الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل في الإشارة إلى غريب هذا الحديث العظيم
.
تقدم قوله: تهضب: أي تمطر، والأصواء: القبور، والسقطة: الهفوة، والشربة: - بفتح الراء - الحوض الذي يجتمع فيه الماء وبالسكون [وبالياء] الحنظلة يريد أنَّ الماء قد كثر فمن حيث شئت تشرب، وعلى رواية السكون [والياء] يكون [قد] شبه الأرض بخضرتها بالنبات بخضرة الحنظلة، واستوائها وقوله:"ضنَّ ربك بمفاتيح خمس" أي: كتم علمَ خمس من الغيب، وأصل الضن: البخل تقول العربُ ضَنِنت بالشَّيء بكسر النون لتضَن به ضنونا، وضنًّا وضَنَانة فأنا ضنين أي: بخيل وضَنَنْت أضِن لغةً ومنه حديث زمزم "احفرن المضونة" أي: التي يضن بها لسقامتها (1)، وعزتها واعلم أنَّه لا يجوز إطلاق البخل على الله تعالى عن ذلك فالمراد أنَّ الله كتم علمَ خمسٍ مِنَ الغيب، أو نحو ذلك فالله أعلم بمراده.
والمنية: الموت. والمني: هو ماء الرَّجل الخارج دفقا بلذة. والرحم: بيت الولد. ويشرف: (يعني: الغيث الذي هو المطر) يقرب.
وقوله: "أزلين" لأزل بسكون الزاي: الشدة، والأزل على وزن
(1) في (ب): لمقامتها. تم ضبط الألفاظ من "زاد المعاد (3/ 678) فما وضع بين القوسين فهو زيادة منه والحذف والإصلاح بدون رقم.
كَتِف هو الذي قد أصابه الأزل، واشتد به حتى كاد [يسقط](1).
قوله: "فيظل يضحك" هذا من صفاتِ أفعاله تعالى التي لا يشبهه فيها شيء من مخلوقاته كصفات ذاته، وكذا "فأصبح ربكَ يطوف في الأرض""وجاء ربُّك"، وجميع ما ثبت بالكتاب والسنة الصَّحيحة فأهل الأثر، وجميع السلف يؤمنون به، ويكلونه إليه سبحانه من غير تحريف، ولا تعطيل، ولا تشبيه، ولا تمثيل إذ هم جازمون بأن ليس كمثله شيء لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أقواله، ولا في أفعاله فالمشبه يعبد صنمًا والمعطل يعبد عدمًا، وعلماء: الخلف يؤوّلون ذلك، وأبت الجهميةُ إلَّا التَّعطيل. فعليهم ما يستحقون من المولى الجليل.
والجسر: الصراط. وقوله: "حس" كلمة يقولها الإنسان إذا أصابه على غفلة ما يحرقه، أو يؤلمه: قال الأصمعي رحمه الله: وهي مثل أوه.
وقوله: "يقول ربك أو أنه" قال ابن قتيبة: فيه قولان أحدهمَا: أنْ يكون "أونه"(2) بمعنى: نعم، والآخر: أنْ يكون الخبرُ محذوفًا كأنَّه قال: أنتم كذلك أو أنه على ما يقول.
والطوف: هو الغائط، ومنه "لا يُصلِّ أحدكم وهو يدافع الطوف، والبول"(3). وفي "النهاية" ما نصه قوله: "مما يبسط [واحد
(1) في "الهدي" يقنط.
(2)
في (ب): أوانه، وما أثبت من "الهدى".
(3)
أبو عبيد في "غريب الحديث"(4/ 214)، و"الفائق"(2/ 92).
منكم] (1) يَدَهُ إلَّا وقَعَ عليها قدح مطهرة من الطوت والأذى". الطوف: الحدث من الطَّعام، والمعنى أنَّ مَنْ شربَ تلك الشَّربة طهر من الحدث، والأذى. وأنث القدح؛ لأنَّه ذهبَ بها إلى الشَّربة، ومنه الحديث: "نهى عن متحدثين على طوفهما". أي: عند الغائط انتهى (2).
وقوله: "فلعمر إلهك" هو قسم بحياةِ الرب جل جلاله، وفيه جواز القسم بصفاته، وانعقاد اليمين بذلك، وأنَّها قديمة. وقوله:"ثمَّ تجيء الصائحة". يعني: صيحة البعث، ونفخته. وقوله:"حتى يخلف من عند رأسه"(3) هو مِن أخلف الزرع إذا نبت بعد حصاده شبه النشأة الآخرة بإخلافِ الزَّرع بعد (إحصاده)(4) وتلك الخلفة من عند رأسه كذا هنا، والذي في "صحيح مسلم" يدلُّ على أنَّ الإنسانَ ينشأ مِنْ عجم الذنب كما تقدم، فأخرج مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس من الإنسان شيء إلَّا يبلَى إلَّا عظم واحد وهو عجم الذنب ومنه يركب الخلق يومَ القيامة"(5) وأخرجه أبو
(1) غي النسخ: أحدكم، وهو يوافق ما في "الغريبين" للهروي (4/ 1187) وأيضًا "النهاية"(3/ 143).
(2)
انظر: "النهاية في غريب الحديث والأثر" 3/ 142 - 143.
(3)
وفي متن الحديث تجعله.
(4)
في (ب): حصاده. وفي "الهدي": ما حصد.
(5)
رواه البخاري (4935) في التفسير، باب: يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجًا، ومسلم (2955) في الفتن وأشراط الساعة، باب: ما بين النفختين، والحديث الذي بعده أخرجه مسلم (2955).
داود، والنسائي (أيضًا)(1)، وأخرج عنه أيضًا مرفوعًا "كلّ ابن آدمُ يأكله التراب إلَّا عجم الذنب منه خلق، ومنه يركب" وقد قدمت الكلام على ذلك بما لعله يشفى ويكفي.
قلت: والذي يظهر لي في الجمع بين الأحاديث النبوية، والآثار المحمدية أن الإنسانَ يركب خلقه يوم القيامة من عجم الذنب بلا ريب، ثُمَّ إذا تم خلقه، ونفخ سيدُنا إسرافيل في البوقِ، ورجعت الأرواح إلى أجسادِها دخلت الأرواح في الأجساد من قبل الرأس وبها يزول الإشكال - إن شاء الله تعالى - وقد قدَّمنا (2) في حديث أبي هريرة الطويل أنَّ الله تعالى يرسل مطرًا على الأرض فينزل عليها أربعين يومًا حَتَّى يكون فوقهم اثنى عشر ذراعًا فيأمر الله الأجساد أن تنبت كنبات البقل (أي: وذلك النبات يتركب من عجم الذنب) (3) - حَتَّى إذا تكاملت أجسادهم كما كانت قال الله تعالى: "ليحي حملة العرش ليحي جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل" ثمَّ يأمر الله تعالى إسرافيل فيأخذ الصور فيضعه على فيه، ثُمَّ يدعوا الأرواح فيؤتى بها تتوهج أرواح المؤمنين نورًا، والأخرى ظلمة فيقبضها جميعًا، ثُمَّ يلقيها في الصور، ثُمَّ يأمره أن ينفخ نفخة البعث فتخرج الأرواح كلها كأنَّها النحل قد ملأت ما بين السماء والأرض، ثُمَّ يقول الله تعالى: "وعزتي وجلالي لترجعن كلّ روح إلى جسدها فتدخل الأرواح في الخياشيم، ثُمَّ
(1) في (أ): هنا.
(2)
ص 734 ت (1).
(3)
زيادة من (ب).
تمشي في الأجسادِ مشي السم في اللديغ، ثُمَّ تنشق الأرض عنكم سراعًا" الحديث هذا ما ظهر لي من الجمع على ما فيه والله أعلم.
وقوله: "فيستوي جالسًا" أي عند تمام خلقه بعد نفخ الروح فيه. وقوله: "يقول: يا رب أمس اليوم" استقلالًا لمدة لبثِهِ في الأرض وكأنَّه لبثَ فيها يومًا فقال: أمس بعض يوم فقال: اليوم يحسب أنَّه حديث عهد بأهله فكأنَّه إنَّما فارقهم أمس أو اليوم وقوله: "فيقول ربك عز وجل: مهيم؟ أي: ما شأنك، وما أمرك، وفيم كنت؟ "
قال في "النهاية": وهي كلمة يمانية (1)، وفي قول لقيط:"كيف يجمعنا؟ إلخ" رد على زاعمي عدم تدقيق الصَّحابة، وأنَّهم لم يكونوا يخوضون في دقائق المسائل، وأنَّ أفراخ الصّابئة، والمجوس، مِنَ الجهمية، والمعتزلة، والقدرية، وذويهم أعرفُ منهم بالعلميات ولعمري لقدْ اجترأ زاعمُ ذلك على ربِّه ومنصب أصحاب المصطفى أجلُّ، وأرفع، وأحصن (2)، وأمنع، من أن يُذكر هؤلاء الملاحدة في حيزه كيف وهم الذين فسروا الكتاب، واستنبطوا الشرائع من تلك الآيات العجاب، ولكن مَنْ لم يَجْعل الله له نورًا فما له من نور.
قال في "الهدي"(3): وفي هذا السؤال دليل على أنه سبحانه يجمع أجزاء العبدِ بعدما فرقها، وينشئها نشأة أخرى، ويخلقه خلقًا جديدًا كما سمَّاه في كتابه، وقد مرَّ الكلام على ذلك مبسوطًا، وفي هذا السؤال أيضًا إثبات القياس في أدلة التوحيد، والمعاد والقرآن مملوء
(1)"النهاية في غريب الحديث والأثر" 4/ 378.
(2)
في (ب): وأخص.
(3)
(3/ 681).
منه وفيه أنَّ حكم الشيء حكم نظيره وأنه سبحانه إذا كان قادرًا على شيء فكيف يعجز عن نظيره؟
وقوله: "في الأرض أشرفت عليها وهي مدرة" أي بالية.
وقوله: "فتنظرون إليه، وينظر إليكم" فيه إثبات صفة النظر لله عز وجل، واثبات رؤيته في الآخرة.
وقوله: "كيف ونحن ملءُ الأرض وهو شخص واحد؟ " قد جاء في هذا الحديث، وفي حديث آخر:"لا شخص أغير من الله" والمخاطبون بذلك قوم عرب يعلمون المرادَ منه فلا يقع في قلوبهم تشبيهه سبحانه بالأشخاص بل هم أشرف عقولًا، وأصح أذهانا، وأسلم قلوبًا من ذلك، وحقق صلى الله عليه وسلم وقوع الرؤية عيانًا" برؤية الشمس والقمر تحقيقًا لها، ونفيًا لتوهم المجاز الذي يظنه المعطلون.
وقوله: "فيأخذ ربُك بيده غرفة من الماء" فيه بيانُ صفةِ اليد له سبحانه لكن نؤمن بذلك كما أخبر لا كما يخطر (للبشر في أوهام)(1) بل نمرها كما جاءت هذا مذهب السلف، وعند الخلف التأويل لذلك بالقدرة، وفي محلات النعمة. وأنا أسلم من فرث المشبهة، ودم المعطلة إن شاء الله وأسلك طريق السَّلف من غير تفسيرٍ لشيءٍ لم يفسروه رضوان الله عليهم أجمعين.
(1) في (ب): في أوهام البشر.
أقول وبالله التوفيق ومنه استمد العون والتسديد مذهب أهل السنة والجماعة إثبات اليد حقيقية لله عز وجل كما وصف بها نفسه في كتابه من غير تأويل ولا تشبيه ولا تمثيل ولا تعطيل، كلما يليق بجلاله عز وجل.
و"الريطة": الملاءة و"الحمم": جمع حممة الفحمة. وقوله: "ثُمَّ ينصرف نبيكم" أي: مِنْ موقف القيامة إلى الجنَّة. وقوله: "فيفرق على أثره الصالحون" أي يفزعون، ويمضون على أثره.
وقوله: "فتطلعون على حوض نبيكم" ظاهره أنَّ الحوض من وراء الجسر فكأنهم لا يصلون إليه حتى يقطعوا الجسر، وللسلف في ذلك قولان: قيل: وراءه بدليل هذا الحديث، وقيل: في الموقف بدليل ما قدمنا، وحقق في "الهدي"(1)، وتبعه السيوطي أنه لا تنافي بين أحاديث النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، وكلا الحديثين صحيح فإنَّ طولَ الحوضِ شهر، وعرضه شهر، وإذا كان بهذا الطول، والسعة فما الذي يحيل امتداده إلى وراء الجسر فيرده المؤمنون قبل الصراط وبعده؟ " فهذا في حيز الإمكان، ووقوعه موقوف على خبر الصَّادق وقدمنا ما فيه كفاية في محله.
وقوله: "على أظمأ والله ناهلة""الناهلة": العطاش الواردون للماء أي: يردون الحوضَ أظمأماهم إليه، وهذا الظمأ من مرورهم على الصراط.
وقوله: "وتخنس (2) الشمس والقمر" أي: يخفيان فلا يريان، والانخناس: التواري، والإخفاء، ومنه قوله تعالى:"من شر الوسواس الخناس". قال الزجاج: هو الشيطان جاثُمَّ على قلب الإنسان فإذا ذكر الله خنس، وإذا غفلَ وسوس.
(1)(3/ 682).
(2)
في (ب): نخس.
وفي الحديث انتفاء الولادة وهو المدعى وقول لقيط رضي الله عنه: "أقصى ما نحن بالغون ومنتهون إليه" لا جواب لهذه المسألة؛ لأنَّه إنْ أراد أقصى مدة (1) الدُّنيا، وانتهائها فلا يعلم ذلك إلَّا الله، وإنْ أرادَ أقصى ما نحن منتهون إليه بعد دخول الجنَّة والنار فكذلك فلا تعلم نفس ما أخفي لهم ولهذا لم يجبه صلى الله عليه وسلم وفيه أن المشركين في النَّار وإنْ ماتوا قبل البعثة والله تعالى أعلم.
فإنْ قلتَ: أيّ القولين اعتمدت عدم الولادة في الجنَّة أم هي فإنك ذكرت لنا قولين بأدلتهما.
قلت: الذي أذهب إليه عدم الولادةِ فيها اقتفاء للآثارِ الصَّحيحة، والأخبار الصريحة إذ هو أرجح وأصح من مقابله لعشرة أوجه.
أحدها: هذا الحديث الصريح الثابت الصحيح.
الثاني: قوله تعالى: {وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ} [البقرة: 25]، وهنَّ اللاتي طهرن منَ الحيض، والنفاس، والأذى. قال سفيان عن مجاهد: مطهرة من الحيض، والغائط، والبول، والنخام، والبصاق والمني والولد، وقال عطاء: أزواج مطهرة من الولد والحيض والغائط والبول.
الثالث: قوله صلى الله عليه وسلم: "غير أنه لا مني ولا منية" والولد إنَّمَا يخلق من
(1) في (ب): عدة.
المني فإذا لم يكن هناك مني، ولا نفخ في الفرج لم يكن هناك إيلاد.
الرابع: أنَّه قد ثبتَ في الصحيح عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "يبقى في الجنَّة فضل، فينشئ الله لها خلقًا يسكنهم إياها"(1) ولو كان في الجنَّة إيلاد، لكان الفضل لأولادهم.
الخامس: إنَّ الله تعالى جعل الحملَ (2) والولادة مع الحيض، والمني فلو كن النساء يحبلن في الجنَّة لم يقطع عنهنَّ الحيض والإنزال.
السادس: إنَّ الله تعالى قدر التناسلَ في الدُّنيا؛ لأنَّه قدر الموت، وأخرجهم إلى هذه الدار قرنًا بعد قرن، وجعل لهم أمدًا ينتهون إليه فلولا التناسل لبطل النوع الإنساني، ولهذا الملائكة لا تتناسل فإنَّهم لا يموتون كما تموت الإنس والجن بل كلَّما عدم منهم أحد وجد مكانه من غير نكاح، ولا تناسل والظاهر أنَهم إنَّما يموتون مع نفخةِ الفزع وإياك أن يذهب وهمُك إلى عدم موتهم فإنَّ كلّ نفس ذائقة الموت فإذا كان يوم القيامة أخرجَ الله سبحانه الناس كلَّهم من الأرض، وأنشأهم للبقاء لا للموت فلا يحتاجون إلى تناسل لحفظ النَّوع الإنساني إذ هو منشأ للبقاء، والدوام فلا أهل الجنَّةِ ولا أهل النَّار يتناسلون.
السابع: أنه سبحانه قال: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الطور: 21]، أخبر أنَّه يكرمهم بإلحاق ذرياتهم
(1) رواه مسلم (2848) كتاب: في الجنَّة وصفة نعيمها وأهلها، باب: النار يدخلها الجبارون، والجنَّة يدخلها الضعفاء.
(2)
في (ب): الحل.
الذين كانوا لهم في الدُّنيا بهم في الآخرة ولو كان ينشئ لهم في الجنَّة ذرية أخرى لذكرهم كما ذكر ذريتهم الذين كانوا في الدُّنيا؛ لأنَّ قرةَ عيونهم كانت تكون بهم كما هي بذرياتهم من أهل الدُّنيا.
الثامن: إمَّا أنْ يقالَ باستمرار التناسل فيها أو إلى غاية، ثُمَّ ينقطع وكلاهما باطل أمَّا الأول: فلاستلزامه اجتماع أشخاص لا تناهي لها وأمَّا الثاني: فلاستلزامه انقطاع نوع من لذة أهل الجنَّة، وسرورهم لا يقال: يتناسل (1) يموت نسل، ويخلفهم نسل إذ لا موت ثَمَّ.
التاسع: إنَّ الجنَّة لا ينموا فيها الإنسان كما ينمو في الدُّنيا فلا ولدان أهلها ينمون ويكبرون، ولا الرِّجال ينمون بل هؤلاء ولدان صغار لا يتغيرون، وهؤلاء أبناء ثلاث وثلاثين لا يتغيَّرون فلو كانَ في الجنَّة ولادة لكان المولود ينمو ضرورة حتَّى يصير رجلًا ومعلوم أنَّ مَنْ مات من الأطفال يردون أبناء ثلاث وثلاثين سنة من غير نمو يوضحه الوجه العاشر: إن الله سبحانه وتعالى ينشئ أهل الجنَّةِ نشأة الملائكةِ أو أكمل من نشأتهم بحيث لا يبولون، ولا يتغوطون، ولا ينامون، ولا يهرمون على تطاول الأحقاب، ولا تنمو أجسادهم يُلهمون التَّسبيح كالنَّفَسِ من غير كلفة.
فإن قلت: ماذا تقول في قول الأستاذِ أبي سهل (2) فيما نقله عنه
(1) في (ب): تناسل.
(2)
ذكره البيهقي في "البعث" حديث (398).
الحاكم أنَّه قال: أهل الزيغ ينكرون هذا الحديث (يعني حديث الولادة في الجنَّة) وقد روي فيه غير إسناد وسئل النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: يكون ذلك على نحو ما أسلفنا. قال: وهذا الله يقول: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ} [الزخرف: 71]، وليس بالمستحيل أن يشتهي المؤمن الممكن من شهواته، وقرة عين، وثمرة فؤاد؟ قلنا: النافون (1) لِلْولادةِ في الجنَّة لم ينفوها لزيغ في قلوبهم بل لثبوت الأحاديث، والآثارِ التي ذكرناها وأقوال السلف والخلف، نعم للعلماء في ذلك مذهبان وقد ذكرناهما. وحديث أبي سعيد أجود أسانيده إسناد الترمذي (2)، وقد حكم عليه بالغرابة وأنَّه لا يعرف إلَّا من حديث أبي الصديق الناجي وقد اضطرب لفظه فتارة يروي عنه:"إذا اشتهى الولد" وتارة: "إنَّه يشتهي الولد" وتارة "إن الرَّجلَ مِنْ أهل الجنَّةِ ليولد له" وقوله: "إذا اشتهى الولد" معلق بالشرط ولا يلزم مِنَ التَّعليق وقوع المعلق، ولا المعلق به وإذا كانت ظاهرة في المحقق فقد تستعمل لمجرد التعليق الأعم من المحقق، وغيره.
قال في "حادي الأرواح"(3) بعد ذكره للقولين مع ترجيح عدم الولادة وذكر حديث أبي سعيد: إن كان النَّبىّ صلى الله عليه وسلم قد قاله فهو الحق الذي لا شك فيه. وهذه الألفاظ لا تنافي بينها ولا تناقض
(1) في (ب): الناقلون.
(2)
انظر ص 1171، 1172.
(3)
"حادي الأرواح" ص 357، انظر ص 1171.
وحديث أبي رزين "غير أن لا توالد" إن ذلك ينفي التوالد المعهود في الدنيا ولا ينفي ولادة حمل الولد فيها ووضعه وسنه وشبابه في ساعة واحدة فهذا ما انتهى إليه علمنا القاصر في هذه المسألة. انتهى.
وأنا أقول كما قال: الذَّي قاله المصطفى وثبت عنه هو الصَّحيح وإذا نظرنا النظر التام رأينا أنَّ علماءَ الإسلامِ قد صححوا حديث لقيط، وجزموا به، وحكموا على حديث أبي سعيد بالغرابة، والاضطراب والله أعلم بالصَّواب.