الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وذكر ابن أبي الدنيا (1) عن صالح المري عن يزيد الرقاشي قال: بلغني أنَّ نورًا سطعَ في الجنَّة لم يبق موضع من الجنَّة إلَّا دخل من ذلك فيه، فقيل ما هذا؟ قيل: حوراء ضحكت في وجه زوجها قال صالح: فشهق رجل مِن ناحية المجلس فلم يزل يشهق حتى مات فنسأل الله سبحانه أنْ يرزقنا منهنَّ ما تقرّ به العيون، وتنشرح به الصدور بمنه، وكرمه.
فصل
وأمَّا نكاحهم، ووطؤهم، والتذاذهم فقد قال صلى الله عليه وسلم:"إنَّ الرجل ليصل في اليوم إلى مائة عذراء" إسناده صحيح (2).
وأخرج ابن وهب عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّه قال: يا رسُولَ الله صلى الله عليك وسلم أنطأ في الجنَّة؟ قال: "نعم والذي نفسي بيده (3) دَحمًا دَخمًا فإذا قام عنها رجعت مطهرة بكرًا" ورواه الطبراني (4) عن أبي أمامة بلفظ: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم هل يتناكح أهل الجنَّة؟ قال:
(1) ابن أبي الدنيار في "صفة الجنَّة" ص 241.
(2)
رواه أبو يعلى 4/ 326 (2436) من حديث ابن عباس ورواه من حديث أبي هريرة: الطبراني في "الأوسط" 1/ 219 (718)، و 5/ 263 (5267)، وفي "الصغير" 2/ 68.
(3)
ورد بهامش الأصل: قوله: دحمًا، الدحم: الدفع الشديد.
(4)
رواه الطبراني في "الكبير" 8/ 160 (7674)، 8/ 172 (7721)، وابن حبان في "زوائده"(2633، 2634).
"بذكر لا يمل، وشهوة لا تنقطع دحما دحما" وفي رواية زيادة: "ولكن لامني ولا منية"(1) أي: لا إنزال، ولا موت.
وأخرجَ الحاكم عن الأوزاعي في قوله تعالى {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55)} [يس: 55]، قال: شغلهم افتضاض الأبكار (2). وقال مقاتل: شغلوا بافتضاض الأبكار عن أهل النار فلا يذكرونهم، ولا يهتمون لهم وكذا قال ابن عباس، وغيره من المفسرين (3).
وأخرج ابن أبي الدنيا عن سعيد بن جبير: إنَّ شهوته لتجري في جسده سبعين عامًا يجد اللذة (4) ولا يلحقهم بذلك جنابة فيحتاجون إلى التطهير، ولا ضعف، ولا انحلال قوة بل وطئهم وطئ التذاذ نعيم لا آفة فيه بوجه من الوجوه، وأكمل الناس فيه لذة أصونهم (5) لنفسه في هذه الدار عن الحرام فكما أنَّ من شربَ الخمرَ في الدُنيا لم يشربها في الآخرة، ومن لبسَ الحريرَ في الدنيا لم يلبسه في الآخرة، ومنْ أكل في صحافِ الذَّهب والفضة في الدنُّيا لم يأكل فيها في الآخرة كما قال
(1) الطبراني في "الكبير"(7674)، وأبي نعيم في "صفة الجنَّة"(368، 369).
(2)
البيهقي في "البعث"(361).
(3)
انظر "صفة الجنَّة" لأبي نعيم (375، 376)، و"البعث والنشور" للبيهقي (362).
(4)
ابن أبي الدنيا في "صفة الجنَّة" ص 196 (278).
(5)
في (ب): أصوبهم.
النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "إنَّهَا لهم في الدنيا، ولكم في الآخرة" فمن استوفي طيباته، والتذاذاته واذهبها في هذه الدار المضمحلة حرمها هناك (1). كما نفي سبحانه وتعالى عمَّن أذهب طيباته في الدُّنيا، واستمتع بها النعيم ثم واللذة وأذاقهم عذاب الهون في الدنيا والآخرة ككفتي الميزان ما زيد في إحداهما كان نقصًا، وبخسًا من الأخرى، ولهذا كانت الصحابة رضي الله عنهم، ومن تبعهم يخافون من ذلك أشد الخوف.
وذكر الإمام أحمد طيب الله ثراه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه رآه الإمام عمر رضي الله عنه، ومعه لحم قد اشتراه لأهلهِ فقال: ما هذا؟ قال: لحم اشتريته لأهلي بدرهم فقال: أوكلما اشتهى أحدكم شيئًا اشتراه أمَا سمعتَ الله تعالى يقول: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} [الأحقاف: 20](2).
وأخرج الإمام أحمد قدَّس الله روحه قال: قدم وفد أهل البصرة مع أبي موسى رضي الله عنه على عمر - رضوان الله عليه - قال بعضُ الوفدِ فكنا ندخل عليه كلّ يوم وله خبز ثلاثة ربمَّا وافقناها مأدومة بالسمن، وربما وافقناها مأدومة بالزيت، وربما وافقناها مأدومة باللبن، وربما وافقنا القدائد اليابسة قد دقت ثُمَّ أغلابها، وربما وافقنا
(1) البخاري رقم (5426) مسلم (2567).
(2)
الموطأ لمالك رواية أبي مصعب (2/ 111) الزهد للإمام أحمد (120) الزهد لابن المبارك (103).
اللحم العريض وهو قليل، فقال ذات يوم: إنَّي والله قد أدى تعذيركم، وكراهتكم لطعامي إنِّي والله لو تشيئت (1) لكنت من ألينكم طعامًا، وأرقكم عيشًا، ولكني سمعت الله (2) عير قومًا بأمرِ فعلوه، فقال:{أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} .
فمن تركَ اللذةَ المحرمةَ استوفاها يومَ القيامةِ أكمل ما تكون، ومن استوفاها هاهنا حرمها ثَم أو نْقِص كمالها فلا يجعل الله لذة من عكف على معاصيه، ومحارمه كلذة من ترك شهوته لله أبدًا.
قلت: وبالجملة كلّ من ترك شيئًا لله عوضه الله خيرًا منه، أو عوّضه ذلك الشيء بنفسه (3) على وجه مباح شرير.
وقد حكى الإمام الحافظ ناصر السنة أبو الفرج ابن الجوزي طيَّب الله ثراه في كتاب "التبصرة" عن بعض السلف قال: كان لنا جار من المتعبّدين قد برز في الاجتهاد فصلىَّ حتَّى تورمتْ قدماه، وبكى حتَّى مرضت عيناه، فاشترى جاريةً وكانت تحسن الغناء وهو لا يعلم فبينا هو في محرابه رفعتْ صوتها بالغناء، فطار لبّه، ورام ما هو عليه من التعبد فلم يقدر عليه فقالتْ له الجارية: يا مولاي لقد أبليت شبابكَ، ورفضت لذات الدُّنيا في أيام حياتك فلو تمتعت بي
(1) في (ب): شئت، وهو أصح.
(2)
في (ب): تعالى. والأثر في الزهد لابن المبارك (204) طبقات ابن سعد (3/ 279).
(3)
في (ب): ساقطة.
فمال إلى قولها، وترك التعبد، واشتغلَ بفنون اللذات، فبلغ ذلك أخًا له كان يوافقه في العبادةِ فكتب إليه.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنَ الناصح الشَّفيق، والطبيب الرفيق (1) إلى مَنْ سلب حلاوة الذكر، والتلذذ بالقرآن بلغني أنكَ اشتريت قينة بعْت بها حظك من الآخرة فإنْ كنتَ بعت الجزيل بالقليل، والقرآن بالقيان فإنِّي محذرك هاذم اللذات، ومنغص الشهوات فكأنه قد جاءك على غرة فأبكم منك اللسان، وهدم منك الأركان وقرَّب منك الأكفان، واحتوشك الأهل والجيران، وأحذرك من الصَّيحة إذا جثت الأمم لملك جبار.
ثمَّ طوى الكتاب، وبعثه إليه، فوافاه وهو على مجلس سروره فأذهله، وأغصه بريقه فنهض من مجلسه، وعاد إلى اجتهاده حتَّى مات فقال الذي وعظه فرأيته في المنامِ بعد ثلاث فقلت ما فعل الله بك، فقال شعر:
الله عوضني ذو العرش جارية
…
حوراء تغنيني طورًا وتسقيني
تقول لي اشرب بما قد كنت تأملني
…
وقر عينًا مع الولدان والعين
يا مَنْ تخلَّى عن الدُّنيا وأزعجه
…
عن الخطايا وعيد في الطواسين
وقد ذكرت لهذا يعنى مَنْ ترك شيئًا لله عوّضه الله خيرًا منه بابا في مجموعي "نديم الندماء" وذكرت ثَمَ أشياء توفي بالمراد فعلى العاقل أن
(1) في (ب): الرقيق، وما أثبت يوافق التبصرة لابن الجوزي (1/ 372).
يستدركَ ما فاتَ مِنَ الهفوات، وأنْ ينخلعَ عن المساوئ، والآفات، وأن لا ينهمك في زخارف الدُّنيا الدنية، واللذات فإنَّ ذلك يجلب الندامة، ويورث المهالك، والعاهات يومَ القيامة هذا وباب التوبة مفتوح لمَنْ طلبه والمولى صفوح لمن تركَ مِنْ أجله ذنبه شعر:
مولاي جئتك والرجاء
…
قد استجار بحسن ظني
أبغي فواضلك التي
…
تمحو بها ما كان مني
فانظر إليَّ بحق لطـ
…
ـفك يا إلهي واعف عني
لا تخزني يومَ المعا
…
دِ بما جنيت ولا تهني (1)
(1)"التبصرة" 1/ 381 - 382.