الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل في أنواع عذاب أهل النار، وتفاوتهم في ذلك في دار البوار على حسب ما اقترفوا من الذنوب والأوزار
وقد قدمنا أن تغيير صورهم، وكبر أجسامهم من جملة أنواع العذاب، وأخرج الإمام مسلم عن سمرة بن جندب رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال في صفة عذاب أهل النار:"منهم من تأخذه النار إلى كعبيه، ومنهم مَن تأخذه النار إلى ركبتيه، ومنهم من تأخذه النار إلى حجزته أي: معقد إزاره، ومنهم من تأخذه النار إلى ترقوته"(1).
وأخرجَ الإمام أحمد عن أبي سعيد رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"إن أهون أهل النارِ عذابًا رجل منتعل بنعلين من نار يغلي منهم دماغه مع إجراء العذاب، ومنهم من قد اغتمر"(2).
وفي الصحيحين عن النعمان بن بشير رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن أهون أهل النار عذابًا رجل (3) في أخمص قدميه
(1) رواه مسلم (2845)، وابن أبي شيبة 13/ 172، وأحمد 5/ 10، وابن أبي عاصم في "السنة"(856)، والحجزة: معقد الإزار، والترقوة: العظم الذي بين ثغرة النحر والعاتق.
(2)
رواه أحمد 3/ 13، وعبد بن حميد (875)، والحاكم في "المستدرك" 4/ 581، والحديث صحيح عَلىَ شرط مسلم.
(3)
ورد بهامش الأصل: هو أبو طالب كما صرَّح به في الرواية الأخرى، وهَذَا بموته عَلىَ كفره، وهو الحق، ووهم بعضهم، وحكمة جعل العذاب عَلىَ قدميه أنه كان مع المصطفى بجملته لكنه متثبت القدمين عَلىَ ملة عبد المطلب فسلط العذاب عَلَى قدميه أفاده المناوي. أهـ.
جمرتان يغلي منهما دماغه كما يغلي المرجل بالقمقم" ولفظ مسلم: "إنَّ أهون أهل النار عذابا رجل له نعلان وشراكان من نار يغلي منهما دماغه كما يغلي المرجل ما يرى أن أحدا أشد منه عذابا وإنه لأهونهم عذابا" (1) قوله المرجل يعني: القدر.
وفي الصحيحين عن أبي سعيد رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر عنده عمه أبو طالب فقال:"لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة فَيُجْعَلُ في ضحضَاح من نار يبلغ كعبيه يغلي منهما دماغه"(2) وفيهما عن العباس رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله هل نفعت أبا طالب بشيء فإنه كان يحوطك، ويغضب لك؟ قال:"نعم هو في ضحضاح من نار ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار"(3) وفي مسلم: "وجدته في غمرات من النار فأخرجته إلى ضحضاح"(4) وفي مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أهون أهل النار عذابًا أبو طالب وهو منتعل بنعلين يغلي منهما دماغه"(5).
(1) رواه البخاري (6561، 6562)، ومسلم (213)، وأحمد 4/ 271.
(2)
رواه مسلم (210)، والبخاري (3885)، وأبو يعلى (1360)، وابن منده في "الإيمان"(968)، وأبو عوانة 1/ 97، والضحضاح: هو ما رَقَّ من الماء عَلىَ الأرض إلى نحو الكعبين، فاستعاره للنار، قاله ابن الأثير في "النهاية" 3/ 75.
(3)
رواه مسلم (209)، وابن أبي شيبة 13/ 165، وعبد الرزاق (9939)، وابن منده في "الإيمان"(957)، والحميدى (465)، وأبو يعلى (6695)، والدرك: بفتح الدال والراء هو: قعر جهنم.
(4)
رواه مسلم (209).
(5)
رواه مسلم (212).
قلت: قد استدل الإمام البرزنجي في كتابه "سداد الدّين وسداد الدين في نجاة الوالدين" على نجاة أبي طالب بل وعلى أنه ليس بكافر مخلد في النار بهذه الأحاديث الصحيحة والآثار.
وذلك أن المصطفى أخبر أن شفاعته صلى الله عليه وسلم قد نفعت أبا طالب، وأنقذته من غمرات جهنم إلى ضحضاح من نارٍ، ومن المعلوم أن الكفار لا تنفعهم شفاعة الشافعين كما نطق به كلام رب العالمين، فلو كان كافرًا مخلدًا فيها لما نفعته الشفاعة لكنها نفعته فلا يكون كافرًا كذا قال وقد ذكرت في كتابي "تحبير الوَفَاء" من ذلك ما يزيل الظمأ ويجلي عن القلب العمى فليراجعه من أراد الوقوف على تحقيق ذلك (1).
وفي صحيح مسلم عن أنس رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة فيصبغ في النار صبغة ثم يقال: يا ابن آدم: هل رأيت خيرًا قط هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا والله يا رب ويؤتى بأشد أهل الدنيا بؤسًا من أهل الجنة فيصبغ في الجنة صبغة فيقال: يا ابن آدم هل رأيت بؤسًا قط هل مرَّ بك
(1) الصحيح أن أبا طالب مات على الكفر وكون النبي صلى الله عليه وسلم شفع فيه فلا يدل على إيمانه ولو كان مؤمناً لما خلد في النار لقوله صلى الله عليه وسلم "ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل في النار" فهذا يدل على كفره وكذا قوله: "أهون أهل النار عذاباً" فيدل على الاستمرارية والبقاء نسأل الله السلامة وكما سبق أن القول بنجاة الوالدين فإن هذا يعارض شرط صحة الاعتقاد وهو الأيمان بالله عز وجل ورسله، وانظر هامش (3) ص 1416.
شدة قط؟ فيقول: لا والله يا رب ما مر بي بؤس، ولا رأيت شدةً قط" (1).
وفي مسلم عن أنس رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"يقول الله عز وجل لأهونِ أهل النار عذابًا يوم القيامة: لو كانت لك الدنيا وما فيها أكنت مفتديًا بها فيقول: نعم فيقول: قد أردت منك أهون من هذا وأنت في صلب آدم أن لا تشرك ولا أدخلك النار فأبيت إلا الشرك"(2).
واعلم أن تفاوت أهل النار في العذاب بحسب تفاوت أعمالهم القبيحة كما قال سبحانه: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} [الأنعام: 132] وقال: {جَزَاءً وِفَاقًا} [النبأ: 26] قال ابن عباس (3): وافق أعمالهم فليس عقاب من يغلظ كفره وأفسد في الأرض ودعا إلى الكفر كمن ليس كذلك قال تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ} [النحل: 88] وقال: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر: 46].
وكذلك تفاوت عصاة الموحدين من عذب منهم في العذاب بحسب أعمالهم.
(1) رواه مسلم (2807)، وأحمد 3/ 203، وفي "الزهد" ص 24، وعبد بن حميد (1313)، والبيهقي (436).
(2)
رواه أحمد 3/ 127، والبخاري (3334)، ومسلم (2805)، وابن أبي عاصم في "السنة"(99)، وأبو نعيم في "الحلية" 3/ 77.
(3)
أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس كما في "الدر المنثور" 6/ 503.
فليس عقوبة أهل الكبائر والبدع كعقوبة غيرهم.
وفي الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن أشد الناس عذابًا يوم القيامة المصورون"(1) ومعنى هذا والله أعلم أن من أشد الناس عذابا بتقدير "مِنْ" ثم إن المصور إما أن يكون مسلمًا أو كافرًا فإن كان مسلمًا فيكون المعنى: أنَّ من أشد الناس المتصفين بالإسلام المستحقين للعذاب بسبب جرائمهم عذابًا المصورين وذلك لعظم جريمتهم، وإن كان المصور كافرًا فالأمر ظاهر.
وأخرج أبو نعيم عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن أشد الناس عذابًا يوم القيامة من شتم الأنبياء ثم أصحابي ثم المسلمين"(2) وأخرج الطبراني وأبو نعيم عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن أشد الناس عذابًا يوم القيامة من قتل نبيًا أو قتله نبيٌّ، وإمام جائزٌ، وهؤلاء المصورون"(3).
وأخرج البخاري في "التاريخ" والطيالسي عن خالد بن الوليد رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أشد الناس عذابًا يوم القيامة أشدُّهم عذابًا للناس في الدنيا"(4).
(1) صحيح. رواه أحمد 1/ 375، ومسلم (2109)، وأبو يعلى (5107).
(2)
رواه أبو نعيم في "الحلية" 4/ 96، 10/ 215، وقال: غريب من حديث ميمون -يعني: ابن مهران- تفرد به محمد بن زياد.
(3)
الطبراني في الكبير (10/ 266) ابن أبي الدنيا في صفة النار (105).
(4)
3/ 143 (485).
وفي تفسير الثعلبي عن عبد الله: "إن أشد الناس عذابًا يوم القيامة ثلاثة: المنافق ومَن كفر مِن أصحاب المائدة وآل فرعون".
قال صاحب "كنز الأسرار": وتصديق ذلك في كتاب الله تعالى أما أصحاب المائدة فقال تعالى: {فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ} [المائدة: 115] وأما آل فرعون فقال تعالى: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر: 46]، وأما المنافقون فقال تعالى:{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء: 145] وقد يخفف العذاب عن بعض أهل النار بحسنات أُخَر، أو بما شاء الله من الأسباب ولهذا يموت بعضهم في النار كما سيأتي.
قلت: إذا لطف الله بعبده فلا عليه في أي الدارين أدخله، وإذا غضب عليه والعياذ بالله انتقم منه أينما كان عياذًا بك اللهم من غضبك وتوسلاً بعفوك وسلمِك من حربك.
وأما الكفار: إذا كان لهم حسنات في الدنيا من نحو عدلٍ وعتق وإحسان إلى الخلق فهل يخفف عنهم بذلك من العذاب في النار؟ أم لا؟ فيه قولان لسلف هذه الأمة المطهرة ولخلفها.
أحدهما: بلى وهو مروي عن سعيد بن جبير واختاره ابن جرير الطبري وغيره.
وأخرج الخرائطي في "مكارم الأخلاق" عن عائشة رضي الله عنها مرسلاً أنها قالت: يا رسول الله أين عبد الله بن جدعان؟ قال: "في الناردا فجزعت عائشة رضي الله عنها واشتد عليها فلما رأى ذلك قال: "يا عائشة ما يشتد عليك من هذا؟ " قالت: بأبي أنت وأمي يا
رسول الله كان يطعم الطعام ويصل الرحم قال: "إنه يهون عليه بما قُلْت"(1)(2).
وأخرج ابن أبي حاتم والبزار في "مسنده" والحاكم في "المستدرك" وقال: صحيح الإسناد والبيهقي في "البعث والنشور" وقال: في إسناده نظر عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أحسن من محسن: كافر أو مسلم إلا أثابه الله عز وجل في عاجل الدنيا أو ادَّخر له في الآخرة" قلنا: يا رسول الله ما إثابة الكافر في الدنيا؟ قال: "إن كان قد وصل رحمًا، أو تصدق صدقة، أو عمل حسنة أثابه الله المال والولد والصحة وأشباه ذلك" قلنا: فما إثابة الكافر في الآخرة؟ قال: "عذابًا أليمًا دون عذاب" ثم تلا: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر: 46](3).
قال الحافظ ابن رجب في "التخويف"(4): وفيه عتبة بن يقظان تكلم فيه بعضهم.
(1) وفي نحوه في صحيح مسلم وسيأتي في الصفحة التالية.
(2)
انظر: "التخويف من النار" ص 181.
(3)
رواه البزار في "مسنده"(1454) وقال: وهذا الحديث لا نعلم رواه عن رسول الله (إلا عبد الله بن مسعود، ولا نعلم لَهُ إسنادًا عن عبد الله إلا هَذَا الإسناد، ورواه الحاكم 2/ 253، وقال الذهبي: عتبة واه، وقال عنه ابن حجر: ضعيف. التقريب 2/ 5، وفيه عامر بن مدرك بن أبي الصفيراء، لين الحديث. التقريب 1/ 829، ورواه البيهقي في "البعث والنشور" (17).
تنبيه: وليست في المستدرك الدنيا.
(4)
"التخويف من النار" ص 182.
وتقدم أنَّ الله خفَّف عن أبي طالب بسبب إحسانه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذا خفف عن عمه أبي لهب بسبب عتقه لثويبة حين بشرته بولادة النبي صلى الله عليه وسلم فقد ذكر الحافظ الدمياطي رحمه الله: أن أبا لهب رؤي بعد موته فقيل له: ما حالك؟ قال: في النار إلا أنه يخفف عني كل ليلة اثنين، وأمص من بين اصبعي هاتين وأشار برأس أصبعيه وإن ذلك بإعتاقي لثويبة عندما بشرتني بولادة النبي صلى الله عليه وسلم وبإرضاعها له ونحوه في "المواهب اللدنية".
قلت: والرائي لأبي لهب هو العباس رضي الله عنه وقد ذكرت ذلك مطوّلا في كتابي "تحبير الوفَاء" في ذكر إرضاعه صلى الله عليه وسلم.
وما أحسن ما قاله الحافظ الشمس محمد بن ناصر الدين الدمشقي رحمه الله تعالى في ذلك:
إذا كان هذا كافرًا جاء ذمه
…
وتبّت يداه في الجحيم مخلدا
أتى إنه في يوم الاثنين دائمًا
…
يخفف عنه للسرور بأحمد
فما الظن بالعبد الذي كان عمره
…
بأحمد مسرورًا ومات موحدا
[
…
] (1) إن الكافر لا ينتفع في الآخرة بشيء من حسناته بحال ومن حجة أهل هذا القول قوله تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان: 23] وقوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} [إبراهيم: 18] الآية. وفي صحيح مسلم عن أنسٍ رضي الله عنه عن
(1) بياض في الأصل، ولعله القول الثاني.
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله لا يظلم مؤمنًا حسنة يعطي بها في الدنيا ويجزي بها في الآخرة، وأما الكافر فيطعم بحسنات ما عمل بها في الدنيا حتَّى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يجزى بها" وفي رواية له أيضًا: "إنَّ الكافر إذا عمل حسنة أطعم بها طعمة من الدنيا، وأما المؤمن فإن الله يدخر له حسناته في الآخرة ويعقبه رزقًا في الدنيا على طاعته"(1).
وفي صحيح مسلم أيضًا عن عائشة رضي الله عنها قلت: يا رسول الله إن ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم ويطعم المسكين فهل ذلك نافعه قال: "لا ينفعه إنه لم يقل يومًا رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين"(2) وقال أصحاب هذا القول في الجواب عما ورد في أبي طالب: تخفيف العذاب عنه من خصائص النبى صلى الله عليه وسلم لا يشرك فيها غيره قلت: أما عذاب الكفر فإن الله لا يخفف منه شيئًا، وأما عذاب فروع الدين فيجوز أن يخفف منه على من يشاء من عباده وإن كفارًا، فإن المعتمد أن الكفار مخاطبون بفروع الإسلام.
وأما ما ورد من تخفيف العذاب عن أبي طالب عم المصطفى فلأياديه مع ولد أخيه أليس هو القائل لما تألّبت عليه القبائل بسبب
(1) رواه مسلم (2808)، وأحمد 3/ 123، وعبد بن حميد (1178)، وابن المبارك في "الزهد"(327)، والبخاري في "خلق أفعال العباد"(432)، والطيالسي (2011).
(2)
رواه مسلم (214)، وأحمد 6/ 93.
حفظه للنبي صلى الله عليه وسلم وذبّ أعداء الله عنه من قصيدة طويلة منها:
وإن فخرتُ يومًا فإن محمّدًا
…
هو المصطفى من سرها وكريمها
تداعت قريش غثها وسمينها
…
علينا فلم تظفر وطاشت حلومها
وكنا قديما لا نقر ظُلامةً
…
إذا ما شنوا صعر الخدود نقيمها
وهو القائل:
والله لن يصلوا إليك بجمعهم
…
حتَّى أوسَّد في التراب دفينا
فانفذ لأمرك ما عليك غضاضةٌ
…
فكفى بِنا دَينًا لديك ودينا
ودعوتني وزعمت أنك ناصحي
…
فلقد صدقتَ وكنتَ ثمَّ أمينا
وعرضت دينا قد علمتُ بأنَّه
…
من خير أديان البرية دينا
لولا الملامةُ أو حذار مسبةٍ
…
لوجدتني سمحًا بذاك مبينا
- قال هذا الشعر عند وفاته ثم دعا بني عبد المطلب وقال: لن تزالوا بخير ما سمعتم من محمد وتابعتم أمره فاتبعوه وأعينوه ترشدوا ثم قال: لابن أخيه ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب يحثه على نصر المصطفى:
اعلم أبا أروى بأنك ماجدٌ
…
من صلب شيبة ما نصرت محمدا
لله درّك إن عرفت مكانه
…
في قومه ووهبت منك له يدا
شرف القيامة والمعاد بنصره
…
وبعاجل الدنيا تحوز السؤددا
أكرم بمن يفضى إليه بأمره
…
نفسًا إذا عد النفوس ومحتدا
وخلائقًا شرفت بمجد نصابه
…
يكفيك منه اليوم ما ترجو غدا
أليس من كان هذا حثه وحفظه لهذا النبي مع كونه إذ ذاك قليل الأنصار قد قلاه الأقارب وجفاه الأجانب، ورماه الناس عن قوس
واحد ولا ثَمَّ إلا مشركٌ أو جاحدٌ والذين اتبعوه إذ ذاك بين مخافةٍ لا يُظِهرُ أمرَه وبين دخيل على ذي قوة يسند إليه ظهَره وأبو طالب قد شمر عن ساعد الجد والاجتهاد ونادى على رؤوس الأشهاد يقول:
فلا تحسبونا خاذلين محمدا
…
لدى غربة منا ولا متقرب
ستمنعه منا يدٌ هاشمية
…
مركبها في المجد خير مركب
يمينًا صدقنا الله فيها ولم تكن
…
لنحلف بُطْلا بالعتيق المحجب
نفارقه حتَّى تُصرَع حوله
…
وما بال تكذيب النبي المقرب
وقد حاربته قريش غثها وسمينها وقاطعته كلها فاجرُها وأمينُها حتَّى إنَّ أخاه أبا لهب جفاه فقام أبو طالب فالتجأ إلى الشعب هو ومن والاه، أليس من كان بهذه المثابة حربًا بأن يخفف عنه من العذاب، ويهون عليه من العقاب (1). ومن يساوي بين أبي طالب وبين أبي جهل بل وبين أبي لهب شتان بين مشرق ومغرب.
وإنما الذي ذكرنا من أيادي أبي طالب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قطرة من بحر لجي وقد ذكرت جُلَّ صنائعه معه صلى الله عليه وسلم في كتابي "تحبير الوَفَاء" ومع هذا فإني أقول لا أدري ما يفعل بي ولا بكم والله يفعل ما يشاء غير أني لا أتجرأ على أذية أهل بيت المصطفى، وأتبع الوارد عنه صلى الله عليه وسلم وأقنع بهذا وكفى.
(1) على ما جاء في السنة النبوية؛ أما من ادعى إسلامه فهذا غير صحيح ولا يقال إن الحكم بكفرانه تجرئ على أذية بيت المصطفى في أهل بيته وبيان حكم الله فيهم، انظر تعليق ص 1418.