الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من لم يبت والحب حشَو فؤادِه
…
لم يدر كيف تفتت الأكباد (1)
وبلغ من أمره أنَّه لما مرض رفع ماؤه إلى الطبيب فلما رآه الطبيب قال: هذا عاشق فصعق حامل الماء وغشي عليه.
وقال ذو النون: من شغل قلبه ولسانه بالذكر، قذف الله في قلبه نور الاشتياق إليه (2).
قال الحسن: من عرف الله أحبه، وإذا تمكنت المعرفة أوجبت المحبة وأخرجت كل محبوب سواه من القلب، ومتى تمت المحبة نمت فظهر على الأبدان آثارها كما يظهر على الأرض أزهارها. والله أعلم.
وفي الباب أخبار كثيرة جدًا وإنما نشير إلى بعض الأصول فافهم معانيها تصُلْ وتهيأ للوصول.
المقصد الثاني: في علامات المحبة الصادقة والتذاذ المحبين بها
.
قال الله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] وقال: {مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة: 54].
فوصف سبحانه أهل المحبة بخمسة أوصاف.
أحدها: أنهم أذلة على المؤمنين، والمراد لين الجانب وخفض
(1) رواه أبو نعيم في "الحلية" 10/ 119، 315، والبيهقيُّ في "الشعب" 1/ 385 (489).
(2)
"حلية الأولياء" 9/ 379، والبيهقيُّ في "الشعب" 1/ 513 (885).
الجناح والرأفة والرحمة للمؤمنين كما قال لرسوله: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 215] ووصف أصحابه رضي الله عنهم بمثل ذلك في سورة الفتح في قوله: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29].
وهذا يرجع إلى أن المحبين له سبحانه يحبون أحباءه ويعودون عليهم بالرأفة والعطف والرحمة بهم واللطف.
الثاني: العزة على الكافرين، والمراد: الشدة والغلظة عليهم كما قال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التحريم: 9] وهو يرجع إلى أن المحبين له يبغضون أعداءه، وذلك من لوازم المحبة الصادقة، فقد أجرى الله العادة بأن محب المحبوب محبوب، وعدوّه عدوّ، ومحبّ العدوّ عدوّ ومبغضه محبوب.
كما قال بعضهم:
إذا صافى صديقك من تعادي
…
فقد عاداك وانفصل الكلام
والثالث: الجهاد في سبيله سبحانه وهو مجاهدة أعدائه باليد واللسان، وهو من تمام معاداة أعداء المحبوب.
والرابع: أنهم لا يخافون لومة لائم.
والمراد: أنهم يجتهدون فيما يرضي المحبوب من الأعمال، ولا يتبرمون بلوم من لام في ذلك رضي من رضي أو غضب من غضب؛ إذ مطلوب المحب رضى المحبوب وهذا من علامات المحبة الصادقة؛ بأن يشتغل المحب بما يرضي حبيبه ومولاه ولا ينظر إلى من سخط سواه.
ولذا قيل من شرب من كأس المحبة وقف مع مراد محبه، ولقد أحسن من قال:
وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي
…
متأخر عنه ولا متقدم
أجد الملامة في هواك لذيذة
…
حياء لذكرك فليلمني اللُّوَّمُ
والخامس: متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم وهو طاعته وامتثال ما أمر به واجتناب ما نهى عنه، والوقوف عند هديه من غير تحريف ولا إلحاد.
قال الحسن: كان ناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: يا رسول الله إنا نحبّ ربنا حبًّا شديدًا فأحب الله أن يجعل لحبه علمًا فأنزل الله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} (1)[آل عمران: 31] الآية.
والحاصل أنَّه لا يوصل إلى الله تعالى إلا من طريق رسوله محمَّد صلى الله عليه وسلم باتباعه وطاعته، كما قال الجنيد قدس الله روحَه: الطرق إلى الله مسدودة إلا من اقتفى أثر الرسول صلى الله عليه وسلم (2)، ومن ثَمَّ قال شيخ الإِسلام قدَّس الله روحه: من زعم أنَّه يصل إلى الله من غير طريق الرسول، أو أنَّه لا يحتاج إلى هديه، أو أن من عرف الله لا يلزمه اقتفاء أثره فقد كفر.
ولقد وقفت على كلام أناس ممن زعم أنَّه عرف الله، وأنه من أهل الحقيقة لا يشبه كلام أهل الإِسلام بل سمعت كلامًا من بعض
(1) ذكره ابن رجب في "جامع العلوم والحكم" 1/ 212.
(2)
رواه أبو نعيم في "الحلية" 10/ 257.