الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المراد أوّل خلق الله من أهل التوحيد، أو يقال ذاك لحكمة دقت عن فهمنا أو لأنّه مع كونه مشركًا ظلم العباد بغرورهم وظنهم أنه مخلص حئَّ ربما اْقتدوا به أو غير ذلك فليتأمل، والله تعالى الموفق.
تتمة في مسائل متفرقة
المسألة الأولى في خلود أهل الدارين فيهما:
أعني الجنة والنار أما خلود أهل الجنة فقد تقدم وهذا بالإجماع لا ينازع فيه أحد من أهل الفهم والاطلاع ممن يثبت وجود الجنة وأنها دار المعاد والجزاء من سائر الأديان.
فإن قلتَ: هذا غير مسلم مع شهرة الخلاف واطلاعك عليه وأنت وذكرك له في غير موضع وقد ذكره جماعة من الأئمة كالإمام ابن القيم في "حادي الأرواح"(1) والعلامة في "البهجة" وغيرهما. قلتُ: إن ذلك كذلك لكني ما أعد ذلك خلافًا -لوجهين:
أحدهما: أن أوّل من اْبتكر هذا القول جهم بن صفوان إمام الجهمية وليس له فيه سلفٌ قط من الصحابة ولا من التابعين ولا من تابعيهم وإذا مضت هذه القرون الثلاث الذين هم خير هذه المِلة مجمعة عَلىَ أمرٍ، ثمَّ حدث مِن بعدهم مَنْ ليس هو مثل أدناهم وانتحل مقالة لا تعد مقالته خلافًا، ولهذا لم يقل به أحد من أهل السنة وأنكره عليه وعلى أتباعه أئمة الإسلام وكفروهم به وصاحوا به من أقطار الأرض.
(1)"حادي الأرواح" ص 365.
قال عبد الله بن الإمام أحمد في كتاب "السنة"(1) عن خارجة بن مصعب أنه قال: كفرت الجهمية بثلاث آيات من كتاب الله عز وجل يقول الله سبحانه {أُكُلُهَا دَائِمٌ} [الرعد: 35] وهم يقولون: لا يدوم لها أكل ولا أهل، ويقول الله:{إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ (54)} [ص: 54] وهم يقولون ينفد ويقول الله: {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل: 96] وهم يقولون: لا بقاء له.
الوجه الثاني أنه لا دليل لهذا القول إلا مجرد توهمات وقياسات فلسفية لا نعوّل على شيء منها معشر المسلمين.
فإن قلت: أليس يقول الله: {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108)} [هود: 108].
قلنا بلى وهي دليل عليكم لا لكم فإن قوله تعالى: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} أي غير مقطوع ومن المعلوم أن غير المقطوع دائم لا محالة، وأما ما يخيل لكم من الاْستئناء في الآية الكريمة فهو راجع للذين يخرجون من النار فيدخلون الجنة يقول سبحانه إنهم خالدون في الجنة مادامت السماوات والأرض إلا مدة مكثهم في النار؛ قاله معمر عن الضّحاك قال المحقق: وهو يحتمل أمرين:
أحدهما: أن يكون الإخبار عن الذين سعدوا وقع عن قوم مخصوصين وهم هؤلاء.
والثاني: وهو الأظهر أن يكون وقع عن جملة السعداء
(1)"السنة" 1/ 130.
والتخصيص (1) في المذكورين هو في الاْستثناء.
وقيل المعنى خالدين فيها مادامت السماوات والأرض إلا ما شاء الله من الزيادة على ذلك؛ كما تقول: أسكنتك داري حولاً إلا ما شئت أي سوى ما شئت من الزيادة على الحول، وقيل هو اْستثناء لمدة المقام في البرزخ لأنهم محبوسون من الجنة فيه إلى أن يصيروا في الجنة ثم هو خلود الأبد فلم يغيبوا عن الجنة إلا بقدر إقامتهم في البرزخ.
وقالت فرقة: العزيمة قد وقعت لهم من الله بالخلود الدائم إلا أن يشاء الله خلاف ذلك؛ إعلامٌ لهم بانهم مع خلودهم في مشيئة الله، وهذا كما قال لنبيه {وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [الإسراء: 86] وقوله: {فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ} [الشورى: 24] وقوله: {قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ} [ونس: 16] فهو إخبار منه سبحانه لعباده أن الأمور كلها بمشيئته ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وثم أقوال أُخَر ومدارها بأن يقال أخبر سبحانه عن خلودهم في الجنة كل وقت إلا وقتا يشاء أن لا يكونوا فيها وذلك يتناول وقت كونهم في الدنيا وفي البرزخ وفي موقف القيامة وعلى الصراط وكون بعضهم في النار مدة، وعلى كل تقدير فهذه الآية من المتشابه وقوله فيها:{عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} (2) محكم.
(1) ورد في هامش الأصل: وذلك كافٍ في حجة الاستثناء لأن زوال الحكم عن الكل يكفيه زواله عن البعض.
(2)
ورد في هامش الأصل: ولأجل قوله: [أعطاءٌ غير مجذوذ]] فرَّق بين الثواب والعقاب في التأبيد. أ. هـ بيضاوي.
وكذا قوله: {أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا} [الرعد: 35]{وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} [الحجر: 48].
والمقصود أن القول بفناء الجنة قول مبتدع لم يقله أحد من الصحابة والتابعين، ولا أحد من أئمة المسلمين، وكل من قال به فهو ضال مخرف عن الصواب. والله تعالى أعلم.
وأما خلود أهل النار ففيه نزاع والتحقيق خلودهم وبقاؤها وأنها لا تفنى ولا تبيد.
والحاصل: أن في بقاء الجنة والنار وفنائهما ثلاثة أقوال:
خلود أهلهما وبقاؤها جميعًا وهو الصواب.
وفناؤهما وعدم خلود أهلهما وهو ضلال وباطل.
بقاء الجنة وفناء النار وهو باطل أيضًا.
على أن جماعة من العلماء ذهبوا إليه ومن ثمَّ قال شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه: فيه قولان معروفان عن السلف والخلف والنزاع في ذلك معروف عن التابعين.
قال الإمام المحقق ابن القيم في "حادي الأرواح"(1): وثم أقوال سبعة:
أحدها: من يدخل النار لا يخرج منها أبدًا بل كل من دخلها مخلد فيها وهذا قول الخوارج والمعتزلة.
الثاني: أن أهلها يعذبون فيها مدة ثم تنقلب عليهم وتبقى طبيعتهم نارية يتلذذون بها لموافقتها لطبيعتهم وهذا قول ابن عربي
(1)"حادي الأرواح" 501، وما بعدها.
صاحب الفتوحات وهو مخالف لما علم بالاضطرار من الآيات القرآنية والأخبار المحمدية.
الثالث: أن أهلها يعذبون فيها إلى وقت محدود ثم يخرجون منها ويخلفهم فيها قوم آخرون، وهذا قول حكاه اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم فأكذبهم ونص القرآن على كذبهم، فهو قول اليهود، ومن سلك هذا المسلك فسلفه فيه اليهود أهل المكر والخداع وقد علم فساده من الكتاب والسنة وإجماع الأمّة.
الرابع: قول من يقول يخرجون منها وتبقى نارًا على حالها ليس فيها أحد يعذب حكاه شيخ الإسلام ابن تيمية طيب الله ثراه عن بعض الفرق، والكتاب والسنة يردّانه.
الخامس: أنها تفنى بنفسها لأنها حادثة وما ثبت حدوثه اْستحال وهذا قول جهم وشيعته ولا فرق عنده بين الجنة والنار.
السادس: أنها تفنى حركات أهلها وحياتهم ويصيرون جمادًا لا يتحركون ولا يحسون بألم، وهذا قول أبي حسين العلاف إمام المعتزلة.
والسابع: قول من يقول: بل يفنيها ربها وخالقها تبارك وتعالى فإنه جعل لها أمدًا تنتهي إليه ثم تفنى ويزول عذابها.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه: ونقل هذا عن عمر وابن مسعود وأبي هريرة وأبي سعيد وغيرهم رضي الله عنهم.
وأخرج عبد بن حميد وهو من أجل علماء الحديث عن الحسن رحمه الله قال: قال عمر رضي الله عنه: لو لبث أهل النار في النار
كقدر رمل عالج لكان لهم على ذلك يوم يخرجون فيه (1).
واعلم أن الإمام المحقق ابن القيم قدس الله روحه اْنتصر لهذا القول اْنتصارًا عظيمًا ومال إليه ميلاً جسيما وذكر له خمسة وعشرين دليلا ثم رجع القهقرى وقال إن قيل إلى أين اْنتهى قدمك في هذه المسألة العظيمة قيل إلى قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [هود: 107].
وإلى هنا اْنتهى قدم أمير المؤمنين على بن أبي طالب كرم الله وجهه فيها حيث ذكر دخول أهل الجنة وأهل النار وما يتلقاه هؤلاء وهؤلاء قال ثم يفعل الله بعد ذلك ما يشاء.
ثم قَالَ: وما ذكرنا في هذه المسألة من صواب فمن الله سبحانه وهو المانُّ به وما كان من خطأ فمني ومن الشيطان والله ورسوله بريء منه.
وأقول: الصحيح المعتمد الذي لا محيد عنه بقاء النار كالجنة جَزمًا فالنار لا تفنى ولا تبيد كما أن الجنة لا تفنى ولا تبيد بالنصوص القرآنية والأحاديث المصطفوية، ونحن نقول:{إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} من غير شك ولا ترديد نجزم بأن أهل النار الذين هم أهلها يخلدون فيها أبدًا لا نهاية لأبديّة ذلك، وأما ما ذكره الإمام المحقق عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه فالحسن لم يأخذ عن عمر ولم يسمع منه جزمًا وأيضًا لو سمع منه وثبت ذلك لم ينظر إليه لمخالفته من هو أصح وأثبت
(1)"التخويف من النار" ص 489 - 491.