1] الخير الكثير. وقال أنس: نهر في الجنَّة. وقالت عائشة رضي الله عنها: هو نهر في الجنَّة ليس أحد يدخل إصبعيه في أذنيه إلَّا سمعَ ذلك النهر. قال في "حادي الأرواح"(3): وهذا والله أعلم معناه أنَّ خرير ذلك النهر يشبه الخرير الذي يسمعه حين يدخل إصبعيه في أذنيه.
وفي "حادي الأرواح"(4) عن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم: "أنهار الجنَّة تفجر من تحت تلال، أو من تحت جبال المسك" ورواه الحاكم أيضًا وصح عن عبد الله موقوفًا: أنَّ أنهار الجنَّة تفجر من جبل مسك (5).
وأخرج "ابن أبي الدنيا"(6) عن أنس رضي الله عنه قال: أظنكم تظنون أنهار الجنَّة أخدودًا في الأرض لا والله إنَّها لسائحة على وجه
(1) رواه البخاري (5610) في كتاب الأشربة، باب: شرب اللبن.
(2)
رواه البخاري (6581) في الرقاق، باب: في الحوض.
(3)
"حادي الأرواح" ص 260.
(4)
"حادي الأرواح" ص 261.
(5)
رواه البيهقي في "البعث والنشور" ص 166، 167، رقم (292).
(6)
ابن أبي الدنيا في "صفة الجنة" ص 82، 83.
الأرض، إحدى حافتيها اللؤلؤ، والأخرى الياقوت، وطينه المسك، الأذفر قيل له: ما الأذفر؟ قيل: الذي لا خلط له.
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "سيحان، وجيحان، والنيل، والفرات كلٌّ من أنهارِ الجنَّة"(1).
وفي "حادي الأرواح"(2) عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعًا: "أنزل الله من الجنَّة خمسة أنهر: سيحون وهو نهر الهند، وجيحون وهو نهر بلخ، ودجلة والفرات وهما نهرا العراق، والنيل وهو نهر مصر، أنزلها الله من عين واحدة من عيون الجنَّة من أسفل درجة من درجاتها على جناحي جبريل عليه السلام، فاستودعها الجبال، وأجراها في الأرض، وجعل فيها منافع للناس في أصناف معاشهم فذلك قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ} [المؤمنون: 18] فإذا كان عند خروج يأجوج ومأجوج أرسل جبريل عليه السلام فرفع من الأرض القرآن، والعلم كله، والحجر الأسود من ركن البيت ومقام إبراهيم، وتابوت موسى بما فيه، وهذه الأنهار الخمسة فرفع ذلك كله إلى السماء فذلك قوله تعالى: {وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ} فإذا رفعت هذه الأشياء من الأرض فقد حرم أهلها خير الدنيا والآخرة". رواه ابن عدي في ترجمة سلمة (3).
(1) رواه مسلم (2839) في الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب: ما في الدنيا من أنهار الجنة.
(2)
"حادي الأرواح" ص 263.
(3)
رواه ابن عدي في "الكامل" 8/ 15، 16