الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الرابع في عرض الرب الجنَّة على العباد، وعدد الجنان، وأسمائها، وذكر السابقين إليها وإن كثر أهلها
هذه الآية قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 111] فجعل سبحانه وتعالى الجنَّة ثمنًا لنفوس المؤمنين وأموالهم بحيث إذا بذلوها استحقوا الثمن، وعقد معهم هذا العقد وأكدّه بأنواع من التأكيد:
أحدها: إخباره به سبحانه بصيغة الخبر المؤكد بأداة: أن.
الثَّاني: الأخبار بذلك الصيغة الفعلية الماضوية الذي مفهومها وقع وثبت واستقر.
الثالث: إضافة هذا الفعل إلى نفسه. وإن هو الذي اشترى هذا المبيع.
الرابع: بأنه أخبر بأنه وعد تسليم هذا الثمن وعدًا لا يخلفه.
الخامس: أنَّه أتى بصيغة على الآتي للوجوب إعلامًا لعباده بأن ذلك حقًا عليه بأن ذلك حقًا عليه أحقه، وهو على نفسه وإن كان سبحانه لا يجب عليه شيء. ولكن هذا واجب الوقوع لأنَّه وعد به وهو لا يخلف الميعاد.
السادس: إنَّه أكد ذلك بكونه حقًا عليه سبحانه يقال حق الشيء
إذا ثبت ووجب ولهذا قيل لمرافق الدار حقوقها: أي حقًا إيقاعه وإن كان غير واجب عليه تعالى.
السابع: إخباره عن محل هذا الوعد وأنَّه في أفضل كتبه المنزلة من السماء: وهي التوراة، والإنجيل، والقرآن.
الثامن: إعلامه لعباده بصيغة الاستفهام الإنكاري أنَّه لا أحدًا أوفى بعهده منه سبحانه.
التاسع: أنَّه أمرهم يبشروا بهذا العقد الثابت الذي لا يثبت فيه خيار ولا يعرض له ما يفسخه.
العاشر: أنَّه أخبرهم إخبارًا مؤكدًا أن ذلك هو الفوز العظيم والبيع هنا هو المبيع الذي أخذوه بهذا الثمن وهو الجنَّة. ودلت الآية على عظم خطر النَّفس الإنسانية فإن السلعة إذا خفي قدرها فانظر إلى المشتري من هو، وانظر إلى الثمن المبذول فيها ما هو، وانظر إلى من جرى على يده العقدة.
فالسلعة النَّفس، والمشتري البارئ جل شأنه، والثمن جنان النعيم، والسفير هو البشير النذير صلى الله عليه وسلم لقد عظم قدرك أيها المؤمن حيث اشتراك خالقك ومولاك، وجعل الجنَّة ثمنك، ومثواك فنعم المشتري الملك الجبار، ونعم الدلال والسفير المصطفى المختار، ونعم الثمن دار القرار.
قد رشحوك لأمر لو فطنت له
…
فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل
فإن قلت: لم أشترى الأنفس والأموال دون القلوب والأوصال فالواجب أن الآية نزلت في الحث على الجهاد، والجهاد يكون بالنفس والمال والنفس يراد بها هذا الهيكل جملة فالمراد بالنفس جملة البدن. فإن
قلت: أين كان هذا البيع، فالجواب: كان في عالم الذر كما ذكره الجلال السيوطي، والحكمة في هذا والله أعلم ليعلم العبد أنَّه إذا تصدق وأنفق ماله في وجوه الخير وبذل نفسه في الجهاد ومنفعة العباد لا يكون له في ذلك نوع منة لأنَّه لا نفس له، ولا مال بل هو وماله لله رقًا ومبيعًا. ثم حكم آخر ليس هذا محل ذكرها. والله أعلم.
وأخرج التِّرمذيُّ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل ألا أن سلعة الله غالية ألا أن سلعة الله الجنة"(1).
قال التِّرمذيُّ: حديث حسن غريب قوله: أدلج أي سار الليل كله، والمعنى بالغ في السير إلى الله تعالى، واجتهد وشمر عن ساق الجد والاجتهاد في طاعة الملك الجواد.
وعند أبي نعيم عن أنس رضي الله عنه أنَّه قال: جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما ثمن الجنَّة؟ قال: "لا إله إلَّا الله"(2) قال في "أحادي الأرواح"، وشواهد هذا الحدث كثيرة.
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم جاء أعرابي. فقال: دلني على عمل إذا عملته دخلت الجنَّة. قال: "تعبد الله ولا تشرك به شيئًا، وتقيم الصَّلاة المكتوبة، وتؤدي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان. قال: والذي نفسي بيده لا أزيد على هذا شيئًا أبدًا ولا
(1) رواه التِّرمذيُّ (2450) كتاب: صفة القيامة، باب (18). والحاكم في "المستدرك" 4/ 307 كتاب: الرقاق.
(2)
رواه ابن عدي في "الكامل" 8/ 65 ترجمة: موسى بن إبراهيم.
أنقص منه". فلما ولّى قال: "من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنَّة فلينظر إلى هذا" (1).
وفي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه قال: أتى النُّعمان بن قوقل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسولَ اللهِ أرأيت إذا صليتَ المكتوبة وحرمتُ الحرامَ وأحللتُ الحلالَ، أدخلُ الجنَّةَ؟ فقال النَّبي صلى الله عليه وسلم:"نعم"(2) وفيه عن عثمان بن عفَّان، مرفوعًا:"من مات وهو يعلم أن لا إله إلَّا الله دخلَ الجنَّةَ"(3).
وفي المسند وسنن أبي داود، عن معاذ رضي الله عنه، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال:"من كان آخر كلامُه: لا إله إلَّا الله، دخل الجنَّةَ"(4).
وفي الصحيحين عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتاني آت من ربي فأخبرني -أو قال: فبشَّرني- أنَّ من ماتَ من أمتِكَ لا يشرك باللهِ شيئًا دخل الجنَّة قلت: وإن سرق وإن زنا؟ قال: وإن زنا وإن سرق. وإن زنا وإن سرق" وفي لفظ: "قلت: وإن زنا وإن
(1) رواه البُخاريّ (1397) كتاب: الزكاة، باب: وجوب الزكاة.
ومسلم (14) كتاب: الإيمان، باب: بيان الإيمان الذي يدخل به الجنَّة ....
(2)
رواه مسلم (15) كتاب: الإيمان، باب: بيان الإيمان الذي يدخل به الجنَّة
…
(3)
رواه مسلم (26) كتاب: الإيمان، باب: الدليل على أن من مات على التَّوحيد دخل الجنَّة قطعاً، والنَّسائيُّ في "عمل اليوم والليلة"(1121، 1122، 1123) باب: ما يقول عند الموت، وأحمد 1/ 65.
(4)
رواه النَّسائيّ في "عمل اليوم والليلة"(1142) باب: ثواب من كان يشهد أن لا إله إلَّا الله. وأحمد 5/ 233. والطبراني في "الكبير" 20/ 45 (71).
سرق؟ قال: وإن زنا وإن سرق قلت: وإن زنا وإن سرق؟ قال: وإن زنا وإن سرق، وإن رغم أنف أبي ذر" (1) في الثَّانية أو في الثَّالثة.
وفي الصحيحين أيضاً عن عبادة بن الصَّامت رضي الله عنه مرفوعًا: "من قال: أشهد أنَّ لا إله إلَّا الله وحده لا شريك له، وأنَّ محمدًا عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسولُهِ وكلمتُه ألقاها إلى مريمِ وروح منه، وأنَّ الجنَّة حق، وأن النَّارَ حقٌّ، أدخله الله من أي أبواب الجنَّة الثمانية شاء". وفي لفظ: "أدخله الله الجنَّة على ما كان من عملٍ"(2) وفي صحيح مسلم: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى أبا هريرة نعليه فقال: "اذهبْ بنعلي هاتين فمن لقيت من وراء هذا الحائطِ يشهدُ أنَّ لا إله إلَّا الله مستيقنًا بها قلبه، فبشره بالجنَّة"(3). وقال الحسن ثمن الجنَّة: لا إله إلَّا الله.
وأخرج أبو نعيم بإسناد صحيح، عن جابر رضي الله عنه
(1) رواه البُخاريّ (1237) كتاب: الجنائز. ومسلم (94) كتاب: الإيمان، باب: تحريم الكبر وبيانه. وأحمد 5/ 152. وابن حبان (170) كتاب: الإيمان، باب: الإيمان أجزاء وشعب لها أعلى وأدنى.
(2)
رواه البُخاريّ (3435) كتاب: أحاديث الأنبياء، باب: قوله تعالى: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ} . ومسلم (28) كتاب: الإيمان، باب: الدليل على أن من مات على التَّوحيد دخل الجنَّة قطعاً. وأحمد 5/ 313 - 314. والبزار في "البحر الزخار" 7/ 130 (2682).
(3)
رواه مسلم (31) كتاب: الإيمان، باب: الدليل على أن من مات على التَّوحيد دخل الجنَّة قطعاً.
وابن حبان 10/ 408 - 409 (4543) كتاب: السير، باب: الخلافة الإمارة.
مرفوعًا: "لا يدخل أحدًا منكم الجنَّة عملُه ولا يجيره من النَّار، ولا أنَا إلَّا بتوحيد الله"(1) وأصل الحديث في الصَّحيح.
وهنا نكتة لابد من التَّنبيه عليها وهي: أنا قدمنا الجنَّة إنَّما تدخل برحمة الله تعالى وليس عمل العبد مستقلاً بدخلوها وإن كان فيه نوع سبب لدخولها وهو كذلك.
فإن قلت: قد أثبت اللهُ تعالى دخول العبادِ الجنَّة بالأعمالِ في غيرِ موضع مِنْ كلامه القديم كقوله: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل: 32] و {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72)} [الزخرف: 72] ونفى رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم دخولها بالأعمال في غيرِ حديث كقولِه صلى الله عليه وسلم: "لن يدخل أحد منكم الجنَّةَ بعمله"(2).
فالجواب: أنَّه لا تنافي بين كلام اللهِ وكلام حبيبه ورسوله صلى الله عليه وسلم أصلاً لوجهين: أحدهما ما ذكره سفيان، وغيره قال: كانوا يقولون: النجاة من النَّارِ بعفو الله، ودخول الجنَّة برحمته، وانقسام المنازل والدرجات بالأعمالِ ويدل على هذا حديث أبي هريرة رضي الله عنه:"إن أهْلَ الجنةِ إذا دخلوها نزلوا فيها بفضل أعمالهم"(3) روَاه التِّرمذيُّ.
(1) رواه مسلم (2817) كتاب: الرقاق، باب: صفة الجنَّة والنَّار. ولفظه: "
…
ولا أنا إلَّا برحمة من الله". وأحمد 3/ 394.
(2)
رواه البُخاريّ (6463)، ومسلم (2816) من حديث أبي هريرة بمعناه.
(3)
رواه التِّرمذيُّ (2549) كتاب: صفة الجنَّة، باب: ما جاء في سوق الجنَّة.
وابن ماجة (4336) كتاب: الزهد، باب: صفة الجنَّة.
وابن حبان 16/ 466 - 468 (7438) كتاب: إخباره صلى الله عليه وسلم عن مناقب الصّحابة، باب: وصف الجنَّة وأهلها.
الثَّاني: الباء التي نفتْ الدخول باء المعاوضةِ التي يكون فيها أحد العوضين مقابلاً للآخر، والباء التي أثبتت الدخول باء السببية التي تقتضي سببية ما دخلت عليه لغيره وإنْ لم يكن مستقلاً بحصوله. وقد جمعَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بين الأمرين في قوله:"سدّدوا، وقاربوا، وأبشروا، واعلموا أنَّ أحدًا منكم لنْ ينجو بعمله". قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: "ولا أنا إلَّا أن يتغمدني اللهُ برحمته"(1).
(1) ورواه التِّرمذيُّ (2141) كتاب: القدر، باب: ما جاء أن الله كتب كتابًا لأهل الجنَّة وأهل النَّار. والنَّسائيُّ في "الكبرى"(11473) كتاب: التفسير، سورة الشورى. وأحمد 2/ 167.