الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل في توحيد طريق الجنَّة
أعلم أن الله سبحانه وتعالى قد سد جميع الطرق، إلَّا طريقًا بينه المصطفى صلى الله عليه وسلم فلا يوصل إلى الله إلَّا من طريقه وطريق أنبيائه وهي طريق واحدة.
قال في "حادي الأرواح": هذا مما اتفقت عليه الرسل من أولهم إلى خاتمهم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وأمَّا طرق الجحيم فأكثر من أنت تحصى، ولهذا يوحد سبيله، ويجمع سبيل النَّار، كقوله تعالى:{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153].
وقال ابن مسعود رضي الله عنه خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطاً وقال: "هذه سبيل الله، ثم خطأ خطوطاً عن يمينه، وعن يساره، ثم قال: هذه سبل الله وعلى (1) كل سبيل منها شيطان يدعو إليه، ثم قرأ:{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ} (2) الآية.
فإن قيل قال الله تعالى: {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ} فالجواب: هي سبل تجمع في سبيل واحد وهي بمنزلة الجوادّ والطرق في الطَّريق الأعظم فهذه هي شعب الإيمان تجمعها
(1) آخر السقط. انظر ص 967 ت (3).
(2)
أحمد (1/ 435) البزار (1865) وذكره الهيثمي في المجمع (7/ 90) وقال: رواه أحمد والبزار وفيه عاصم بن بهدلة وهو ثقة وفيه ضعف. اهـ.
الإيمان كما أن ساق الشجرة يجمع أغصانها وهذه السبل هي إجابة لداعي الله بتصديق خبره وطاعة أمره فطريق الجنَّة إجابة الداعي إليها ليس إلَّا.
وروى البُخاريّ في صحيحه عن جابر رضي الله عنه قال: جاءت ملائكة إلى النَّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال بعضهم: إنَّه نائم وقال بعضهم: العين نائمة والقلب يقظان وقالوا: إنَّ لصاحبكم هذا مثلًا فاضربوا له مثلًا وقالوا: مثله مثل رجل بني دارًا وجعل فيها مأدبة وبعث داعيًا فمن أجاب الداعي دخل الدار وأكل من المأدبة ومن لم يجب الداعي لم يدخل الدار ولم يأكل من المأدبة. فقالوا: أولوها يفقهها فقال بعضهم: إن العين نائمة والقلب يقظان، الدار الجنَّة. والداعي محمدٌ فمن أطاع محمدًا فقد أطاع اللهَ ومن عصى محمدًا فقد عصى اللهَ ومحمد فرق بين النَّاس (1). ورواه التِّرمذيُّ عنه بلفظ خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني رأيت في المنام كأن جبريل على رأسي وميكائيل عند رجلي فذكر نحو ما تقدم وفيه: فالله هو الملك والدار الإسلام والبيت الجنَّة وأنت يا محمَّد رسول فمن أجابك دخل الإسلام ومن دخل الإسلام دخل الجنَّة وأكل مما فيها (2). وصحح التِّرمذيُّ من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: صلىَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء ثم
(1) رواه البُخاريّ (7281) كتاب: الاعتصام، باب: الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(2)
رواه التِّرمذيُّ (2860) كتاب: الأدب، باب: ما جاء في مثل الله لعباده.
انصرف فأخذ بيدي ثم خرج بي إلى بطحاء مكّة، فأجلسني ثم خط عليَّ خطة ثم قال:"لا تبرحن خطك فإنَّه سينتهي إليك رجال فلا تكلمهم فإنهم لا يكلمونك" ثم مضى صلى الله عليه وسلم حيث أراد فبينا أنا جالس في خطِّي إذ أتاني رجال كأنهم الزط أشعارهم وأجسامهم لا أرى عورة ولا أرى قشرَا وينتهون إليّ لا يجاوزون الخط ثم يصدرون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتَّى إذا كان من آخر الليل لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جاءني وأنا جالس فقال: "لقد رأى منذ الليلة" ثم دخل عليّ في خطِّي فتوسد فخذي فرقد وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رقد نفخ فبينا أنا قاعد ورسول الله صلى الله عليه وسلم متوسد فخذي إذا أنا برجال عليهم ثياب بيض الله أعلم ما بهم من الجمال فانتهوا إليّ فجلس طائفة منهم عند رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم وطائفة منهم عند رجليه ثم قالوا: ما رأينا عبداً قد أوتي مثل ما أوتي هذا النَّبيّ إن عينيه تنامان وقلبه يقظان اضربوا له مثلاً، مثل سيد بني قصراً ثم جعل مأدبة فدعا النَّاس إلى طعامه وشرابه فمن أجابه أكل من طعامه وشرب من شرابه ومن لم يجبه عاقبه أو قال عذبه ثم أرتفعوا واستيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك فقال:"سمعت ما قال هؤلاء وهل تدري من هم؟ " قلت: الله ورسوله أعلم. قال: "هم الملائكة فتدري بالمثل الذي ضربوه؟ " قلت: الله ورسوله أعلم قال: "الرحمن بنى الجنَّة ودعا إليها عبادة فمن أجابه دخل الجنَّة ومن لم يجبه عذبه"(1). ولشيخ الإسلام ابن
(1) رواه التِّرمذيُّ (2861) كتاب: الأمثال، باب: ما جاء في مثل الله لعباده وأحمد 1/ 455.
تيمية طيب الله ثراه كلام حسن في جزء سمّاه "وجوب الاعتصام بالرسالة" فمنه: اعلم أن السعادة والهدى في متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم وأن الضلال والشقاء في مخالفته وأن كل خير في الوجود إمَّا عام وإما خاص فمنشأه من جهة الرسول وأن كل شر بالعالم وكل شر مختص بالعبد فسببه مخالفة الرسول أو الجهل بما جاء به وأن سعادة العباد في معاشهم ومعادهم باتباع الرسالة والرسالة ضرورية للعباد لابد لهم منها وحاجتهم إليها فوق حاجتهم إلى كل شيء والرسالة روح العالم ونوره وحياته فأي صلاح للعالم إذا عدم الروح والحياة والنور والدنيا مظلمة ملعونة كلها إلَّا ما طلعت عليه شمس الرسالة. وكذلك العبد ما لم يشرق في قلبه شمس الرسالة ويناله من حياتها وروحها فهو في ظلمة وهو من الأموات قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلَّا بقايا من أهل الكتاب"(1) وهذا المقت كان لعدم هدايتهم بالرسل فرفع الله عنهم هذا المقت برسول الله صلى الله عليه وسلم فبعثه الله رحمة للعالمين وحجة للسالكين وحجة على الخلائق أجمعين.
قال: وافترض الله سبحانه وتعالى على العباد طاعة نبيه ورسوله ومحبته وتعزيره وتوقيره والقيام بأداء حقوقه وسد إليه جميع الطرق فلم يفتح لأحد إلَّا من طريقه. انتهى.
(1) رواه مسلم (2865) كتاب: الجنَّة ونعيمها، باب: الصفات التي يعرف بها في الدُّنيا أهل الجنَّة وأهل النَّار. وأحمد 4/ 132. والطبراني في "الكبير" 17/ 361 (995).
وبلغنا أنَّ بعض العلماء رأى النَّبيّ صلى الله عليه وسلم في المنام فسأله عن ابن سينا فقال: ذاك أراد أن يصل إلى الله من غير طريقنا فقطع أو قال فقطعناه. والله سبحانه المسئول أن يوفقنا لسلوك طريق الرسول وأن يوفقنا على معالم الهدى وحق اليقين وأن يقذف في قلوبنا من نور المعارف وعوارف اليقين ما ينجاب عن القلب غياهب الشكوك الردية وحوادس الظنون الدنية بمنه وكرمه.