الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل
واعلم أنَّ النَّار خلقها اللَّه سبحانه وتعالى لعصاة الإنس والجن وبهما تمتليء قال تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا} [الأعراف: 179] الآية وقال تعالى: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [السجدة: 13].
وقال: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَامَعْشَرَ الْجِنِّ} الآية [الأنعام: 128]. وقال: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ (31)} إلى قوله: {فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ} [الرحمن: 31 - 41].
وأمَّا سائر الخلق ما عدا الثقلين فأشرفهم متوعدون على المعصية بالنار وهم يخافون منها. قال تعالى: {وَهُمْ} يعني الملائكة {مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29)} [الأنبياء: 28 - 29] وقد استفاض عن جماعة من الصحابة والتابعين، ومن بعدهم أن هاروت وماروت كانا ملكين، وأنهما خيّرا بعد المعصية بين عذاب الدُّنيا، وعذاب الآخرة فاختارا عذاب الدُّنيا لعلمهما بانقضائه وقد روي فيه حديث مرفوع خرجه الإمام أحمد، وابن حبان في "صحيحه"(1) عن ابن عمر عنه صلى الله عليه وسلم لكن صحح بعضهم أنَّه موقوف. ومحققي علمائنا طعنوا في القصّةِ بأسرها،
(1) انظر "مسند أحمد" 2/ 134. و"صحيح ابن حبان" 14/ 64.
وقالوا: هاروت وماروت بشران أطلق عليهما اسم ملكين لصلاحهما بدليل قراءة ملكين بالكسر. وثمَّ خلاف لم يثبت عن حضرة الرسالة منه شيء وإنَّما نقل عن علماء الكتاب والله أعلم بالصواب.
وخرج الإمام أحمد عن أنس رضي الله عنه أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم سأل جبريل عليه السلام فقال: "مالي لا أرى ميكائيل عليه السلام يضحك". فقال جبريل: "ما ضحك ميكائيل منذ خلقت النار"(1).
وأخرج في الزهد عن أبي عمران الجوني قال: بلغنا أن جبريل عليه السلام جاء إلى النَّبيّ صلى الله عليه وسلم وهو يبكي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما يبكيك يا جبريل؟ " قال: "أوما تبكي أنت يا محمد؟ ما جفت عيني منذ خلقت النار مخافة أن أعصيه فيلقيني فيها" وروي نحوه من وجوه كثيرة مرسلة (2).
وخرج الطبراني (3) عن عمر رضي الله عنه بسند فيه سلام الطويل وهو ضعيف جدًا قال: جاء جبريل عليه السلام إلى النَّبيّ صلى الله عليه وسلم في غير حينه الذي كان يأتيه فيه فقال: "يا جبريل مالي أراك متغير اللونِ؟ " فقال له: "ما جئتك حتى أمر الله بمنافخ النار" قال: "يا جبريل
(1) رواه الإمام أحمد 3/ 224.
وفي "الزهد" ص 88 وأبو الشيخ الأصبهاني في "العظمة" ص 176 (386).
واليبهقي في "الشعب" 1/ 521 (913) باب: في الخوف من الله.
وابن عبد البر في "التمهيد" 5/ 9.
(2)
الشعب (3/ 165، 887).
(3)
الطبراني في "الأوسط" 3/ 89 (2583).
صف لي النَّار، وانعت لي جهنم". فذكر الحديث فقال صلى الله عليه وسلم:"حسبي يا جبريل لا تصدع قلبي فأموت". قال: فنظر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى جبريل وهو يبكي فقال صلى الله عليه وسلم: "تبكي يا جبريل وأنت من اللَّه بالمكان الذي أنت فيه" فقال: "وما لي لا أبكي وأنا أحق بالبكاءِ لعلي أن أكون في علم الله على غير الحال التي أنا عليها وما أدري لعلي ابتلى بما ابتلي به هاروت وماروت، وما ابتلي به إبليس فقد كان من الملائكة" فبكى النَّبيّ صلى الله عليه وسلم، وبكى جبريل عليه السلام فما زالا يبكيان حتى نوديا أن يا محمد، ويا جبريل إن الله قد أمنكما أن تعصياه فارتفع جبريل، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فمر بقوم من الأنصار يضحكون فقال:"أتضحكون ووراءكم جهنم فلو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلًا، ولبكيتم كثيرًا، ولما أسعتم الطعام والشراب، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى اللَّه عز وجل فنودي: يا محمد لا تقنط عبادي فإنَّما بعثتك مبشرًا، ولم أبعثك منفرًا". فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سددوا وقاربوا". وقد علمت أن فيه سلام الطويل وهو ضعيف جدًا بل ربما أشعر سياقه بغير ذلك واستغفر الله العظيم.
وقال محمد بن المنكدر: لمَّا خلقت النَّار طارت أفئدة الملائكة من أماكنها فلمَّا خلق بنوا آدم عادت وأخرج نحوه أبو نعيم عن طاوس (1).
وأما البهائم، والوحوش، والطير فقد روي ما يدل على خوفها من النار قال يحيى بن أبي كثير: بلغنا أنه كان إذا كان يوم نوح داود عليه السلام تأتي الوحوش من البراري، وتأتي السباعُ من الغياض،
(1) انظر "الحلية" 4/ 5.
وتأتي الهوامُ من الجبال، وتأتي الطير من الأوكار، ويجتمع الناس لذلك اليوم، ويأتي داود عليه السلام حتى يرقى المنبر فيأخذ في الثناء على ربِّه فيضجون بالبكاء والصراخ، ثُمَّ يأخذ في ذكر الجنَّة والنَّار فيموت طائفة من الناس، وطائفة من السباع، وطائفة من الهوام، وطائفة من الطير، وطائفة من الوحوش، وطائفة من الرهبان والعذارى المتعبدات، ثُمَّ يأخذ في ذكر الموت وأهوال القيمة، ويأخذ في النياحة على نفسه فيموت طائفة من هؤلاء، وطائفة من هؤلاء، ومن كلّ صنف طائفة. خرجه ابن أبي الدُّنيا.
قلت: وخرجه ناصر السنة الإمام الحافظ ابن الجوزي في "التبصرة"(1) وزاد فيه: فإذا رأى سليمان ما قد كثر من الموتى نادى: يا أبتاه قد مزق المستمعين كلّ ممزق وقتلت طوائف من بني إسرائيل، ومن الرهبان، والوحوش فيقطع النياحة، ويأخذ في الدعاء ويغشى عليه فيحمل على سرير فإذا أفاق قال: يا سليمان ما فعل عباد بني إسرائيل؟ ما فعل فلان وفلان؟ فيقول: ماتوا. فيقوم فيدخل بيت عبادته، ويغلق عليه بابه، وينادي: أغضبان أنت على داود أم كيف قصرت به أن يموت خوفًا منك.
وقد روي مرفوعًا (2) من حديث ابن عمر، وأنس رضي الله عنهم:"إن الذباب كله في النَّار". وفي رواية: "غير النحل" لكن حكم
(1)(1/ 278).
(2)
الطبراني في "الكبير" 12/ 418، 419 (13542)، (13542).
على هذا الحديث الإمام ناصر السنة ابن الجوزي (1) بالوضع.
قلت: وهو في مسند أبي يعلى الموصلي (2) من حديث أنس أن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "عمر الذباب أربعين ليلة، والذباب كله في النَّار إلا النحل" وهو في الكامل في ترجمة عمرو بن شقيق عن مجاهد عن ابن عمر قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "الذباب كله في النار غير النحل"(3) وتعقب الإمام جلال الدين السيوطي الإمام ناصر السنة ابن الجوزي بأن الحديث ليس بموضوع. قال الحافظ ابن حجر في "شرح البخاري"(4): حديث أنس إسناده لا بأس به، وحديث ابن عمر إسناده ضعيف. انتهى.
وقد ورد أيضًا من حديث ابن عباس، وابن مسعود أخرجهما الطبراني بسندين جيدين. قال السيوطي: فالحديث حسن أو صحيح. انتهى (5).
قال بعضُ الفضلاء قيل: كونه في النار ليس بعذاب له بل ليعذب
(1)"الموضوعات"(3/ 265 - 266).
(2)
رواه أبو يعلى 7/ 235 (4231) عن أنس رضي الله عنه.
(3)
الطبراني في "الكبير"(13436، 13542، 13544، 13467، 13468)، انظر "الكامل" 6/ 90 المطالب العالية (2335).
(4)
الفتح على حديث (5782).
(5)
انظر "البدور السافرة في أمور الآخرة"(432) فإنه لما ساق حديث أنس رضي الله عنه ولفظه "الذباب كله في النار إلا النحل"، قال وأخرج الطبراني مثله من حديث ابن عباس وابن عمر وابن مسعود رضي الله عنهم بأسانيد جياد. ا. هـ.
به أهل النار بوقوعه عليهم. كذا هو بالحاء على الصواب وربَّما صحفه بعضهم النمل كما رأيته في نسخةٍ قديمة: "النمل" بالميم وهو غلط واللَّه تعالى أعلم.
وأمَّا الجمادات فقد أخبر سبحانه أنَّها تخشاه قال تعالى: {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [البقرة: 74]. قال ابن عباس: إنَّ الحجر ليقع على الأرض ولو اجتمع عليه ألف من الناس ما استطاعوه وإنَّه يهبط من خشية اللَّه (1).
وفي تاريخ الدول: لمّا أراد الله تعالى خلق آدم عليه السلام أوحى إلى الأرض: إنِّي أريد أن أخلق فيك خلقًا فنهم من يطيعني، ومنهم من يعصيني فمن أطاعني أدخلته جنتي، ومن عصاني أدخلته النَّار فبكت الأرض فانفجرت منها العيون إلى يوم القيامة.
وأخرج ابن أبي الدُّنيا (2) عن الفضيل بن عياض وكان من الأبدال، وكانت الدموع قد أثرت في وجهه، وكان يصوم الدّهر، ويفطر كلّ ليلة على رغيف قال: مرّ عيسى عليه الصلاة والسلام يحبل بين نهرين نهر عن يمينه، ونهر عن يساره ولا يدري من أين يجيء هذا الماء ولا أين يذهب فسأله: من أين يجيءُ هذا الماء؟ قال: أمَّا الذي عن يميني فمن دموع عيني اليمنى، وأما الذي يجري عن يساري فمن دموع عيني اليسرى. قال: مم ذاك؟ قال: خوفًا من ربي أن يجعلني من
(1) تفسير ابن أبي حاتم (762).
(2)
صفة النار (233) الشعب للبيهقي (3/ 180).
وقود النار. قال عيسى: فأنا أدعو اللَّه عز وجل أن يهبك لي فدعا اللَّه له، فقال عيسى: قد وهبت لي. قال: فانفجر منه من الماء حتى احتمل عيسى فذهب به. قال عيسى: اسكن بقدرة اللَّه فقد استوهبتك من ربِّي فوهبك لي فما هذا البكاء قال: "أمَّا البكاء الأول فبكاء الخوف، وأما البكاء الثاني فبكاء الشكر".
قلت: قد يكون البكاء عن حزن، وقد يكون عن فرح وقد جاء أنَّ أبا بكر رضي الله عنه لمَّا قال للنبي صلى الله عليه وسلم في حديث الهجرة وقد قال له:"إن اللَّه قد أذن لي في الخروج"(1) فقال له: الصحبة بأبي أنت وأمي يا رسول اللَّه. قال: "نعم" فبكى الصديق رضي الله عنه سرورًا بصحبة حبيبه، وحبيب كلّ مسلم صلى الله عليه وسلم في الهجرة. قالت عائشة رضي الله عنها: فرأيت أبا بكر يبكي وما كنت أحسب أنَّ أحدًا يبكي من الفرح حتى رأيت أبا بكر رضي الله عنه يبكي. وما أحسن قول من قال في ذلك:
ورد الكتاب من الحبيب بأنَّه
…
سيزورنا فاستعبرت أجفاني
غلبَ السرورُ عليّ حتَّى أنَّه
…
من عظم ما قد سرَّني أبكاني
يا عين صار الدمع عندك عادة
…
تبكين من فرح ومن أحزاني
وقد ذكر الإمام المحقق ابن القيم طيب اللَّه ثراه في كتابه "الهدي"(2) للبكاء أنواعًا.
وملخص ذلك أنَّه تارة يكون للرقة، والرحمة. الثاني:
(1) رواه البخاري (2138) في البيوع، باب: إذا اشترى متاعًا أو دابة.
(2)
(1/ 184) مع اختلاف في بعض الكلمات أو زيادة.
بكاء الخوف، والخشية. الثالث: بكاء المحبة، والشوق. الرابع: بكاء الفرح، والسرور. الخامس: بكاء الجزع من ورود المؤلم، وعدم احتماله. السادس: بكاء الحزن، والفرق بينه وبين بكاء الخوف أنَّ بكاء الحزن يكون عمَّا مضى من حصول مكروه، أو فراق محبوب، وبكاء الخوف لما يتوقع في المستقبل من ذلك. والفرق بين بكاء السرور والفرح وبكاء الحزن أنَّ دمعة السرور باردة، والقلب فرحان ودمعة الحزن حارة والقلب حزين قلقان. ولهذا يقال لما يفرح به: هو قرة عين، وأقر اللَّه عينه، ولما يُحزن هو سخينة العين وأسخن اللَّه عينه. السابع بكاء الخور والضعف. الثامن: بكاء النفاق وهو أن تدمع العينُ والقلب قاس فيظهر صاحبه الخشوع، والبكاء، وسفك الدموع وهو من أقسى الناس قلبًا. التاسع: بكاء المعار والمستأجر عليه كبكاء النائحة بالأجرة فإنَّها كما قال سيدنا عمر رضي الله عنه: تبيع عبرتها، وتبكي شجو غيرها. العاشر: بكاء الموافقة وهو أن يرى الرجل الناس يبكون لأمر ورد عليهم فيبكي معهم ولا يدري لأيّ شيء يبكون وما كان من ذلك دمعًا بلا صوت فبكى بالقصر وما كان معه صوت فبالمد كما قال الشاعر:
بكَتْ عيني وحقَّ لها بُكاها
…
وما يغني البكاء ولا العويل
وما كان مستدعيًا متكلفًا فالتباكي وهو نوعان: محمود: وهو أن يستجلب لرقة القلب وخشية اللَّه لا للرياء والسمعة. ومذموم: وهو ما كان لذلك واللَّه تعالى أعلم.
واعلم أنَّ هذه النَّار التي في الدُّنيا من نار جهنم فقد روى ابن ماجه عن أنس رضي الله عنه، عن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ناركم هذه
جزء من سبعين جزءًا من نار جهنم ولولا أنها أطفئت بالماء مرتين لما انتفعتم بها وإنَّها لتدعوا اللَّه أن لا يعذبها فيها" وفيه بقية ضعيف. وروي عن أنس موقوفًا، وخرجه الحاكم عنه وزاد بعد قوله: "ما انتفعتم بها" "وأيم اللَّه إن كانت لكافية وإنَّها لتدعوا اللَّه، وتستجير به أن لا يعذبها في النار أبدًا" (1). قال الحاكم: صحيح الإسناد واعترضه الحافظ ابن رجب بأنَّ فيه حسن بن فرقد ضعيف.
وخرج ابن أبي الدُّنيا عن أبي رجاء قال: لمَّا ألقي إبراهيم عليه الصلاة والسلام في النَّار أوحى اللَّه تعالى إليها إن أنت ضررتيه، أو آذيتيه لأردنك إلى النار الكبرى فخرت مغشيًا عليها ثلاث أيام لا ينتفع الناس منها بشيء وقال أبو عمران الجوني: بلغنا أنَّ عبد اللَّه بن عمرو رضي الله عنهما سمع صوت النار فقال: فقيل له: ما هذا؟ فقال: والذي نفسي بيده إنَّها تستجير من النار الكبرى. وقال مجاهد: ناركم هذه تعوذ من نار جهنم (2).
فقد ذكرنا أن جميع مخلوقات اللَّه تخاف من النار وذلك لأنَّها أثر انتقامه وغضبه، وأن خواص خلقه أشد خوفًا وإشفاقًا وقد ذكرنا من ذلك طرفًا وذكر الإمام ناصر السنة ابن الجوزي في "التبصرة" أن إبراهيم الخليل كان إذا قام في الصلاة يسمع لصدره أزيز من شدة
(1) رواه الحاكم 4/ 635. وابن ماجه (4318) في الزهد، باب صفة النار. والحاكم في "المستدرك" 4/ 593 في الأهوال، باب: ما من مسلمين يموت لهما أربعة إلا أدخلهم الله الجنة. وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
(2)
هذا الأثر وما قبله في صفة النار لابن أبي الدنيا (149، 150).