الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب التاسع في ذكر لباس أهل الجنَّة، وحليهم، ومناديلهم، وفرشهم، وبسطهم، ووسائدهم وسررهم وأرائكهم
.
قال تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ (53)} [الدخان: 51 - 53].
وقال تعالى: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ} [الكهف: 31].
قال في "حادي الأرواح"(1) عن جماعة من المفسرين: السندس: ما رق من الدّيباج، والإستبرق: ما غلظ منه، وقالت طائفة: ليس المراد به الغليظ، ولكن المراد به الصفيق (2). وقال الزجاج: هما نوعان من الحرير وأحسن الألوان الخضر (3)، وألين الملابس الحرير، فجمع لهم سبحانه بين حسن المنظر، وحسن اللباس مع نعومته، والتذاذ الجسم به.
وقد ذكر في "حادي الأرواح"(4) مسألة عظيمة، وملخصها أنه قد قال سبحانه وَلَاسُ {وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} [الحج: 23]، وقد صح عن المصطفى صلى الله عليه وسلم أنه قال:"من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة"
(1)"حادي الأرواح" ص 282.
(2)
في (ب): الصفيق.
(3)
في (ب): الأخضر.
(4)
"حادي الأرواح" ص 282، 283.
أخرجه البخاري، ومسلم، وغيرهما من حديث عمر (1) وأنس رضي الله عنهما.
فقيل: لا يلبس الحرير في الجنَّة، ولكن يلبس غيره، وخصوا عموم الآية، وقيل هو من الوعيد الذي له حكم أمثاله مثل قوله صلى الله عليه وسلم "من أتى كاهنًا فصدقه فقد كفر بما أنزل على محمد"(2) أو كما قال، فيحمل على الزجر، فإذا تاب فلا خلاف في أنه خرج من عهدة الوعيد، وكذا الحسنات الماحية، والمصائب المكفرة، ودعاء المسلمين، وشفاعة من يأذن الله له في الشفاعة فيه، وشفاعة أرحم الراحمين إلى نفسه ونظيره "من شرب الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة" (3) وسمعت بعض السادة يقول: أخشى على من لبس الحرير في الدنيا ولم يتب أن يخرج من الدُّنيا على غير فطرة الإسلام، وكان ذلك لكون من يدخل الجنَّة لابد وأن يلبس الحرير، ومن مات مسلمًا لابد من دخول (4) الجنَّة، والمصطفى صلى الله عليه وسلم منع أن يلبس الحرير في الجنَّة (5) فعلى هذا لا يموت مسلمًا، ونعوذ بالله فنسأل الله تعالى الهداية، والعناية بمنه وكرمه.
(1) البخاري (5834)، وأحمد 2/ 429، والترمذي (2817)، والنسائي في "الكبرى"(11343).
(2)
أبو يعلى (5408)، والبزار (2/ 443) رقم (2067).
(3)
البخاري (5575)، ومسلم (2003)، رواه ابن ماجة (3374) وصححه الألباني. سبق تخريجه ت (1) ص 1105.
(4)
في (ب): دخوله.
(5)
سيأتي في ت (1) ص 1167.
قال تعالى: {عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ} [الإنسان: 21]، فقوله:{عَالِيَهُمْ} أي بارزا، وظاهرًا يحمل ظواهرهم ليس ذلك بمنزلة الشعار الباطن بل ذلك للزينة والجمال، وقرئ "عَالِيهُم" بالرفع على الابتداء، وبالنصب على الظرفية كما صوبه في "حادي الأرواح"(1) فإن قيل عال مفرد، وثياب: جمع فكيف يخبر عن المفرد بالجمع؟ فالجواب أن عاليًا قد يراد به الكثرة كقول الشاعر:
ألا إنَّ جيران العشية رابح
…
دعتهم دواع من هوى ومناح
ومنه قوله تعالى: {مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ (67)} [المؤمنون: 67]. فقوله: {عَالِيَهُمْ} الرفع مبتدأ، "وثياب سندس" خبره، ومن رفع خضرا جعله صفة لثياب، وهو الأقيس ومن جره جعله صفة لسندس على إرادة الجنس، كما يقال: أهلك الناس الدينار الصفر، والدرهم البيض، ووجه الرفع أقيس وأسلم من وجوه.
أحدها: المطابقة بينهما في الجمع.
الثاني: موافقته لقوله تعالى: {وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا} [الكهف: 31].
الثالث: منْ تخلصه وصف المفرد بالجمع.
الرابع: مجيء كلام العرب بالجمع الذي هو في لفظ الواحد فيجرونه مجرى الواحد كقوله تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ} [يس: 80]، وقوله:{كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ} [القمر: 20]، والله أعلم.
(1)"حادي الأرواح" ص 283.
في "حادي الأرواح"(1) عن الحسن: الحلي في الجنَّة على الرجال أحسن منه على النساء. وفيه عن سعدِ بن أبي وقاص مرفوعًا: "لو أنَّ رجلًا مِنْ أهل الجنَّةِ اطلع فبدا بسواره لطمس ضوءَ الشمس كما تطمس الشمسُ ضوءَ النجوم"(2). وفيه ابن لهيعة وثقه الإمامُ أحمد، وتكلَّم فيه ابن معين وغيره.
وفيه عن أبي إمامةَ مرفوعًا: "في أهل الجنَّةِ مسورون بالذهب والفضة، مكللون بالدر، عليهم أكاليل من درّ وياقوت متواصلة، وعليهم تاج كتاج الملوك شباب جرد مرد مكحلون"(3).
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه كان وهو يتوضأ للصلاة يمد يده حتَّى تبلغ إبطه، فقال له أبو حازم: يا أبا هريرة ما هذا الوضوء؟ فقال: يا بني فروخ، أنتم ها هنا لو علمت أنكم ها هنا ما توضأت هذا الوضوء سمعتُ خليل صلى الله عليه وسلم يقول:"تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء"(4) وفي هذا استئناس لمن استحب غسلَ العضد، وإطالته.
(قلت)(5): صححه في "الإنصاف"، وجزم به في "المغني"
(1)"حادي الأرواح" ص 286.
(2)
رواه الترمذي (2538) كتاب: صفة الجنَّة، باب: ما جاء في صفة أهل الجنَّة.
قال أبو عيسى: هذا حديث غريب لا نعرفه بهذا الإسناد إلَّا من حديث ابن لهيعة.
وصححه الألباني، أبو نعيم في "صفة الجنَّة" ص 111 (266).
(3)
رواه أبو نعيم في "صفة الجنَّة" ص 111 (267).
(4)
رواه مسلم (250) في كتاب الطهارة، باب: تبلغ الحلية حيث يبلغ الوضوء.
(5)
ساقطة من (ب)، انظر "المقنع"، "الشرح الكبير"، و"الإنصاف"(1/ 283).
و"الشرح"، وابن رزين، وغيره، وقدمه في "الفروع"، وعنه:(لا يستحب ذلك. قال الإمام أحمد: لا يغسل فوق المرفق. قال في "الفائق")(1): ولا تستحب الزيادة على محل الفرض في أنص "الروايتين" وهو الذي صححه الإمام المحقق قال: وهو قول أهل المدينة ولا حجة في الحديث؛ لأن الحلية إنَّما تكون زينًا في الساعد، والمعصم لا في العضد، والكتف وأمَّا ما في الحديث:"مَنْ استطاع منكم أنْ يطيل غُرّته فليفعل". فهذه الزيادة من كلام أبي هريرة رضي الله عنه مدرجة في الحديث لا من كلامه صلى الله عليه وسلم قال: وكان شيخ الإسلام قدَّسَ الله روحَه يقول: "هذه اللفظة لا يمكن أن تكون من كلام رَسول الله صلى الله عليه وسلم فإن الغرة لا تكون إلَّا في الوجه، وإطالتها غير ممكنة إذ يدخل في الرأس، ولا يسمّى ذلك غرة والله أعلم"(2).
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من يدخل الجنَّة ينعَم، لا يبأس (3) لا تبلى ثيابه، ولا يفنى شبابه، في الجنَّة ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر"(4).
وأخرج الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: جاء أعرابي جرمي فقال: يا رسُولَ الله أخبرنا عن الهجرة
(1) ساقطة من (ب).
(2)
"حادي الأرواح" ص 288.
(3)
في (ب): ييأس.
(4)
رواه مسلم (2836) في كتاب: الجنَّة وصفة نعيمها وأهلها، باب: في دوام نعيم أهل الجنَّة.
إليكَ أين ما كنت؟ أم لقوم خاصة؟ أم إلى أرض معلومة؟ أم إذا مت انقطعت؟ فسأل ثلاث مرار، ثُمَّ جلس، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسيرًا ثُمَّ قال:"أين السائل؟ " قال: ها هو ذا يا رسول الله. قال: "الهجرة أن تهجر الفواحش ما ظهر منها، وما بطن، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، ثُمَّ أنتَ مهاجر وإنْ مت بالحضر"(1).
فقام آخر، فقال: يا رسُولَ الله أخبرني عن ثياب أهل الجنَّةِ تخلق خلقًا، أم تنسج نسجًا. قال: فضحك بعض القوم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"تضحكون من جاهل يسأل عالمًا" فسكت النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ساعته، ثُمَّ قال:"أين السائل عَنْ ثياب الجنَّة؟ " قال: ها هو ذا يا رسُولَ الله قال: "لا بل تشقق عنها ثمر الجنَّة ثلاث مرار"(2).
وعند الإمام أحمد (3) عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: "سوط أحدكم من الجنَّة خير من الدُّنيا ومثلها معها، ولقاب قوس أحدكم مِنَ الجنَّة خير من الدنيا ومثلها معها، ولنصيف امرأة من الجنَّة خير من الدنيا ومثلها معها".
قيل لأبي هريرة رضي الله عنه ما النصيف؟ قال: "الخمار".
وفي "حادي الأرواح"(4) عن أبي سعيدٍ رضي الله عنه مرفوعًا: "إن الرجل في الجنَّة ليتكئ سبعين سنة قبل أنْ يتحول، ثُمَّ تأتيه امرأة،
(1) رواه أحمد 2/ 224، 225 (7095).
(2)
رواه الإمام أحمد 2/ 203.
(3)
أحمد 2/ 315، 438.
(4)
"حادي الأرواح" ص 290، الترمذي (2562) في كتاب صفة الجنَّة باب: ما جاء ما لأدنى الجنَّة من كرامة، وقال: هذا حديث غريب.
فتضرب على منكبه، فينظر وجهه في خدها أصفى من المرآة، وإنَّ أدنى لؤلؤةٍ عليها لتضيء ما بين المشرق والمغرب، فتسلم عليه، فيرد السلام، ويسألها: مَنْ أنت؟ فتقول: أنا المزيد وإنَّه ليكون عليها سبعون ثوبًا أدناها مثل النعمان من طوى، فينفذها بصره حتى يرى مخ ساقها مِنْ وراء ذلك، وإنَّ عليهم لتيجان، وإن أدنى لؤلؤة عليها لتضيء ما بين المشرق، والمغرب".
وروى الترمذي منه ذكر التيجان وما بعده.
وأخرج ابن أبي الدنيا (1) عن أبي أمامة رضي الله عنه مرفوعًا: "ما مِنْ أحد يدخل الجنَّة إلَّا انطلق به إلى طوبى، فتفتح له أكمامها، فيأخذ من أي ذلك شاء أبيض، وإن شاء أحمر، وإن شاء أخضر، وإن شاء أصفر، وإن شاء أسود مثل شقائق النعمان وأرق وأحسن".
وأخرج عن ابن عباس رضي الله عنهما أئه سئل ما حلل الجنَّة؟ قال: "شجر فيها ثمر كأنَّه الرمان، فإذا أراد ولّي (2) الله كسوة انحدرت إليه من غصنها، فانفلقت عن سبعين حلة ألوانًا بعد ألوان، ثُمَّ تنطبق ترجع كما كانت".
وعنده عن أبي سعيد رضي الله عنه أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سئل ما طوبى؟ قال: "شجرة في الجنَّة مسيرة مائة سنة ثياب أهل الجنَّةِ تخرج من أكمامها"(3).
(1) ابن أبي الدنيا في "صفة الجنَّة" ص 123.
(2)
في (ب): وإلي. "صفة الجنَّة" لابن أبي الدنيا ص (123).
(3)
أحمد (3/ 71)، وابن أبي الدنيا في "صفة الجنَّة" ص 124 (150).
وأخرج عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "دار المؤمن في الجنَّة لؤلؤ فيها شجرة، فتنبت الحلل، فيأخذ الرجل بإصبعه، وأشارَ بالسبابة والإبهام سبعين حلة متمنطقة باللؤلؤ والمرجان"(1).
وفي الصحيحين عن أنس رضي الله عنه قال: أهدى أُكْيدر دُومة إلى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم جبة من سندس، فتعجب الناس من حسنها فقال صلى الله عليه وسلم:"لمناديل سعد في الجنَّة أحسن من هذا"(2).
وفيهما أيضًا عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: "أُهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثوب حرير، فجعلوا يعجبون من لينه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تعجبون من هذا؟ لمناديل سعد بن معاذ في الجنَّة أحسن من هذا" (3).
قال في "حادي الأرواح"(4): لا يخفى ما في ذكر سعد بن معاذ بخصوصه هاهنا فإنَّه كان في الأنصار بمنزلةِ الصديق في المهاجرين، واهتز لموته العرشُ، وكان رضي الله عنه لا تأخذه في الله لومة لائم، وختم الله له بالشَّهادة، وآثر رضى الله ورسوله على رِضَى قومه وعشيرته وحلفائه، ووافق حكمُه الذي حَكَمَ به الله من فوق سبع سمواته، ونعاه جبريل عليه السلام إلى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يوم موته، فحق له رضي الله عنه أن
(1) رواه ابن أبي الدنيا في "صفة الجنَّة" ص 124 (151).
(2)
رواه البخاري (3248) في كتاب بدء الخلق، باب: ما جاء في صفة الجنَّة وأنها مخلوقة. ومسلم (2469) في كتاب فضائل الصحابة، باب: من فضائل سعد بن معاذ رَضي اللهُ عَتهُ.
(3)
رواه ابن أبي الدنيا في "صفة الجنَّة" ص 126 (156).
(4)
"حادي الأرواح" ص 293.