الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخاتمة وفيها فصلان
الفصل الأوّل في التوبة
وهي في اللغة: الرجوع يقال تاب وأناب وآب يعني رجع.
وهي في الشرع: الندم على ما مضى من الذنب والإقلاع في الحال والعزم على أن لا يعود في المستقبل تعظيمًا لله تعالى وحذرًا من أليم عقابه وسخطه، قاله في "المطلع"(1).
فالتوبة: هي الرجوع من الأوصاف المذمومة إلى الأوصاف المحمودة. قال في "طهارة القلوب": يقال لمن رجع عن المخالفات خوفًا من العذاب: تائب ولمن رجع حياء من الله تعالى: منيبٌ ولمن رجع تعظيمًا لجلاله سبحانه: أوَّاب وهو معنى قول عمر رضي الله عنه: نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه على فرض ثبوت هذا الأثر يعني أنَّه يترك المعاصي تعظيمًا لجلال الله ولو لم يتواعد الله عليها بعقوبة.
ويقال أول التوبة يقظة من الله تقع في القلب فيتذكر العبدُ تفريطه وإساءته وكثرة جنايته مع دوام نعم الله عليه فيعلم حينئذ أنَّ الذنوب سُمومٌ قاتلة يخاف منها حصول المكروه وفوات المحبوب في الدنيا والآخرة فإذا تيقَّن ذلك أثمرت حالته هذه الندمَ على ما فات ثمَّ يثمر الندم عملًا صالحًا فيبادرُ إلى الخيرات وقضاء الواجبات ورد الظلامات والعزم على إصلاح ما هو آت فإذا انتظمت هذه الأمور الثلاثة فلا جرم أنها التوبة.
(1) ص 42.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "الندم توبة"(1) يعني معظم أركان التوبة الندم والبكاء الدائم.
وقيل: هي قود النفس إلى الطاعة بخطام الرغبة وردها عن المعصية بزمام الرهبة.
وقال ابن الجوزي في "التبصرة": التوبة ندم يورث عزمًا وقصدا.
وعلامة الندم طول الحزن على ما فات وعلامة القصد والعزم التدارك لما هو آت فإن كان الماضي تفريطًا في عبادة قضاها أو مظلمة أدّاها أو خطيئة لا توجب غرامة حزن إذا تعاطاها.
قَالَ: ومن علامات التائب أن يغضب على نفسه كما غضب ماعز والغامدية وأسلماها إلى الهلاك.
وهذا مثال وإلا فالأولى الستر على نفسه وأن تضيق عليه الأرض كما ضاقت على كعب بن مالك وصاحبيه فيستولي عليه الحزن والبكاء فيشغله عن اللهو والضحك.
وقال الغزالي في "منهاج العابدين": هي ترك اختيار ذنب سبق مثله عنه منزلةً لا صورةً تعظيمًا لله تعالى وحذرًا من سخطه.
ولها إذن أربع شرائط:
إحداها: ترك اختيار الذنب وهو أن يوطن قلبه ويجرد عزمه على أن لا يعود إلى الذنب البتة، فأما إن ترك الذنب وفي نفسه أنَّه ربما
(1) صحيح رواه أحمد 1/ 376، 422، 423، 433، والحميدي (105)، وابن أبي شيبة 9/ 361، وابن ماجه (4252)، وأبو يعلى (4969)، وغيرهم من حديث ابن مسعود.
يعود إليه أو لا يعزم على ذلك بل يتردد فإنَّه ربما يقع له العود فإنَّه ممتنع عن الذنب غير تائب عنه.
الثانية: أن يتوب عن ذنب قد سبق منه مثله إذ لو لم يسبق منه مثله لكان متقيًا غير تائب، ألا ترى أنَّه يصح القول بأن النبي صلى الله عليه وسلم متقيًا عن الكفر ولا يصح القول بأنّه كان تائبًا عن الكفر إذ لم يسبق منه كفر بحال وأن عمر بن الخطّاب رضي الله عنه كان تائبًا عن الكفر لما سبق منه ذلك.
والثالثة: أن الذي سبق يكون مثل ما يترك اختياره في المنزلة والدرجة لا في الصورة؛ ألا ترى أن الشيخ الهرم الفاني الذي سبق منه الزنا وقطعُ الطريق إذا أراد أن يتوب عن ذلك تمكنه التوبة لا محالة إذ لم يغلق عنه بابها ولا يمكنه ترك اختيار الزنا وقطع الطريق إذ هو لا يقدر الآن على فعل ذلك فلا يقدر على ترك اختياره فلا يصح وصفه بأنّه تارك له ممتنع عنه وهو عاجز عنه غير متمكن لكنه يقدر على ما هو مثل الزنا وقطع الطريق في المنزلة والدرجة كالقذف والغيبة والنميمة إذ جميع ذلك معاصٍ.
وإن كان الإثم يتفاوت في حق الآدمي في كل واحدة بقدرها ولكن جميع هذه المعاصي الفرعية كلها بمنزلة واحدة وهي دون منزلة البدعة ومنزلة البدعة دون الكفر أي حيث لم تكن البدعة مكفرة فإن كانت مكفرة فهي ومنزلة الكفر واحدة.
وفهمنا من هذا أن المنازل ثلاثة منزلة المعاصي ومنزلة البدع ومنزلة الكفر.
ثمَّ إن المعاصي تقسم إلى صغيرة وكبيرة فلك أن تسميها منزلتين.
والكبائر: منها الموبقات السبع وهي قتل النفس والزنا وأكل الربا والسحر والقذف وأكل أموال اليتامى والتولي يوم الزحف.
وفهم أيضًا من كلامه أن الهرم إنما صحت توبته عن الزنا وقطع الطريق لقدرته على ما هو مثل ذلك في المنزلة.
يرشدك على هذا تعليل قبول توبته بذلك حيث قَالَ: فلذلك صحت منه أعني الهرم التوبة من الزنا وقطع الطريق وسائر ما مضى من الذنوب التي عجز عن أمثالها والله أعلم.
ثمَّ عَنّ لي بحثٌ يرد على هذا التقرير وهو أن لو قدّرنا أن رجلًا اقترف هذه الذنوب من الزنا وقطع الطريق ونحو ذلك ثمَّ إنه عجز عن إتيان مثلها صورةً وهو مصرٌّ على أن لو قدر على ذلك لفعله ثمَّ إنه عمي وصم وبكم وأقعد بحيث لا يمكنه إتيان شيء من مثل هذه الذنوب لا صورةً ولا منزلةً وعنّ له أن يتوب مما كان اقترف فندم في نفسه وعزم على التوبة وتاب في خاطره فهل قائلٌ بعدم توبة هذا الرجل مع صحة عقله.
وقد يُجابُ بأن لا قائل بعدم صحة توبة مثل هذا ولكن لا نسلم أنَّه لا يقدر على إتيان مثل هذه الذنوب منزلةً فإنَّه يمكنه أن يخطر في باله خاطر سوء ويعزم عليه ويصمم والعزم والتصميم على المعصية معصية كما هو مقرر والله تعالى كما قبل توبته بخاطره فإذا أساء بخاطره وأخذه وهذا لم أر من نبّه عليه غير أنَّه ظاهر لذوي البصائر والله أعلم.
قال الغزالي: والرابعة أن يكون ترك اختيار ذلك تعظيمًا له
سبحانه وحذرًا من سخطه لا لرغبة دنيوية أو رهبة من الناس أو طلب ثناء وصيتٍ أو ضعف في النفس أو نحو ذلك فهذه شرائط التوبة.
وأما مقدماتها فثلاث
ذكر شدة العقوبة منه سبحانه والإعراض عن العبد ومقته.
الثانية: ذكر غاية قبح الذنب.
الثالثة: ذكر ضعفك وقلة حيلتك في ذلك فإن من لا يحتمل حر شمس ولا قرص نملة وضربة سوط لا يحتمل حرّ نار جهنم وضرب مقامع الزبانية ولسع حياتٍ كأعناق البخت وعقارب كالبغال خلقت من النار في دار الغضب والبوار عياذًا بك اللهم من سخطك فإذا استحضر العبد هذه الحالة لم تحلُ له المعصية وتاب إلى ربه سبحانه.
فإذا علمت ذلك فالحق أن التوبة واجبة من الكبائر والصغائر أما الكبائر فبالإجماع وأما الصغائر فهو قول أصحابنا وغيرهم من الفقهاء والمتكلمين وغيرهم.
قاله الحافظ ابن رجب في كتابه: "شرح الأربعين النووية"(1) قد أمر الله بالتوبة عقب ذكر الصغائر والكبائر فقال تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} إلى قوله: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 30 - 31].
(1)"جامع العلوم والحكم" ص 446.
فأمر بالتوبة من الكبائر والصغائر فالنظر صغيرة ولا جرم أن الزنا كبيرة.
وذكر التوبة بعد ذلك بصيغة الأمر التي موضوعها الوجوب وأمر بالتوبة من الصغائر بخصوصها في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ} إلى قوله: {وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات: 11].
وزعمت طائفة من المعتزلة عدم الوجوب من الصغائر.
وقالت طائفة من المتأخرين: يجب أحد أمرين: إما التوبة، أو الإتيان ببعض المكفرات للذنوب من الحسنات.
وحكى ابن عطية في "تفسيره"(1) قولين في تكفير الصغائر باجتناب الكبائر أحدهما: نعم. وحكاه عن بعض أصحاب الحديث والفقهاء وأنه يقطع بتكفيرها بذلك لظاهر الآية يعني قوله: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء: 31].
وقيل: لا يقطع بذلك وحكاه عن الأصوليين بل يظن ذلك ولا يقطع به إذ لو قطع بتكفيرها لكانت في حكم المباح الذي لا تبعة فيه وذلك نقض لعُرى الشريعة.
قال الحافظ: قُلْتُ: قد يقال: لا يقطع بتكفيرها لأنَّ أحاديث التكفير المطلقة بالأعمال جاءت مقيدة بتحسين العمل كما ورد ذلك
(1)"المحرر الوجيز" ص 426.