الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
للناس ويحرق نفسه" (1). قال الحافظ المنذري: إسناده حسن إن شاء الله تعالى، والآثار في هذا كثيرة جدًا.
قال بعض المفسرين في قوله تعالى: {وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} [إبراهيم: 17] المعنى: أنه يأتيه مثل شدة الموت وألمه من كل جزء من أجزائه حتَّى شعره وظفره وهو مع هذا لا تخرج نفسه فيستريح ولا ترجع إلى مكانها من خوفه (2).
فصل
وعذاب الكفار في النار لا يفتر عنهم ولا ينقطع بل هو متواصل أبد الآباد قال تعالى: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (74) لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75)} [الزخرف: 74، 75] وقال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا} [فاطر: 36] وقال: {فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ} [البقرة: 86] وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ (49) قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا
(1) رواه الطبراني في "الكبير"(1681، 1685)، وقال الهيثمي في "المجمع" 6/ 232: رواه الطبراني من طريقين في أحدهما مدلس وفي الأخرى مجهول. انتهى مختصرًا.
(2)
صفة النار لابن أبي الدنيا (126، 172).
فِي ضَلَالٍ (50)} [غافر: 49، 55] قال أحمد بن أبي الحواري: سمعت إسحق بن إبراهيم على منبر دمشق يقول: لا يأتي على صاحب الجنة ساعة إلا وهو يزداد ضِعفًا من النعيم لم يكن يعرفه ولا يأتي على صاحب النار ساعة إلا وهو مستنكر لشيء من العذاب لم يكن يعرفه وسأل الحسن (1) أبا برزة عن أشدّ آية في كتاب الله عز وجل على أهل النار قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ: {فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا (30)} [النبأ: 30] فقال: "هلك القوم بمعاصيهم لله عز وجل"(2). خرَّجه ابن أبي حاتم وفيه من هو ضعيف وخرجه البيهقي وقال: لم أعرفه.
وقال مجاهد: بلغني أن استراحة أهل النار أن يضع أحدهم يده على خاصرته.
واعلم أن لأهل النار أنواعًا من العذاب لم يطلع الله خلقه عليها في الدنيا ثم قرأ مجاهد: {وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ (58)} [ص: 58] وأعظم عذاب أهل النار حجابهم عن الله عز وجل وبعدهم منه وإعراضه عنهم وسخطه عليهم، كما أن رضوان الله على أهل الجنة أفضل من كل نعيم كما مرّت الإشارة إليه بما هو كافٍ.
قال جل شأنه: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17)} [المطففين: 14 - 17] فذكر لهم ثلاثة أنواع
(1) أخرج ابن مردويه عن الحسن كما في "الدر المنثور" 6/ 504.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في "التفسير"(19103) البعث والنشور (579).
من العذاب: الحجاب عنه الذي هو أشد من كلِّ عذاب، وأعظم من كل عقاب، ثم صليهم الجحيم، ثم توبيخهم بتكذيبهم به في الدُّنيا مع ما وصفهم به من أنَّ الران على قلوبهم وهو صدأ الذنوب التي سودت قلوبهم فلم يصل إليها بعد ذلك شيء من معرفة الله، ولا من إجلاله، ومهابته، وخشيته، ومحبته، والإلتذاذ بذكره، والتفكر في آلائه إِن هم إلا كالأنعام بل هم أضلّ سبيلا.
فلمَّا حجبت قلوبهم في الدنيا عن معرفة الله والتلذذ بذكره، وكلامه، والتنعم بمحبته، والتفكر في إنعامه حُجِبوا في الآخرة عن النظر إليه، ومجاورته فيا لها من حسرة ما أعظمها، ومصيبة ما أجسمها.
قال أحمد بن أبي الحواري: حدَّثَنا أحمد بن موسى عن أبي مريم قال: يقول أهل النار: إلهنا ارض عنا، وعذبنا بأيّ نوع شئت من عذابك فإنَّ غضبك أشد علينا من العذاب الذي نحن فيه (1). قال أحمد: فحدثت به سليمان بن أبي سليمان فقال: ليس هذا كلام أهل النار هذا كلام المطيعين لله قال فحدثت به أبا سليمان فقال: صدق سليمان بن أبي سليمان وسليمان هو ولد أبي سليمان الداراني وكان عارفًا كبير القدر رحمه الله.
قال الحافظ ابن رجب: وما قاله حق فإن أهل النار جُهَّال لا يتيقظون لهذا وإن كان في نفسه حقا؟ وإنّما يعرف هذا من عرف الله وأطاعه ولعل هذا يصدر من بعض من يدخل النار من عصاة
(1)"التخويف من النار" ص 195، فصل: أعظم عذاب أهل النار حجابهم عن الله عز وجل.
الموحدين، كما أنَّ بعضهم يستغيث بالله لا يستغيث بغيره فيخرج منها، وبعضهم يخرج منها برجائه لله وحده، وبعض من يؤمر به إلى النارِ يتشفع إلى الله، بمعرفته فينجيه منها.
وقد روي عن الفضيل بن عياض رحمه الله قال: يوقف رجل بين يدي الله عز وجل لا يكون معه حسنة فيقول الله له: اذهب هل تعرف أحدًا من الصالحين أغفر لك بمعرفته فيذهب فيدور مقدار ثلاثين سنة فلا يرى أحدًا فيرجع إلى الله عز وجل فيقول: يا رب لا أرى أحدًا فيقول الله عز وجل: اذهبوا به إلى النار فيتعلق به الزبانية يجرونه فيقول: يارب إن كنت تغفر لي بمعرفة المخلوقين فإني عارف بوحدانيتك، فأنت أحق أن تغفر لي فيقول الله للزبانية: ردوه فإنه كان يعرفني، واخلعوا عليه خلع كرامتي وَدَعُوه يتبحبح في رياض الجنة فإنه عارف بي وأنا له معروف.
قلْتُ: وأخرجَ الدينوري (1) عن صالح المري قال: بلغني أنَّ أهْل النارِ يعذبون بأنواع العذاب فكلَّما عذبوا بنوع من العذاب نقلوا إلى نوع أشد منه فيقولون: ربَّنا عذِّبنا كيف شئت بما شئت، ولا تغضب علينا فإنَّ غضبَكَ أشد علينا من العذاب؛ إذا غضبت ضاقت علينا الأكبال والقيود والسلاسل والأغلال فهذا ربَّما قيل فيه: إنهم ليسوا من الموحدين لما سيأتي أنَّ الموحدين لا يغلون بالأغلال، والقيود والأنكال وقد نطق في هذا الأثر بأنه سبحانه إذا غضب عليهم ضاقت القيود والأغلال عليهم والله أعلم.
(1) المجالسة (2411).