الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يصلي فتلى آيةً من كتاب اللَّه فتفطرت مرارته فوقع (1).
وأخرج ابن أبي الدُّنيا عن بعض السلف قال: بينا أنا جالس في الحدادين ببلخ إذ مرّ رجل فنظر إلى النار في الكور فسقط فقمنا فنظرنا فإذا هو قد مات (2).
وروى من غير وجه أن عليًّا بن الفضيل رضي الله عنهما مات من سماع قراءة هذه الآية: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَالَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27)} [الأنعام: 27].
فصل
وفي صحيح مسلم عن أنس رضي الله عنه أن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "والذي نفسي بيده لو رأيتم ما رأيت لضحكتم قليلًا ولبكيتم كثيرًا لا قالوا: وما رأيت يا رسول الله؟ قال: "رأيت الجنَّة والنَّار" (3).
وفي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:"لما كسفت الشمس رأيت النَّار فلم أر كاليوم قط أفظع"(4).
(1) انظر "الحلية" 9/ 328، 10/ 188.
(2)
الرقة والبكاء لابن أبي الدنيا (51) ابن أبي شيبة في مصنفه (14/ 8).
(3)
رواه مسلم (426) في الصلاة، باب: النهي عن سبق الإمام بركوع أو سجود ونحوهما.
(4)
رواه البخاري (431) في الصلاة، باب: من صلى وقدامه تنور أو نار أو شيء مما يعبد فأراد به الله. و (1052) في الكسوف، باب: صلاة الكسوف جماعة. و (5197) في النكاح، باب: كفران العشير. ومسلم (907) في صلاة الكسوف، باب: ما عرض على النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الكسوف من أمر الجنة والنار.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم خطب فقال: "لا تنسوا (1) العظيمتين الجنَّة والنَّار". ثم بكى حتى جرى أوبلّ دموعه جانبي لحيته، ثُمَّ قال:"والذي نفس محمد بيده لو تعلمون ما أعلم مِن أمر الآخرة لمشيتم إلى الصعيد، ولحثيتم على رؤسكم التراب" رواه أبو يعلى الموصلي في مسنده.
وقال عبد الأعلى (2): ما جلس قوم مجلسًا فلم يذكروا الجنَّة والنار إلا قالت الملائكة: أغفلوا العظيمتين.
وقال ابن السماك: قطع قلوب العارفين بالله ذكر الخلد من الجنَّة والنَّار.
وخطب أبو موسى الأشعري رضي الله عنه النَّاس بالبصرة فذكر في خطبته النَّار فبكى حتى سقطت دموعه على المنبر، وبكى الناس يومئذ بكاءً شديدًا.
وقال أحمد بن أبي الحواري: حدثنا على بن أبي الحسن قال: أوحى اللَّه إلى يحيى بن زكريا عليه السلام: يا يحيى وعزتي لو اطلعت إلى الفردوس اطلاعة لذاب جسمك، ولزهقت نفسك اشتياقًا، ولو اطلعت إلى جهنم اطلاعة لبكيت الصديد بعد الدموع، وللبست الحديد بعد المسوح.
وقال صالح المري رحمه الله: للبكاء دواعي الفكرة في الذنوب، فإن أجابت على ذلك القلوب وإلا نقلتها إلى الموقف، وتلك الشدائد،
(1) في الأصل: لا تسبوا. والصحيح ما أثبتناه من مصادر التخريج انظر ص 997 ت (1).
(2)
ابن أبي الدنيا صفة النار (3) أبو نعيم في الحلية (8/ 88).
والأهوال فإن أجابت إلى ذلك وإلا فأعرض عليها التقلب بين طباق النيران. ثُمَّ صاح، وغشي عليه، وتصايح الناس من جوانبه.
وقال الحسن رحمه الله: والله ما صدق عبد بالنَّار إلا ضاقت عليه الأرض بما رحبت، وإن المنافق لو كانت النَّار خلف ظهره لم يصدق بها حتى يهجم.
وقال وهب بن منبّه: كان عابد في بني إسرائيل قام في الشمس يصلي حتى اسود، وتغير لونه فمرَّ به إنسان فقال: كأن هذا خوّف بالنار قال: هذا من ذكرها فكيف بمعاينتها. وقال إبراهيم التيمي رحمه الله: مثلت نفسي في الجنَّة أكل من ثمارها، وأشرب من أنهارها، وأعانق أبكارها. ثم مثلت نفسي في النَّار آكل من زقومها، وأشرب من صديدها، وأعالج سلاسلها، وأغلالها فقلت لنفسي: أي شيء تريدين؟ قالت: أريد أن أردّ إلى الدنيا فأعمل صالحًا. قال: فقلت: فأنت في الآمنة فاعملي.
واعلم أن الخوف على مراتب فخوف العارفين خوف إجلال، وتعظيم لما غلب على قلوبهم من ذكر اللَّه، وجلاله، وعظمته، وقهره، وجبروته. وقد يخافون من النَّار باعتبار أنها ناشئة عن صفات جلاله، وقهره، وكبريائه، وانتقامه، وغضبه، وسخطه فالنار أثر لمؤثر هو صفات الجلال فالخائف من غضبه سبحانه يخاف من النار والخائف من النار بهذا الاعتبار خائف من غضبه، وانتقامه وفي نفس الأمر الخوف ليس إلا من غضبه تعالى فمن غضب عليه والعياذ باللَّه به منه.
عذَّبه بناره، ومن رضي عليه أسكنه في جواره فالجنَّة رضاه، ونعمته والنار غضبه، ونقمته فالعارفون يخافون من جلال عظمته، ويشفقون من آثار نقمته وهو خوف الأنبياء، والملائكة، وخواص الأولياء.
وأمَّا خوف أكثر المؤمنين فيذكر الوعد والوعيد، وأهوال يوم القيامة الشديد مع فكرتهم في الجنايات، والتفريط، واتهامهم لنفوسهم أن يكون فيها من الآفات ما يربي على المعاصي الظاهرة كالعجبِ، والرياء، والحسد، والكبر، ونحوها.
قال عطاء السلمي: خرجنا مع عتبة الغلام وفينا كهول وشبان يصلون الفجر بوضوء العشاءِ قد تورمت أقدامه من طول القيام، وغارت أعينهم في رؤسهم، ولصقت جلودهم على عظامهم وكأنَّهم خرجوا من القبور فبينا هم يمشون إذ مرَّ بمكانٍ فخرّ مغشيًا عليه فجلس أصحابه حوله يبكون في يوم شديد البردِ وجبينه يرشح عرقًا فلمَّا أفاق سألوه عن حاله فقال: إنّي كنت عصيت الله في ذلك المكان. فانظر رحمك الله إلى حال أولياء الله يا معاشر المذنبين ألا تستحيون من قلة الحياء فالحُرّ تكفيه الملامة إلى متى تمشون على وجوهكم؛ إلى ما يسقط جاهكم.
قفوا في القلي حيث انتهيتم تذمما
…
ولا تقتفوا من جار لما تحكما
ما تفي لذة التأمر على الهوى والتولي بمرارة الانصراف والتولي كلا والله بين الولاية والصرف صرف. قف على الباب باكيًا، وارفع
قصة النّدم شاكيًا، وناد في ناد الأسى بصوت من أسى: أنا المسيء المذنب الخاطئ ما بقى في يديك غير البكاء، ولا لقلبكَ إلا التّحسر، ولا لفؤادك إلا القلق فالعارف يبكي على ما فات، ويندم على ما اقترف من الآفات وإذا مرَّ بمكان كان قد حلا له مر المعاصي بكى وتذكر يوم الأخذ بالنواصي أشد ما يهيج خوف هؤلاء، ويزعج قلوبهم خوف السابقة، والخاتمة فإنَّ العبد لا يدري هل سبق له في علم اللَّه السعادة فيختم له بخاتمةِ الإيمان، أو سبق له في علم اللَّه الشقاوة فيختم له بخاتمة السّوء والخذلان، فكم من مغبوط في أحواله انعكس عليه الحال، ورضي بمفارقة قبيح الأعمال فبدل بالأنس وحشة وطردًا، وبالقرب حجابًا وبعدًا فأمسى بعد المحاضرة مبعودًا، وبعد القرب مطرودًا.
أحسنت ظنك بالأيام إذ حسنت
…
ولم تخف سوء ما يأتي به القدرُ
وسالمتك الليالي فاغتررت بها
…
وعند صفو الليالي يحدث الكدرُ
قال سهل بن عبد الله: خوف الصديقين خوف سوء الخاتمة عند كلّ خطرة، وعند كلّ حركة. وقيل لسفيان الثوري رحمه الله: عليك بالرجاء فإن عفو الله أعظم من ذنوبك. فقال: أو على ذنوبي أبكي لو علمت أنِّي أموت على التوحيد لم أبالي بأمثال الجبال من الخطايا.
تنبيه: خوف بعض العارفين بالتفكر في السابقة فهو عين الحقيقة والمعول عليها؛ لأنَّ السعيد من سعد في بطن أمِّه، والشقي من شقى في بطن أمّه فهو ناظر إلى ما في نفس الأمر فإنَّه لا يتغير ما في علم الله
أبدا ومن تدبر في الخاتمة فباعتبار أنها النتيجة، والصورة البارزة فمن ختم له بخير فاز، ودخل الجنَّة، وجاور مولاه، ومن لا فلا فنسأل اللَّه سبحانه وتعالى حسن الخاتمة في عافية فالأمور بخواتيمها باعتبار الخارج وفي نفس الأمر المعول عليه إنَّما هو السابقة ليس إلا اللَّه واللَّه الموفق.