المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

من الجنَّة كيف ينام طالبها، وعجبت من النار كيف ينام - البحور الزاخرة في علوم الآخرة - جـ ٣

[السفاريني]

فهرس الكتاب

- ‌الكتاب الرابع في ذكر الجنَّة وصفاتها، وذكر نعيمها ولذاتها

- ‌الباب الأول في ذكر أبوابها وما يتعلق بذلك

- ‌فصل في مفتاح الجنَّة

- ‌الباب الثَّاني في مكان الجنَّة ومنشورها وتوقيعها وتوحد طريقها

- ‌فصل

- ‌فصل في توحيد طريق الجنَّة

- ‌الباب الثالث في درجات الجنةِ وأعلاها وما أسم ملكاً الجنَّة

- ‌فصل

- ‌الباب الرابع في عرض الرب الجنَّة على العباد، وعدد الجنان، وأسمائها، وذكر السابقين إليها وإن كثر أهلها

- ‌فصل

- ‌فصل في أسماءِ الجنَّةِ ومعانيها واشتقاقها

- ‌فصلٌ في عددِ الجنات وأنواعها

- ‌فَصْلٌ

- ‌فصلٌ في ذكر أوَّل من يقرع بابَ الجنَّةِ

- ‌فصل

- ‌فصل وتقدم أنَّ الفقراء يسبقون الأغنياء إلى الجنةِ بخمسمائة عام

- ‌فصل في أصناف أهل الجنة الذين ضمنت لهم دون غيرهم

- ‌فصل في أنَّ أكثر أهل الجنة هذه الأمّة المطهرة

- ‌الباب الخامس في تربة الجنة ونورها وغرفها وقصورها وخيامها وما يلحق بذلك

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌الباب السادس في صفة أهل الجنة وأعلاهم وأدناهم منزلة وتحفتهم إذا دخولها

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌الباب الثامن في ذكر أنهار الجنَّة وعيونها، وطعام أهلها، وشرابهم، ومصرف ذلك وآنيتهم

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌الباب التاسع في ذكر لباس أهل الجنَّة، وحليهم، ومناديلهم، وفرشهم، وبسطهم، ووسائدهم وسررهم وأرائكهم

- ‌فصل ومن ملابس أهل الجنَّةِ التيجان على رءوسهم

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌الباب العاشر في ذكر خدم أهل الجنَّة، وغلمانهم، ونسائهم، وسراريهم، والمادة التي خلق منها الحور العين، ونكاحهم، وهل في الجنَّة ولد أم لا

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل في الإشارة إلى غريب هذا الحديث العظيم

- ‌الباب الحادي عشر في ذكر سماع أهل الجنَّة، وغناء الحور العين، وذكر مطاياهم، وزيارة بعضهم بعضًا

- ‌فصل

- ‌فصل زيارة أهل الجنَّة لبعضهم بعضا

- ‌فصل في ذكر سوق الجنَّة، وما أعدَّ الله فيها لأهلها

- ‌فصل

- ‌فصل في تكليمه سبحانه وتعالى لأهل الجنَّة

- ‌الباب الثالث عشر في أن الجنَّة فوق ما يخطر بالبال، ويتوهمه الخيال، أو يدور في الخلد، وفوق ما يصف كلّ أحد كيف؟ وموضع سوط منها خير من الدُّنيا وما فيها

- ‌الباب الرابع عشر في فصول جامعة وحكم هامعة

- ‌الفصل الأول في ذكر آخر أهل الجنَّةِ دخولًا

- ‌الفصل الثاني في لسان أهل الجنَّةِ

- ‌الفصل الثالث في احتجاج الجنَّة والنَّار

- ‌الفصل الرابع في امتناع النوم على أهل الجنَّةِ

- ‌الفصل الخامس في ارتقاء العبدِ وهو في الجنَّة من درجة إلى درجة أعلى منها

- ‌الفصل السادس في إلحاق ذرية العبد المؤمن به في الدرجة وإن لم يعملوا عمله

- ‌الفصل السابعفي مسألة عظيمة، ونكتة جسيمة

- ‌الفصل الثامن ترفع جميع العبادات في الجنَّة إلا عبادة الذكر فإنها دائمة، لا تبيد، ولا ترفع حتى في دار الجزاء

- ‌الباب الخامس عشر فيمن يستحق لهذه الدار من الملل والأنفار

- ‌تتمة

- ‌الكتاب الخامس في ذكر النار وصفاتها وشدة عذابها أعاذنا الله تعالى منها بمنه وكرمه

- ‌الباب الأول في ذكر الإنذار والتحذير من النَّار، والخوف منها، وأحوال الخائفين من تلك الدار

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌الباب الثاني في ذكر مكان جهنم وطبقاتها ودركاتها وصفاتها وقعرها وعمقها

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌الباب الثالث في ذكر أبواب جهنم وسرادقها وظلمتها وشدة سوادها

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل وأما ظلمتها وشدة سوادها

- ‌الباب الرابع في شدة حر جهنم وزمهريرها وسجرها وتسعيرها وتغيظها وزفيرها أعاذنا اللَّه منها

- ‌فصل وأما زمهريرها

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل في ذكر دخان جهنم وشررها ولهبها

- ‌الباب الخامس في ذكر أودية جهنم وجبالها وعيونها وأنهارها

- ‌ما جاء في جبال جهنم أجارنا اللَّه منها ووالدينا

- ‌الباب السادس في ذكر سلاسلها وأغلالها وحجارتها وأنكالها وحياتها وعقاربها

- ‌فصل وأما حجارتها

- ‌فصل وأما حيات جهنم وعقاربها

- ‌الباب السابع في ذكر طعام أهل النار وشرابهم وكسوتهم وثيابهم

- ‌فصل وأمَّا شرابهم

- ‌فصل وأما كسوة أهل النار وثيابهم

- ‌فصل

- ‌الباب الثامن في عظم خلق أهل النار، وقبحهم، وأنواع صفاتهم بحسب أعمالهم

- ‌فصل في أنواع عذاب أهل النار، وتفاوتهم في ذلك في دار البوار على حسب ما اقترفوا من الذنوب والأوزار

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل فيما يتحف به أهل النارِ عند دخولهم دار البوار أعاذنا الله منها بمنه وكرمه

- ‌فصل في بكاء أهل النار وزفيرهم وشهيقهم وصراخهم ودعائهم الذي لا يستجاب لهم

- ‌فصل

- ‌فصل في نداء أهل النار أهل الجنة، وأهل الجنة أهل النار، وكلام بعضهم بعضا

- ‌الباب التاسع في ذكر خزنة جهنَّم، وزبانيتها

- ‌الباب العاشر في ذكر حال الموحدين في النار، وخروجهم منها برحمة أرحم الراحمين، وشفاعة الشافعين وفي أكثر أهل النار، وأصنافهم

- ‌فصل

- ‌فصل في حسن الظن بالله تعالى

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل في ذكر أوّل من يدخل النار من سائر البشر وفي أول من يدخلها من عصاة الموحدين

- ‌تتمة في مسائل متفرقة

- ‌المسألة الأولى في خلود أهل الدارين فيهما:

- ‌المسألة الثانية في أصحاب الأعراف

- ‌المسألة الثالثة: في أطفال المشركين

- ‌المسألة الرابعة: في أهل الفترة ونحوهم

- ‌الخاتمة وفيها فصلان

- ‌الفصل الأوّل في التوبة

- ‌فصل

- ‌الفصل الثاني: في المحبة

- ‌المقصد الأوّل: في لزوم المحبة له سبحانه وتعالى

- ‌المقصد الثاني: في علامات المحبة الصادقة والتذاذ المحبين بها

- ‌ومحبة الرسول صلى الله عليه وسلم على درجتين:

- ‌تكملة في بعض أحوال أهل المحبة وهي أكثر من أن تذكر في مثل هذا المختصر وأعظم من أن تحصر أو تحد بالنظر

- ‌الخاتمة

الفصل: من الجنَّة كيف ينام طالبها، وعجبت من النار كيف ينام

من الجنَّة كيف ينام طالبها، وعجبت من النار كيف ينام هاربها، ثُمَّ يقول:{أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98)} (1)[الأعراف: 98] الآية.

وخرج الإمام أحمد في: "الزهد"(2) عن أبي الجوزاء أنه قال: (لو وليت من أمر الناس شيئًا أتخذت منارًا (أي: بفتح الميم: مكانًا مرتفعًا) على الطريق، وأقمت عليها رجالًا ينادون الناس النَّار النَّار.

وأخرج ولدُه في: "زوائد الزهد"(3) عن ابن دينار أنه قال: لو وجدت أعوانًا لفرقتهم ينادون في منار الذُنيا كلها: يا أيها الناس النَّار النَّار. وفي لفظ لو وجدت أعوانا لناديت في منار البصرة (أي: بفتح الموحدة وكسرها) بالليل: النَّار النَّار النَّار.

‌فصل

وأمَّا الخوف من النَّار فقال تعالى: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66)} [الفرقان: 65].

وقال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28)} [المعارج: 27، 28].

وقال: {ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} [إبراهيم: 14]

(1) انظر "التخويف من النار" ص 18.

(2)

"حلية الأولياء"(2/ 119).

(3)

"حلية الأولياء"(2/ 371).

ص: 1263

وقال: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (25) قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27)} [الطور: 25، 27].

قال إبراهيم التيمي رحمه الله: ينبغي لمن لم يحزن أن يخاف أن يكون من أهل النار؛ لأنَّ أهل الجنَّةِ قالوا: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} [فاطر: 34]، أي: فإنه يدل على أنهم كانوا متلبسين به في حال الدُّنيا؛ لأن قولهم: {أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} يقتضي أنهم كانوا محزونين، ومتصفين به فعوضهم اللَّه فرحًا دائمًا، وسرورًا لا انقضاء له. قال: وينبغي لمن لم يشفق أن يخاف أن لا يكون من أهل الجنَّة؛ لأنهم قالوا: {إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ} (1) وكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كثيرًا ما يستعيذ من النار، ويأمر بذلك في الصلوات، وغيرها والأحاديث في ذلك أكثر من أن تستقصى. قال أنس رضي الله عنه: كان أكثر دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة: 201] أخرجه البخاري (2).

وأخرج النسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع النَّبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: "اللهم إني أعوذ بك من حرّ جهنم"(3).

(1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" 4/ 215، والبيهقي في "شعب الإيمان" 1/ 517.

(2)

رواه البخاري (6389) في الدعوات، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم "ربنا آتنا في الدنيا حسنة".

(3)

رواه النسائي (5520) في الاستعاذة، باب: الاستعاذة من حر النار.

ص: 1264

وأخرج أبو داود وابن ماجه عن جابر رضي الله عنه: أنَّ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم قال لرجل: "كيف تقول في الصلاة؟ " قال: أتشهد، ثُمَّ أقول اللهم إني أسألك الجنَّة وأعوذ بك من النار أمَّا إني لا أحسن دندنتك، ولا دندنة معاذ فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم:"حولها ندندن"(1) وأخرجه البزار بلفظ: "وهل أدندن (2) أنا ومعاذ إلا لندخل الجنَّة، ونعاذ من النَّار؟! "

قال الحافظ في "التخويف": روينا عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "إنما يدخل الجنَّة من يرجوها، ويجنب من النار من يخافها، وإنمَّا يرحم اللَّه من يرحم"(3) وخرجه أبو نعيم (4) وعنده: "وإنما يرحم اللَّه من عبادهِ الرحماء"(5) وقال: غريب: قال الحافظ: ورواه ابن عجلان عن زيد مرسلًا قال: والمرسل أشبه (6). وقال الإمام عمر رضي الله عنه: لو نادى منادٍ من السماء: أيها الناس إنكم داخلون الجنَّة كلكم إلا رجلًا واحدًا لخفت أن أكون أنا هو. خرجه أبو نعيم (7).

(1) رواه أبو داود (793) في الصلاة، باب: في تخفيف الصلاة.

وابن ماجه (910) في إقامة الصلاة باب: ما يقال بعد التشهد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (3847) في الدعاء، باب: الجوامع من الدعاء عن أبي هريرة.

(2)

في (أ): أندندن وما أثبت من (ب).

(3)

انظر الحافظ في "التخويف" ص 21.

(4)

أبو نعيم في "الحلية" 3/ 225.

(5)

أخرجه في "الحلية" 3/ 225. وهو في "الصحيحين" في "البخاري" (1284)، و"مسلم" (923).

(6)

"الحلية" 3/ 225.

(7)

"الحلية" 1/ 53.

ص: 1265

وخرج الإمام أحمد (1) عن عثمان رضي الله عنه أنه قال: لو أني بين الجنَّة والنَّار ولا أدري إلى أيتهما يذهب بي لاخترت أن أكون رمادًا قبل: إن أعلم إلى أيتهما أصير.

وأعلم أنَّ الخوف من عذاب جهنمَّ لا يخرج عنه أحد من الخلق، وقد توعد اللَّه سبحانه خاصته (2) على المعصية قال تعالى:{ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا (39)} [الإسراء: 39]. وقال في حق الملائكة: {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29)} [الأنبياء: 29].

وثبت عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة قال:"فيأتون آدمَ فيقول آدم: إنَّ ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضبَ بعده مثله، وإنَّه أمرني بأمرٍ فعصيته فأخافُ أن يطرحني في النار انطلقوا إلى غيري نفسي نفسي" وذكر في نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى مثل ذلك كلهم يقول:"إني أخاف أن يطرحني في النَّار" خرجه ابن أبي الدُّنيا، وخرجه مسلم بنحوه، وكذلك البخاري (3). قال الحافظ ابن رجب ولم يزل الأنبياء

(1)"حلية الأولياء"(1/ 65).

(2)

زيادة من (ب).

(3)

رواه البخاري (3340) في أحاديث الأنبياء، باب: قول الله عز وجل: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} ، (4712) في التفسير، باب:{ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3)} .

ص: 1266

عليهم السلام، والصديقون، والشهداء، والصالحون يخافون النار، ويخوفون منها فأمَّا ما يُذكر عن بعض العارفين من عدم خشية النَّار فالصحيح منه له وجه سنذكره إن شاء اللَّه تعالى (1). قال ابن المبارك عن وهب بن منبه: قال حكيم من الحكماء: إنِّي لأستحي من اللَّه عز وجل أن أعبده رجاء ثواب الجنَّة (أي: فقط) فأكون كالأجير السوء إن أعطى عمل، وإن لم يعط لم يعمل، وإنَّي لأستحي من اللَّه تعالى أن أعبده مخافة النَّار (أي: فقط) فأكون كالعبد السوء إن رهب عمل، وإن لم يرهب لم يعمل، وإنه يستخرج حبه مني ما لا يستخرجه مني غيره. خرجه أبو نعيم (2).

وفيه تفسير لهذا الكلام من بعض رواته وهو أنَّه ذم العبادة على وجه الرجاء وحده أو على وجه الخوف وحده هذا حق. وكان بعض السلف يقول: من عبد اللَّه بالرجاء وحده فهو مرجي، ومن عبده بالخوف وحده فهو حروري، ومن عبد اللَّه تعالى بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبد اللَّه تعالى بالخوف، والرجاء، والمحبة فهو موحد مؤمن وسبب هذا أنه يجب على المؤمن أن يعبد اللَّه بهذه الثلاثة فلابد له من جمعها ومن أخلّ ببعضها فقد أخلَّ ببعض واجبات الإيمان وكلام هذا الحكيم يدلّ على أنَّ الحب ينبغي أن يكون أغلب من الخوف والرجاء كذا قال الحافظ رحمه الله، وقد قال الفضيل بن عياض رحمه

(1) انظر "التخويف من النار" ص 21 - 22.

(2)

انظر "الحلية" 4/ 53.

ص: 1267

اللَّه تعالى: المحبة أفضل من الخوف. ثُمَّ استشهد بكلام هذا الحكيم. وقال يحيى بن معاذ: حسبك من الخوف ما يمنع من الذّنوب، ولا حسب من الحب أبدًا.

فأمَّا الخوف، والرجاء فأكثر السلف على أنَّهما يستويان لا يرجح أحدهما على الآخر قاله الإمام أحمد، والحسن، ومطرف، وغيرهم. قال شيخ الإسلام ابن تيمية قدس اللَّه روحَه: يكونان كجناحي الطير فأيهما غلب صاحبه وقع، أو هلك. ومنهم من رجح الخوفَ على الرجاء وهو محكي عن الفضيل، وأبي سليمان. وعلى القول بتسويتهما وهو المعتمد جاء عن حذيفة المرعشي رحمه اللَّه تعالى: إنَّ عبدًا يعمل على خوفٍ لعبدُ سوء، وإنَّ عبدًا يعمل على رجاء لعبد سوء كلاهما عندي سواء.

قال الحافظ: مراده إذا عمل على إفرادِ أحدهما عن الآخر.

وقال بعضهم: لا تكونوا كالعاملِ يقال له: تعمل كذا وكذا.

فيقول: نعم إنْ أحسنتم لي من الأجر ومراده من لا يلحظ في العمل إلا الأجر.

قال الحافظ: وهؤلاء العارفون لهم ملحظان: أحدهما: إن اللَّه يستحق لذاته أن يُطاعَ، ويُحب، ويبتغى قربه، والوسيلة إليه مع قطعِ النَّظر عن كونه يثيب عباده، أو يعاقبهم كما قال القائل:

هب البعث لم تأتنا رسله

وجاحمة النار لم تضرم

أليس من الواجب المستحق

حياء العبادِ من المنعم

ص: 1268

فقد أشار على أن نعمه على عباده تستوجب شكره عليها، وحياءهم منه وهذا الذي أشار إليه النَّبيّ صلى الله عليه وسلم لمَّا قام حتَّى تورمت أقدامه، فقيل له أتفعل هذا وقد غفر اللَّه لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! فقال:"أفلا أكون عبدًا شكورًا"(1).

والملحظ الثاني: إنَّ أكمل الخوف، والرجاء متعلق بذات الحق سبحانه دون ما تعلق بالجنة والنار فأعلى الخوف: خوف البعد، والسُّخط، والحجاب عنه، كما قال تعالى {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16)} (2) [المطففين: 15 - 16] قدَّم عذاب الحجاب على عذاب صليهم النار؛ لأنه بالنسبة إليه كالعذاب. قال ذو النون رحمه الله: خوف النار عند خوف الفراق كقطرة في بحر

(1) رواه البخاري (4836) في التفسير، باب: ليغفر لك ربك ما تقدم من ذنبك وما تأخر.

ومسلم (2819) في صفة الجنة والنار، باب: إكثار الأعمال والاجتهاد في العبادة.

والترمذي (412) في الصلاة، باب: ما جاء في الاجتهاد في الصلاة.

قال أبو عيسى: حديث حسن صحيح.

والنسائي 3/ 219 في "المجتبى" في قيام الليل وتطوع النهار، باب: إحياء الليل.

وفي "الكبرى"(1325) في قيام الليل وتطوع النهار، باب: ذكر صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالليل واختلاف ألفاظ الناقلين لذلك.

وابن ماجه (1419) في إقامة الصلاة، باب: ما جاء في طول القيام في الصلاة.

وأحمد 4/ 251.

وابن خريمة (1183).

(2)

انظر "التخويف من النار" ص 24.

ص: 1269

لجي، كما أنَّ أعلى الرجاء ما تعلَّق بذاته سبحانه من رضاه، ورؤيته، ومشاهدته، وقربه ولكن قد يغلط بعض الناس في هذا فيظن أنَّ هذا كله ليس بداخل في مسمى نعيم الجنَّة، ولا في مسمى الجنَّة إذا أطلقت ولا في مسمى عذاب النار إذا أطلقت وليس الأمر كذلك. قال الإمام المحقق في كتابه:"شرح منازل السائرين"(1) بعد قول شيخ الإسلام صاحب المنازل في منزلة تعظيم حرمات اللَّه تعالى: الدرجة الأولى: تعظيم الأمر، والنهي لا خوفًا من العقوبة فيكون خصومة للنفس، ولا طلبًا للمثوبةِ فيكون مستشرفًا للآخرة، ولا شاهدًا لأحدٍ فيكون متزينًا بالمراءاة فإنَّ هذه الأوصاف كلها تبعث (2) من عبادة النفس. فذكر الشارح كلام المعظم لهذا المقام، والطاعن في هذا الكلام بسياق حجج الفريقين، وما لهم من الأدلة، والبراهين، ثُمَّ قال: والتحقيق أن يُقال: الجنَّة ليست اسمًا لمجرد الأشجار، والفواكه، والثمار، والطعام، والشراب، والحور العين، والأنهار، والقصور، والولدان، ونحوها وأكثر النَّاس يغلطون في مسمَّى الجنَّة وإن الجنَّة اسم لدارِ النَّعيمِ المطلق الكامل ومن أعظم نعيم الجنَّة التمتع بالنَّظر إلى وجه الرَّب، وسماعَ كلامه، وقرة العين بالقرب منه، ورضوانه فلا نسبة للذة ما فيها من المأكول، والمشروب، والملبوس، والصور إلى هذه اللذة أبدًا فأيسر يسير من رضوانه تعالى أكبر من الجنانِ وما فيها

(1) وأيضًا كتاب "الوابل الصيب"(6 - 7).

(2)

في (ب): تنبعث.

ص: 1270

من ذلك كما قال تعالى: {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} [التوبة: 72] وأتى به منكرًا في سياق الإثبات أي: كلّ شيء كان من رضوانه عند عبده فهو أكبر من الجنَّة وما فيها كما قيل (1):

قليل منك يقنعني ولكن

قليلك لا يُقال له قليل

وفي الحديث الصحيح: "فوالله ما أعطاهم شيئًا أحبّ إليهم من النظر إلى وجهه"(2) وفي الحديث الآخر: "إنه سبحانه إذا تجلى لهم ورأوا وجهه عيانًا نسوا ما هم فيه من النعيم، وذهلوا عنه، ولم يلتفوا إليه"(3).

ولا ريب أنَّ الأمر هكذا كما أشرنا إليه سابقًا وهو أجلّ ممَّا يخطر بالبال، ويدور في الخيال ولاسيما عند قول المحبين المرء مع من أحب فأيّ نعيم، وأي لذّة، وأي قرة عين، وأيّ فوز يداني نعيمَ تلك الرؤية، وتلك المعية، ولذتها، وقرة العين بها وهذا هو العلم الذي

(1) هذا البيت لأبي نصر أحمد الميكالي.

(2)

رواه مسلم (181) في الإيمان، باب: إثبات رؤية المؤمنين في الآخرة ربهم سبحانه وتعالى. والترمذي (2552) في صفة الجنة، باب: ما جاء في رؤية الرب تبارك وتعالى، وقال أبو عيسى: هذا حديث إنما أسنده حماد بن سلمة ورفعه. وابن ماجه (187) في المقدمة، باب: فيما أنكرت الجهمية. وأحمد 4/ 332. والطيالسي 2/ 252 (1411). والطبراني في "الكبير" 8/ 39 (7314). و"الأوسط" 1/ 230 (756).

(3)

رواه البخاري (7435) في التوحيد، باب: قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)} .

ص: 1271

شمر إليه المحبون، واللواء الذي أمّه العارفون، وهو روح مسمى الجنَّة وحياتها، وبه طابت الجنَّة، وعليه قامت فكيف يقال لا يعبد اللَّه طلبًا لجنته، ولا خوفًا من ناره وكذلك النَّار فإنَّ ما لا ربابها من عذاب الحجاب عن الله وإهانته، وغضبه، وسخطه، والبعد عنه أعظم من التهاب النَّار في أجسامهم، وأرواحهم بل التهاب هذه النَّار في قلوبهم هو الذي أوجبَ التهابها في أبدانهم ومنها سرت إليها فمطلوب الأنبياء، والمرسلين، والصديقين، والشهداء، والصالحين هو الجنَّة التي هي ما وصفنا وهربهم من النَّار التي هي اسم لغضب اللَّه، والبعد عنه، وسخطه، ومقته، والحجاب عنه مع ما أعد اللَّه سبحانه لأعدائه الذين اتصفوا بغضبه، وسخطه، والبعد عنه، ما أشبه ذلك من الحيات، والعقارب على ما سنذكره إن شاء اللَّه تعالى.

ومقصد القوم أن العبد يعبد ربه حق العبودية والعبد إذا طلب من سيده أجرة على خدمته له كان أحمق ساقطًا من عين سيده إن لم يستوجب عقوبته إذ عبوديته تقتضي خدمته له. والنَّاس على أربعة أقسام: من لا يريد ربه، ولا يريد ثوابه فهؤلاء أعداؤه حقًّا، وهم أهل العذاب الدائم وعدم إرادتهم لثوابه إمَّا لعدم تصديقهم به وإمَّا لإيثار العاجل عليه ولو كان فيه سخطه.

ومن يريده، ويريد ثوابه وهؤلاء خواص خلقه.

ومن يريد منه، ولا يريده فهو ناقص غاية النقص وهو حال الجاهل الغافل الذي يسمع أن ثمَّ جنة، ونارًا فليس في قلبه غير إرادة نعيم الجنَّة المخلوقة، وخوف النار المخلوقة ولا يخطر بباله سوى ذلك

ص: 1272

البتة وهذا حال أكثر المتكلمين المنكرين رؤية رب العالمين فهم عبيد الآخرة المحضة حتى يزعم بعض هؤلاء أن إرادة اللَّه محال قالوا: لأن الإرادة إنما تتعلق بالحادث فالقديم لا يراد فهؤلاء منكرون لإرادة اللَّه غاية الإنكار وأعلى الإرادة عندهم إرادة الأكل، والشرب، والنكاح، واللباس في الجنَّة وتوابع ذلك وهؤلاء أكشف الناس حجابًا، وأغلظهم طباعًا، وأقساهم قلوبًا، وأبعدهم عن روح المحبة، والتأله، ونعيم الأرواح والقلوب وهم يطعنون على أصحاب المحبة، والشوق إلى اللَّه تعالى وعندي أن هؤلاء محرومون فنسأل اللَّه أن يرزقنا محبته، وقربه، ولذة النظر إليه، والتأله به، والتلذذ بحبه.

والقسم الرابع: محال وهو أن يريد اللَّه، ولا يريد منه وهو الذي يزعم صوفية زماننا، وذووهم أنه مطلوبهم، ويزعمون أنَّ من لم يصل إلى هذا المقام ففي سيره علة، وأن العارف ينتهي إلى هذا المقام بأن يريد اللَّه، ولا يريد منه شيئًا كما يحكى عن سيدي أبي يزيد رضي الله عنه أنَّه قال: قيل لي: ما تريد؟ فقلت: أريدُ أن لا أريد.

قال الإمام المحقق ابن القيم: وهذا في التحقيق عين المحال الممتنع عقلًا، وفطرة، وحسًا، وشرعًا فإن الإرادة من لوازم الحي، وإنَّما يعرض له التجريد عنها بالغيبة عن حسه، وعقله كالسكر، والإغماء، والنوم ثُمَّ قال: ونحن لا ننكر التجريدَ عن إرادة ما سواه من المخلوقات التي تزاحم إرادتها إرادته أفليس صاحب هذا الحال مريدًا لقربِهِ، ورضاه، ودوام مراقبته، والحضور معه؟ وأي إرادة فوق هذه الإرادة.

ص: 1273

نعم قد زهد في مراد المراد من هو أجلّ منه، وأعلى فما خرج عن الإرادة، وإنَّما أنتقل من إرادةٍ إلى إرادة، ومن مراد إلى مراد وأمَّا خلوه عن صفة الإرادة بالكلية مع حضورِ عقله، وحسه فمحال. ثُمَّ قال: وإن حاكمنا في ذلك محاكم إلى ذوق مصطلم مأخوذ عن نفسه قلنا له: هذه حالة عارضة غير دائمة، ولا هي غاية مطلوبة للسالكين، ولا مقدورة للبشر. انتهى كلامه ملخصًا.

قلت: وفي قول سيدي أبي يزيد: (أريد أن لا أريد) إثبات لإرادةٍ ما فقد طلب أن يريد أن لا يريد فهو مستمر بإرادة أن لا يريد. فقد ثبت أنه مريد، فتأمّل لهذه الدقيقة التي هي عين الحقيقة. والذي يظهر من طلب عدم الإرادة يعني: أن لا يريد سوى المحبوب المطلق، ومحابه كما هو مصرح به في كلام فحولهم واللَّه تعالى أعلم.

قال الحافظ ابن رجب: وهنا أمر آخر وهو أن في جهنم من أنواع العذاب المتعلق بالأمور المخلوقة لا يخافها العارفون كما أن ما أعده اللَّه تعالى في الجنَّة من أنواع النعيم المتعلق بالأمور المخلوقة لا يحبه العارفون، ولا يطلبونه. قال: وهذا في نفس الأمر غلط والنصوص دالة على خلافه وهو مخالف لما جبل الله عليه الخلق من محبة الملائم، وكراهة المنافر وإنَّما صدر مثل هذا الكلام ممن صدر منه في حال سكره، واستغراقه فظن أنّ العبد لا يبقى له إرادة أصلًا فإذا رجع إليه عقله علم أنّ الأمر على خلاف ذلك.

ونحن نضرب لك مثلًا يتضح به هذا الأمر وهو أن أهل

ص: 1274

الجنَّةِ إذا دخلوها، واستدعاهم الرب سبحانه إلى زيارته، ومشاهدته، ومحاضرته يوم المزيد فإنهم ينسون عند ذلك كلّ نعيم، ولا يلتفتون إلى شيء مما كانوا شاهدوا من نعيم الجنَّة حتى يحتجب عنهم فلو ذكروا في حال نظرهم إليه بشيء من النعيم لأعرضوا عنه، ولأخبروا أنَّهم لا يريدون في تلك الحال، وكذلك لو خوفوا بعذاب ونحوه لم يلتفتوا إليه وربما لم يستشعروا ألمه في تلك الحال وإنَّما يحذرون الحجاب عما هم فيه والبعد عنه (1) كما أشار من استشعر ذلك إلى هذا المقام بقوله:

عذب بما شئت غير البعد عنك تجد

أوفى محب بما يرضيك مبتهج

وخذ بقية ما أبقيت من رمق

لا خير في الحب إن أبقى على المهج

وإن هددوا بالهجر ماتوا مخافة

وإن أوعدوا بالقتل حنوا إلى القتل

قال الحافظ: فإذا رجعوا إلى منازلهم رجعوا إلى ما كانوا عليه من التنعم بأنواع النعيم المخلوق لهم بل يُزاد نعيمهم بذلك مع شدة شوقهم إلى يوم المزيد ثانيًا.

فهكذا حال العارفين الصادقين في الدُّنيا إذا تجلى على قلوبهم أنوار الإحسان فاستولى عليها ولله المثل الأعلى. فإن هذا من شواهد ما يحصل لهم في الجنَّة يوم المزيد فهم لا يلتفتون في تلك الحال إلى غير ما هم فيه من الأنس باللَّه، والتنعم بقربه، وذكره، ومحبته حتى ينسوا ذكر نعيم الجنَّة، ويصغر عندهم بالنسبة إلى ما هم فيه فلا يخافون حينئذ إلا

(1) انظر "التخويف من النار" ص 25 - 26.

ص: 1275

الحجاب، ولا يلذ لهم غير الخطاب وأيضًا فالعارفون قد يلاحظون من النار أنَّها ناشئة عن صفة انتقام وغضب والأثر يدل على المؤثر فجهنم دليل على عظمته، وشدة بطشه فالخوف منها في الحقيقة خوف منه سبحانه فالخائف من النار خائف من المنتقم القهار فاجعل هذا البحث منزرعًا في صفحات قلبك، ونابتا في رياض لبك. واللَّه تعالى أعلم (1).

واعلم أن الخوف واجب على كلّ مؤمن لقوله تعالى: {وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 175] وهو واقع بأسباب فمنها: الخوف بسابق الذنب. ومنها: حذر التقصير في الواجبات ومنها: الخوف من السابقة أن تكون على ما يكره ومنها: خوف الإجلال والتعظيم كما قال عز وجل: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50)} [النحل: 50]. ومن تفكر فيما قضي عليه في السابق لم يزل منزعجًا خائفًا خوفًا لا يملك رده.

واعلم أن الخوف إذا أفرط قتل فالواجب منه ما يحمل على أداءِ الفرائض، واجتناب المحارم فإن زاد على ذلك بحيث صار باعثًا للنفوس على التشمير في نوافل الطاعات، والانكفاف عن دقائق المكروهات، والتبسط في فضول المباحات كان ذلك فضلًا محمودًا فإن زاد على ذلك بأن أورث، مرضًا، أو موتًا، أو همّا لازمًا بحيث يقطع

(1) انظر "التخويف من النار" ص 26.

ص: 1276

عن السعي في تسكب الفضائل المطلوبة، والفواضل المحبوبة لم يكن محمودًا ولهذا السلف كانوا يخافون على عطاء السلمي رحمه الله من شدة خوفه الذي أنساه القرآن، وصيره صاحب فراش وهذا لأنّ خوف العقاب ليس مقصودًا لذاته وإنَّما هو سوط يساق به المتواني عن الطاعة إليها. وذكر بعض المحققين أن الخوف والرجاء كالحرارة والبرودة فمن غلب عليه أحدهما تداوى بالآخر حتى يرجع إلى حد الاعتدال.

وقال الإمام ناصر السنة الحافظ ابن الجوزي قدس الله سره في "التبصرة": المحمود من الخوف المتوسط وهو: الذي يقمع الشهوات، ويكدر اللذات، ويكف الجوارح عن المعاصي، ويلزمها الطاعة وقد ينحل البدن ويزيد به البكاء ولذلك قيل: ليس الخائف من بكى، وعصر عينيه إنَّما الخائف من ترك ما يقدر عليه انتهى.

وفائدة الخوف التقوى، والورع، والاجتهاد في الطاعات فإذا أراد أن يخرج عن حد الاعتدال أوقع في القنوط فبطلت فائدة الخوف، وصارت من البؤس والخوف ومن هنا كانت النار من جملة نعم الله على عباده الذين خافوه واتقوه ولهذا عَدَّها سبحانه من جملة الآية على الثقلين في سورة الرحمن. قال سفيان بن عيينة: خُلقت النار رحمة يُخوف اللَّه بها عباده لينتهوا. رواه أبو نعيم (1) وقال الإمام العز بن عبد السلام رحمه الله: مرَّ بي في التلاوة تكرار قوله تعالى: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا

(1) انظر "الحلية" 7/ 275.

ص: 1277

تُكَذِّبَانِ (13)} [الرحمن: 13] قال: فرأيت لذلك موقعًا عظيمًا في الآيات المتضمنة للنعم كقوله تعالى: {الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2)} [الرحمن 1، 2] إلى آخره. ولم يظهر لي ذلك في آيات التخويف نحو: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ (31)} [الرحمن: 31]{يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ (35)} [الرحمن: 35] إذ ليس فيها ذكر شيء من الآلاء فطال بي الفكر في هذا فرأيت النَّبيّ صلى الله عليه وسلم في النوم فسألته عن ذلك فقال: "أما علمت أنَّ من حذر فقد بشر" انتهى.

قال الإمام المصطفى المحبي ومن خطه نقلت: "والبشارة من جملة الَالاء" انتهى.

وقال الإمام البغوي (1) في قوله: {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44)} [الرحمن: 43 - 44] قد انتهى حره. أي: يسعون بين الحميم وبين الجحيم. {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (13)} [الرحمن: 13]: فكل ما ذكر الله تعالى من قوله: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26)} [الرحمن: 26] إلى هنا مواعظ، ومزاجر، وتخويف. وكل ذلك نعمة من اللَّه تعالى؛ لأنها تزجر عن المعاصي ولذلك ختم بقوله:{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (13)} . انتهى.

والمقصود من التخويف، والخوف طاعة اللَّه، وفعل مراضيه، وترك مناهيه، ومكروهاته والخوف وسيلة ليس مقصودًا بالذات ولا

(1)"تفسير البغوي" 7/ 450، 451.

ص: 1278

ننكر أنَّ هيبة اللَّه، وعظمته، وخشيته في الصدور، وإجلاله مقصود أيضًا ولكن القدر النافع من ذلك ما كان عونًا على التقرب إلى اللَّه سبحانه بفعل ما يحبه، وترك ما يكرهه فمتى منع الخوف من ذلك انعكس المقصود، وصار النفع غير موجوب نعم إنْ حصل عن غلبةٍ عُذِرَ صاحبه وقد كان في السلف من حصل له من ذلك أهوال شتى لغلبة حال شهادة قلوبهم النار وصفات الانتقام والقهر فمنهم من كان يلازمه القلق، والبكاء وربما اضطرب وغشي عليه إذا سمع ذكر النار.

وقد روى أنَّه صلى الله عليه وسلم سمع (1) قارئًا يقرأ: {إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (12) وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا (13)} [المزمل: 12 - 13] فصعق صلى الله عليه وسلم وفي رواية: "فبكى حتى غشي عليه" لكنه مرسل ضعيف.

روى أنه لمَّا نزلت: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم: 6] تلاها صلى الله عليه وسلم ذات يوم على أصحابه فخر فتى مغشيًا عليه فوضع النَّبيّ صلى الله عليه وسلم يده على فؤاده. وفي لفظ: بطنه فإذا هو يتحرك فقال صلى الله عليه وسلم: "يا فتى قل: لا إله إلا اللَّه". فقالها، فبشره بالجنَّة، فقال أصحابه: يا رسُولَ اللَّه أمن بيننا؟ قال: "أوما سمعتم قوله تعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} "[إبراهيم: 14] رواه الحاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما وصححه (2).

وكان ابن عمر رضي الله عنهما يصلي وهو يتأمل ويتأوّه حتى لو

(1) البيهقي في "شعب الإيمان" 1/ 522 (917) باب: الخوف من الله تعالى.

(2)

انظر "المستدرك" 2/ 351.

ص: 1279

رآه ممن يجهله لقال: لقد أصيب الرجل وذلك لذكر النار إذا مر بقوله تعالى: {وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا (13)} [الفرقان: 13]. أو نحو ذلك. أخرجه أبو عبيد.

وأخرج الإمام أحمد في "الزهد"(1) عن عبد الرحمن بن زيد بن جابر قال: قلت ليزيد بن مرثد ما لي أرى عينيك لا تجف؟ قال: وما مسألتك عنه؟ قلت: عسى اللَّه أن ينفعني به. قال: يا أخي إن اللَّه توعدني إنْ عصيته أن يسجنني في النار واللَّه لو لم يتوعدني أن يسجنني إلا في الحمام لكنت حريًّا أن لا تجف لي عين. فقلت: فهكذا أنت في خلواتك؟ قال: ومسألتك؟ قال: عسى اللَّه تعالى أن ينفعني به قال: واللَّه إنَّ ذلك ليعرض لي حين أسكن إلى أهلي فيحول بيني وبين ما أريد وإنَّه ليوضع الطعام بين يدي فيعرض لي فيحول بيني وبين أكله حتى تبكي امرأتي، ويبكي صبياننا ما يدرون ما أبكانا ولربَّما أضجر ذلك امرأتي فتقول: يا ويحها ماذا خصت به من طول الحزن معك في الحياة الدُّنيا ما تقر لي معك عين.

وذكر الحافظ في "التخويف" عن بعض السلف أنه قال: ما رأيت أخوف من الحسن، وعمر بن عبد العزيز كأن النَّار لم تخلق إلا لهما وبكى الحسن فقيل له: ما يبكيك؟ قال: أخاف أن يطرحني في النَّار غدًا ولا يبالي (2). وقال رحمه الله: إن المؤمنين قوم ذلك منهم الأسماع،

(1) الزهد (382) أبو نعيم في الحلية (5/ 164) الشعب (3/ 158) 878 مع اختلاف في بعض الكلمات.

(2)

رواه الحافظ ابن رجب في "التخويف من النار" ص 29، 30.

ص: 1280

والأبصار، والأبدان حتى حسبهم الجاهل مرضى وهم واللَّه أصحاء القلوب ألا تراه يقول:{وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} [فاطر: 34]. واللَّه لقد كابدوا في الدنيا حزنًا شديدًا وجرى عليهم ما جرى من كان قبلهم واللَّه ما أبكاهم إلا الخوف من النار.

وأخرج ابن أبي الدُّنيا عن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام قال: سمعت عبد اللَّه بن حنظلة يومًا وهو على فراشه وعدته من علّة فتلا رجل عنده هذه الآية: {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} [الأعراف: 41] فبكى حتى ظننتُ أن نفسَه ستخرج، وقال: صاروا بين أطباقِ النارِ، ثم قامَ على رجليه فقال قائل: يا عبد الرحمن اقعد. قال: منع مني ذكر جهنم القعود لا أدري لعلي أحدهم. وسمع بعضهم قوله تعالى: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (74)} [الزخرف: 74] وكان على شاطئ الفرات فتمايل فلما قال التالي: {لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75)} [الزخرف: 75] سقط في الماء فمات.

وأخرج ابن أبي الدُّنيا عن أبي بكر بن عياش قال: صليت خلف الفضيل بن عياض المغرب وإلى جانبي عليّ ابنه فقرأ الفضيل: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1)} [التكاثر: 1] فلما بلغ {لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ} [التكاثر: 6] سقط عليُّ مغشيًا عليه، وبقي الفضيل لا يقدر يجاوز الآية ثُمَّ صلى بنا صلاة خائف. قال: ثُمَّ رابطت عليًّا فما أفاق إلا في نصف الليل.

وروى أبو نعيم باسناده عن الفضيل قال: أشرفت ليلة على عليّ

ص: 1281

وهو في صحن الدار يقول: النار ومتى الخلاص من النَّار (1) وكان عليّ يومًا عند ابن عيينة فحدث ابن عيينة بحديث فيه ذكر النَّار وفي يد عليّ قرطاس في شيء مربوط فشهق شهقة ورمى بالقرطاس أو وقع من يده. فالتفت إليه سفيان وقال: لو علمت أنك هاهنا ما حدثت به. فما أفاق إلا بعدما شاء اللَّه.

وقال سرار أبو عبد اللَّه عاتبت عطاء السلمي في كثرة بكائه فقال: ياسرار كيف تعاتبني في شيء ليس هو إلَّا إنَّي إذا ذكرت أهل النَّار وما ينزل بهم من عذاب اللَّه عز وجل، وعقابه تمثلت لي نفسي بينهم فكيف لنفس تغل يدها إلى عنقها وتسحب إلى النار ألا تبكي، وتصيح؛ وكيف لنفس تعذب أن لا تبكي؟

وعوتب يزيد الرقاشي على كثرة بكائه وقيل: لو كانت النَّار خلقت لك ما زدت على هذا. قال: وهل خُلقت النَّار إلا لي، ولأصحابي، ولإخواننا من الجن؟! أما تقرأ:{سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ (31)} [الرحمن: 31] أما تقرأ: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ} [الرحمن: 35] فقرأ حتى بلغ {يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44)} [الرحمن: 44] فجعل يطوف في الدَّار، ويصرخ، ويبكي حتى غشي عليه.

وقرئ على رابعة العدوية آية فيها ذكر النار فصرخت، ثُمَّ سقطت، فمكثت ما شاء اللَّه لم تفق.

(1) انظر "الحلية" 8/ 297.

ص: 1282

ولما أهديت معاذة العدوية إلى زوجها صلة بن أشيم أدخله ابن أخيه الحمام، ثُمَّ أدخله بيتًا مطيبًا فقام يصلي حتى أصبح وفعلت معاذة كذلك فلمَّا أصبح عاتبه ابن أخيه على فعله فقال له: إنك أدخلتني بالأمس بيتًا أذكرتني فيه النار، ثُمَّ أدخلتني بيتًا أذكرتني فيه الجنَّة هما زالت فكرتي فيهما حتى أصبحت (1).

وكان من السلف إذا رأى النَّار اضطرب، وتغير حاله وقد قال تعالى:{نَحْنُ جَعَلْنَاهَا} [الواقعة: 73] أي: نار الدُّنيا. {تَذْكِرَةً} . لنار الآخرة. قاله مجاهد (2). ومر ابن مسعود على الذين ينفخون الكير فسقط خرجه الإمام أحمد.

وكان أويس القرني يقف على موضع الحدادين فينظر إليهم كيف ينفخون الكير، ويسمع صوت النار فيصرخ ثُمَّ يسقط.

وقال العلاء بن محمد دخلت على عطاء السلمي فرأيته مغشيًا عليه فقلت لامرأته: ما شأنه؟ قالت: سجرت جارتُنا التنورَ فلمَّا نظر إليه غشي عليه، ومر عليه صبى معه شعلة نارٍ فأصابت النَّار الريح، فسمع ذلك منها فغشي عليه.

وقال الحسن: كان عمر رضي الله عنه ربَّما توقد له النار ثُمَّ يدني يده منها ثُمَّ يقول: يا ابن الخطاب هل لك على هذا صبر؟

وكان الأحنف بن قيس يجيءُ إلى المصباح بالليل فيضع إصبعه

(1) انظر "التخويف من النار" ص 33 - 34.

(2)

انظر "التخويف من النار" ص 34 - 35.

ص: 1283